• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الظن (1442-1443هـ) .
              • الموضوع : 054-دفاعاً عن الشيخ :الفرق بين الفتوى والاحتياط .

054-دفاعاً عن الشيخ :الفرق بين الفتوى والاحتياط

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(54)

صور الاحتياط المتشابكة في الوضوء بغسالة الحدث الأكبر

تتمة:ولكن لا بد لنا من تقوية كلام الشيخ أولاً بما ذكره هو (قدس سره) ثم مناقشته ثم الدفاع عنه إذ قال بعد كلامه الذي نقلنا آنفاً (توضيح ذلك: أنّ الاحتياط في مسألة التطهير بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر([1])، تركُ التطهير به، لكن قد يعارضه في الموارد الشخصية احتياطات أُخر، بعضها أقوى منه وبعضُها أضعف وبعضها مساوٍ، فإنّه قد يوجد ماءٌ آخر للطهارة، وقد لا يوجد معه إلا التراب، وقد لا يوجد من مطلق الطهور غيره، فإنّ الاحتياط في الأول هو الطهارة من ماءٍ آخر لو لم يزاحمه الاحتياط من جهةٍ أخرى، كما إذا كان قد أصابه ما لم ينعقد الإجماع على طهارته. وفي الثاني هو الجمع بين الطهارة المائية والترابيّة إن لم يزاحمه ضيق الوقت المجمع عليه.

وفي الثالث الطهارة من ذلك المستعمل والصلاة إن لم يزاحمه أمرٌ آخر واجب أو محتمل الوجوب.

فكيف يسوغ للمجتهد أن يُلقي إلى مقلّده أنّ الاحتياط في ترك الطهارة بالماء المستعمل مع كون الاحتياط في كثيرٍ من الموارد استعمالُه فقط أو الجمع بينه وبين غيره.

وبالجملة: فتعليم موارد الاحتياط الشخصية وتعلّمها - فضلاً عن العمل بها - أمرٌ يكاد يلحق بالمتعذّر، ويظهر ذلك بالتأمل في الوقائع الاتفاقية)([2]).

وتوضيحه: أما قوله: (لو لم يزاحمه الاحتياط من جهةٍ أخرى، كما إذا كان قد أصابه ما لم ينعقد الإجماع على طهارته) فذلك كما لو كان فاضل سؤر الهرة أو الفأرة، بأن شربت من هذا الإناء، فان الإجماع غير منعقد على طهارته لأن الاخباري يرى نجاسة المسوخ، ومنها الفأرة، استناداً إلى أكثر من رواية كما يرى نجاسة السباع مطلقاً، ومنها الهرة، استناداً إلى مرسلة يونس.

وأما قوله: (وفي الثاني...) فلأنه لا تصل النوبة للترابية مع وجدان المائية لقوله تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعيداً طَيِّباً)([3]) ولكن مع ذلك نحتاط بالجمع بينهما لاحتمال كون غُسالة الحدث الأكبر بمنزلة الفقدان شرعاً فنجمع احتياطاً للوصول إلى امتثال التكليف الواقعي أيهما كان إلا لو زوحم بضيق الوقت عن جمعهما.

وأما قوله: (إن لم يزاحمه أمرٌ آخر واجب أو محتمل الوجوب) فأما الأمر الواجب فهو: كسقي واجب النفقة عليه لو انحصر الماء به، من الداجن الذي دخل في كفالته فانه مقدم على الوضوء به فيشمله (فَلَمْ تَجِدُوا...) واما محتمل الوجوب فكالهرة أو مطلق الداجن السائب الذي لم يدخل في عيلولته فانه يحتمل وجوب سقيه مع عطشه بما يتضرر إما مطلقاً أو كثيراً جداً لو لم يسقه، فلا تصل النوبة للوضوء الاحتياطي.

ولكن يرد على قوله: (فكيف يسوغ...) انه لا يسوغ له الإهمال بل عليه التفصيل كما فصّل الشيخ الآن بذكر صور المسألة فكذلك تلقى للسائل أو بتحديد حالته هو وجوابه عن الصورة التي هو عليها.

الحل بعدم لزوم العسر والحرج

ولا يلزم من ذلك العسر والحرج ولا ما ذكره بقوله: (وبالجملة: فتعليم موارد الاحتياط الشخصية وتعلّمها - فضلاً عن العمل بها - أمرٌ يكاد يلحق بالمتعذّر، ويظهر ذلك بالتأمل في الوقائع الاتفاقية) وذلك لأن المجتهد ليس مكلفاً إلا بان يوصل بنحو من أنحاء الإيصال، فيكفي ان يكتب تفصيل الاحتياط في رسالته العملية، كما يكفي ان يتخذ وكلاء، في مكتبه أو في المساجد أو عبر الأجهزة الحديثة، يجيبون على المسائل، وأما المقلد فلأن في متناوله الرسالة العملية أو الوكيل، فذلك في مثل هذه الأزمنة ليس بالمتعسر كما هو المشاهد خارجاً.

والنقض بالفتاوى

سلّمنا: لكنه كما سبق نقضنا بـ(ولكن قد يناقش هذا الإشكال الثاني الذي ذكره الشيخ؛ بالنقض بوجوب تعلمه أي العامي الواجبات والمحرمات وتعليم المجتهد له، فما يقال في تعليمها وتعلمها يقال في تعليم موارد الاحتياط وتعلمه، وذلك لأنه (يجب تعلم المسائل التي يبتلى بها غالباً) وهي منتشرة بين عشرات الألوف من المسائل المتوزعة بين واجب ومستحب ومحرم ومكروه وجائز وبين ما يبتلى به وما لا يبتلى به، ومع ذلك لم يلزم من تعليمها وتعلمها العسر والحرج، أما المجتهد فلأنه يكتب المسائل في رسالته العملية ثم ينتصب للجواب على أسئلة المقلدين شفوياً مباشرة أو عبر وكلائه ولم نجد استلزام ذلك لإيقاعه في العسر والحرج، وأما المقلد فلأن عليه ان يتعلم أوليات المسائل ثم بعد ذلك عليه سؤال العالم بها (من الوكيل أو إمام الجماعة أو غيرهما) فما يقال في تعلم المسائل التي يبتلى بها غالباً يقال في تعلم الاحتياطات التي يبتلى بها غالباً. فتأمل)([4]).

صُوَر دخول الربا في العملة الورقية وعدمه

ولتوضيح هذا النقض نزيد عليه بمثال من دائرة الفتوى متعدد الأطراف مضارع لمثاله من دائرة الاحتياط، فنقول: المسائل الـمُفتى بها أيضاً، مثل هذه المسألة الاحتياطية، كثيراً ما تكون معقدة متشابكة الأطراف، وذلك كالكثير من مسائل الربا ولنكتف ههنا بالإشارة إلى إحداها وهي مسألة بيع النقود الورقية متفاضلاً بان يشتري ألف دينار جديد بألف ومائة دينار رديء وملوث، فهل هو ربا أم لا؟.

الظاهر التفصيل فإن قلنا بان (العملة الورقية) حوالة على الغطاء والخلفية، من دون ان تكون لها موضوعية وشخصية استقلالية، فالأمر مرتهن بنوع ذلك الغطاء، أ- فإن كان الذهب أو الفضة، دخله الربا، ب- وإن كان البترول أرتهن كونه ربا بكونه معدوداً، بالبراميل، فلا يدخله الربا، أو مكيلاً لأن البرميل نوع كيل فيدخله، ج- وإن كان الثروات الطبيعية من غابات وأنهار وجبال وطبيعة ساحرة.. الخ، لم يدخله الربا لأنها ليست من المكيل والموزون، د- وإن كانت الخلفية هي اليد العاملة فكذلك، هـ- وإن كانت الخلفية والغطاء مجموع ذلك، كما هو كذلك إذ ان كافة العناصر السابقة تؤثر في قوة العملة وضعفها ولذا نجد انه إذا ضربت الأعاصيرُ الطبيعةَ بقوة انخفضت قيمة العملة، وكذلك إذا استمرت إضرابات العمال لفترة انخفضت العملة، أو انخفضت ذخائر البنك المركزي من الذهب أو شبه ذلك، أقول فإن كانت الخلفية هي سلة من معدودات ومكيلات وموزونات فقد يقال بصحة المعاملة إذا قصد التغاير بين الثمن والمثمن بان يقصد بيع غطائه (خلفية) المعدود بمكيل الطرف الآخر أو العكس أو يقصد المجموع في مقابل المجموع لكن على نحو تقابل المتغايرات لا تقابل المكيلات والموزونات.

وذلك على العكس مما لو قلنا بان للنقد قيمة موضوعية وكونه مما ينظر إليه استقلالياً لا آلياً، وذلك([5]) صحيح على مستوى الاقتصاد الجزئي دون الكلي؛ إذ ان الأمر على مستوى الاقتصاد الكلي كما سبق من تأثر النقد بأوضاع الغطاء فهو حوالة عليها، أما على مستوى الاقتصاد الجزئي فلا؛ ولذا نجد انه إذا احترقت عملته (الدينار، الدولار، الريال... الخ) فانه لا يمكن له ان يطالب المصرف بتعويضه بدعوى ان النقد حوالة على تلك الخلفية، عكس الحوالة والشيكات التي إذا احترقت كانت له المطالبة بغيرها مما يكشف عن كونها آلية صرفة، وعلى أيٍّ فعلى مستوى الاقتصاد الجزئي فان الظاهر ان العملة الورقية لها الموضوعية وتباع وتشترى بما هي هي، فعليه: لا يدخلها الربا لأنها من المعدود حينئذٍ، ولا فرق على هذا بين ان يبيع عملة بلده بعملة بلد آخر أو بعملة بلده نفسها.

والشاهد: ان التعقيد في مثل هذه المسألة مما قد يفتي الفقيه بها على حسب صورها المختلفة ليس بأقل من التعقيد في تلك المسألة الاحتياطية التي ذكرها الشيخ، فان غالب الناس يصعب عليهم فهم هذه التفاصيل والدقائق، بل حتى من يفهم فانه قد يصعب عليه ان يستذكر وقت الحاجة هذا.

دفاعاً عن الشيخ: الفرق بين الفتوى والاحتياط

ولكن لنا ان ندافع عن الشيخ: بالفرق بين الفتوى والاحتياط، بعد تسليم العسر والحرج في تعلم كافة مسائلهما المبتلى بها؛ لبداهة أنّ تَعَلّم المآت إن لم يكن الألوف من المسائل صعب وعسر على عامة الناس خاصة العوام، بل قد تصعب أحياناً على الطالب بل حتى الطالب الفاضل، واعتبِر ذلك بمسائل الحج التي يصعب على العامة جداً تعلمها، واعتبر أيضاً بالمدارس فان التعلم في كافة مراحله، من الابتدائية إلى الجامعة، شاق ومرهق، نعم المصلحة الملزمة فيه الجأتنا إليه، وإلا فلا شك في انه مرهق لغالب الطلبة فهماً وحفظاً ووقتاً... الخ.

والحاصل: ان الظاهر ان العسر والحرج في تعلم المسائل المبتلى بها، بدءً من الصلاة والصوم والحج والزكاة والخمس ووصولاً إلى البيع والإجارة والرهن... وانتهاءً بأبواب الإرث والقصاص والديات، من أصعب الأمور مما لا شك في كونه عسراً وحرجاً، إلا ان هنا فرقاً بين الفتاوى والاحتياطات:

العسر في تعلم الفتاوى غير مرفوع لورود الحكم مورد الحرج

ففي الأولى نلتزم بوجوب تعلمهما لورود أدلة تعلمهما مورد الحرج فلا يرفعها دليل لا حرج كقوله تعالى: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)([6]) فان التفقه مأمور به وهو عادة حرجي والتقليد المستفاد من (وَلِيُنْذِرُوا) و(لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) كذلك، وكذلك قوله (عليه السلام): ((اجْلِسْ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَأَفْتِ النَّاسَ فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يُرَى فِي شِيعَتِي مِثْلُكَ))([7]) وكذلك الاعتراض على الجاهل بـ(أَفَلَا عَمِلْتَ...) وتمام الرواية هو: كما في ((الأمالي للشيخ الطوسي: الْمُفِيدُ عَنِ ابْنِ قُولَوَيْهِ عَنْ مُحَمَّدٍ الْحِمْيَرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ هَارُونَ عَنِ ابْنِ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام) وَقَدْ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَبْدِي أَكُنْتَ عَالِماً؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ لَهُ: أَفَلَا عَمِلْتَ بِمَا عَلِمْتَ؟ وَإِنْ قَالَ: كُنْتُ جَاهِلًا قَالَ لَهُ: أَفَلَا تَعَلَّمْتَ حَتَّى تَعْمَلَ فَيُخْصَمُ فَتِلْكَ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ))([8]) وكلما ورد مورد الحرج لا ترفعه لا حرج.

أما في الاحتياط فمرفوع

وذلك على العكس من الاحتياط الذي لم يدل عليه دليل نقلي تام نقي السند والدلالة، غاية الأمر انه عند انسداد باب العلم والعلمي يدلّنا العقل عليه خروجاً عن عهدة التكليف الإجمالي القطعي، ولكنّ دليل (لا حرج) حاكم على هذا الدليل العقلي لا العكس، وذلك لأنه حكم تعليقي أي ان العقل يحكم بوجوب الاحتياط إذا لم يمتنّ الشارع على عبيده بعدم إيجابه، ودليل (لا حرج) امتناني فيفيد رفع هذا الحكم العقلي التعليقي. فتأمل وللبحث صلة بإذن الله تعالى.

وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((نَضَّرَ([9]) اللَّهُ عَبْداً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ‏‏)) (الكافي: ج1 ص403)


-----------------
([1]) مع فرض تطهير موضع النجاسة من قبل كما هو واضح.

([2]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص405.

([3]) سورة النساء: الآية 43، وسورة المائدة: الآية 6.

([4]) الدرس (53).

([5]) انه ينظر إليه استقلالياً مع قطع النظر عن غطائه.

([6]) سورة التوبة: الآية 122.

([7]) أحمد بن علي النجاشي، رجال النجاشي، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم: ص10.

([8]) الشيخ الطوسي، الأمالي، دار الثقافة للنشر ـ قم: ص9.

([9]) نَضَره ونَضَّره وأَنْضَره: أَي نَعَّمَه، يروى بالتخفيف والتشديد من النَّضارة، وهي في الأَصل حُسْن الوجه والبَرِيقُ، وإِنما أَراد حُسْنَ خلُقِه وقَدْرِه‏. (لسان‏ العرب: ج5 ص 212).

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=4045
  • تاريخ إضافة الموضوع : الثلاثاء 7 جمادى الآخرة 1443هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19