• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : البيع (1442-1443هـ) .
              • الموضوع : 548-الاستدلال بدليل الانسداد الصغير على حجية الظنون النقلية فقط .

548-الاستدلال بدليل الانسداد الصغير على حجية الظنون النقلية فقط

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(548)

سبق: (الثالث: ما نطرحه من أن قلم التكليف وضع أولاً على الجميع، من البالغين والصبيان المميزين والذي إليه تشير روايات جري القلم كالرواية أعلاه، ثم أنه رفع هذا القلم عن الصبيان المميزين ببركة حديث الرفع، وحيث كان حديث الرفع امتنانياً دلّ على رفع الإلزام خاصة إذ لا منّة في رفع الإستحباب الذي به يُستحق الثواب من دون أن يترتب على المخالفة العقاب.

وبعبارة أخرى: حديث جري القلم على الصبي في الثالثة عشرة يفيد جري قلم الأحكام الخمسة عليه، وأما حديث الرفع فإنه يرفع خصوص الأحكام الإلزامية منها عنه، ووجه تخصيصه برفعه الأحكام الإلزامية فقط، كونه وارداً مورد الامتنان. ولهذا مزيد إيضاح فانتظر)([1]).

الأدلة على وضع القلم على الصبيان

ويدلّ على وضع قلم التكليف أولاً على الجميع ثم رفعه، دليلان عامان:

1- عموم الخطابات القرآنية

أما الدليل العام الأول على شمول الوضع للجميع فهو شتى الخطابات القرآنية المتضمنة للتكاليف كـ(يا أَيُّهَا النَّاسُ...) و(يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا...) والتي لا شك في أنها تشمل لغةً وعرفاً ودِقةً وبالحمل الشائع المميز كالبالغ، بل لو فرّق مفرِّقٌ بينهما بالنظر إلى الخطاب نفسه أو بالنظر إلى دعوى عدم القابلية في المميز، كان مدعياً عليه الدليل بل عدّ مُغرِبا متحّكماً متكلفاً، ويؤكده أنه لولا ورود أمثال (رفع القلم عن الصبي) لما شك أحد في أن المميّز مكلّف بتلك التكاليف ومخاطب بتلك الخطابات.

2- خبر أبي حمزة (فِي كَمْ تَجْرِي الْأَحْكَامُ عَلَى الصِّبْيَانِ)

وأما الدليل العام الثاني فهو خبر أبي حمزة وهو عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال قلت له: ((جُعِلْتُ فِدَاكَ فِي كَمْ تَجْرِي الْأَحْكَامُ عَلَى الصِّبْيَانِ؟ قَالَ: فِي ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، قُلْتُ فَإِنْ لَمْ يَحْتَلِمْ فِيهَا؟ قَالَ: وَإِنْ لَمْ يَحْتَلِمْ، فَإِنَّ الْأَحْكَامَ تَجْرِي عَلَيْهِ))([2]) فإنه يعمّ الثلاثة([3]).

وأما حديث الرفع فإنه يرفع خصوص الإلزامية منها لوضوح أنه امتناني ولا امتنان في رفع الوضعيات، كالملكية والزوجية، عنه، وأما مثل الضمان فإنه وإن كان امتناناً عليه لكن حديث الرفع، كنظائره لا يعقل فيه الإمتنان على مكلف مع إضراره بسائر المكلفين، وفي رفع الضمان عنه امتنان عليه لكنه مضاد للإمتنان على سائر المكلفين، وبعبارة أخرى: حيث كانت نسبة الشارع إلى المكلفين على حد سواء فلا يعقل أن يمتنّ على أحدهم بالإضرار بالآخر وبالنوع، فالإمتنان في حديث الرفع لم يلاحظ فيه حال المكلف وحده بل حال النوع أي الأمة والمجموع من حيث المجموع فبعد الكسر والإنكسار إن كان امتناناً رفع، ولا يرى العقلاء في رفع الضمان عن الصبي، حتى غير المميز، امتناناً على الأمة وعلى المجموع من حيث المجموع، بل إنه ليس امتناناً حتى على الصبي نفسه إذ لو رفع ضمانه عند كسره إناء الغير أو جرحه يده لرفع ضمان الصبي الآخر الذي يكسر إناءه أو يجرح يده. فتدبر.

والحاصل أنه لا امتنان على الصغير في رفع الضمان عنه حتى بلحاظ حاله هو لأنه كما يكون ضارباً لغيره من الكبار قد يكون ضارباً لغيره من الصغار كما أنه كما يكون ضارباً قد يكون مضروباً من قبل الصغار أيضاً.

الجمع بين روايات الـ13 وروايات الـ15

ثم إنه قد يجمع بين قول المشهور بكون سن البلوغ خمس عشرة سنة وبين روايات الباب كخبر أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال قلت له: ((جُعِلْتُ فِدَاكَ فِي كَمْ تَجْرِي الْأَحْكَامُ عَلَى الصِّبْيَانِ؟ قَالَ: فِي ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، قُلْتُ فَإِنْ لَمْ يَحْتَلِمْ فِيهَا؟ قَالَ: وَإِنْ لَمْ يَحْتَلِمْ، فَإِنَّ الْأَحْكَامَ تَجْرِي عَلَيْهِ))([4]) بتخصيص بعض روايات المشهور (كون البلوغ بالـ15 سنة) لخبر أبي حمزة ونظائره (تحقق الـ13 سنة)، بيان ذلك:

إن هذه الرواية (أي رواية أبي حمزة) وأمثالها تعم الأحكام الوضعية والتكليفية الإلزامية الإقتضائية واللاإقتضائية فإنها بأجمعها بحاجة إلى جعل، لكونها اعتباريات أمرها بيد المعتبر وأما روايات المشهور فهي أخص كصحيح ابن محبوب ((وَالْغُلَامُ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الْيُتْمِ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، أَوْ يَحْتَلِمَ، أَوْ يُشْعِرَ، أَوْ يُنْبِتَ قَبْلَ ذَلِكَ))([5]) إذ تُخرِج خصوص البيع والشراء من منظومة الأحكام الوضعية، فيجوز أمر الغلام مطلقاً إذا بلغ الثالثة عشرة حسب خبر أبي حمزة ولكن لا يجوز منه أمر البيع والشراء حسب صحيح ابن محبوب، كما تتعلق بالصبي إذا بلغ الـ13 سنة الأحكام الإلزامية وغير الإلزامية حسب خبر أبي حمزة ولكن تخرج عنها الإلزامية خاصة حسب ظاهر صحيح ابن محبوب الوارد فيه ((قُلْتُ لَهُ: مَتَى يَجِبُ عَلَى الْغُلَامِ أَنْ يُؤْخَذَ بِالْحُدُودِ التَّامَّةِ، وَيُقَامَ عَلَيْهِ وَيُؤْخَذَ بِهَا؟ فَقَالَ: إِذَا خَرَجَ عَنْهُ الْيُتْمُ وَأَدْرَكَ، قُلْتُ: فَلِذَلِكَ حَدٌّ يُعْرَفُ بِهِ؟ فَقَالَ: إِذَا احْتَلَمَ، أَوْ بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، أَوْ أَشْعَرَ، أَوْ أَنْبَتَ قَبْلَ ذَلِكَ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْحُدُودُ التَّامَّةُ وَأُخِذَ بِهَا وَأُخِذَتْ لَهُ... ))([6]) إذ الظاهر أن المراد من (الْحُدُودِ التَّامَّةِ) الإلزاميات كلها أو بعضها([7])، دون المستحبات والمكروهات، وبذلك يكون قوله في آخر الحديث ((وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الْيُتْمِ)) محمولاً على أنه لا يخرج عن اليتم بالنسبة إلى التكاليف الإلزامية. فتأمل

(تَجْرِي الْأَحْكَامُ عَلَى الصِّبْيَانِ) أي إجمالاً

كما سبق (كما يمكن أن يراد من (تَجْرِي الْأَحْكَامُ عَلَى الصِّبْيَانِ) تجري إجمالاً أي يراد به أصل تشريعها في حقهم دون أن تكون بأكملها متعلقةً بذمتهم، بأن تكون الأحكام غير الإقتضائية (الإستحباب والكراهة والإباحة الاقتضائية) جارية في حقهم دون سواها، فيكون هذا الوجه متحداً من حيث المآل مع الوجه الأول)([8]).

لصلاحية اللفظ، ولا إطلاق

ويدل عليه أولاً: صلاحية لفظ (تَجْرِي الْأَحْكَامُ عَلَى الصِّبْيَانِ) على الجري عليهم بقول مطلق، والجري عليهم إجمالاً؛ فإنه مع جري الأحكام إجمالاً، ولو بجريان بعضها أي اللاإقتضائيات، يصدق أنه جرت الأحكام عليهم.

لا يقال: الإطلاق يعضد الأول؟

إذ يقال: الإطلاق موقوف على كونه في مقام البيان من هذه الجهة، مما لا يعلم لقوّة وَهمِ أن لا تجري عليه الأحكام مطلقاً، فهو نظير الأمر بعد توهم الخطر. فتأمل.

لصحيح الكناسي المفصّل بين الحد والتعزير

ثانياً: - وهو العمدة – أن بعض الروايات الأخرى تدل على ما ادعيناه من جريان الأحكام عليه إجمالاً لا مطلقاً بل إن حسن الكناسي أو صحيحه يدل عليه ((... أَتُقَامُ عَلَيْهِ الْحُدُودُ وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالِ؟ قَالَ: أَمَّا الْحُدُودُ الْكَامِلَةُ الَّتِي يُؤْخَذُ بِهَا الرَّجُلُ فَلَا، وَلَكِنْ يُجْلَدُ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا عَلَى قَدْرِ مَبْلَغِ سِنِّهِ فَيُؤْخَذُ بِذَلِكَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً))([9]) ونظيره حسنه أو صحيحه الآخر ((أَمَّا الْحُدُودُ الْكَامِلَةُ الَّتِي يُؤْخَذُ بِهَا الرِّجَالُ فَلَا، وَلَكِنْ يُجْلَدُ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا عَلَى مَبْلَغِ سِنِّهِ فَيُؤْخَذُ بِذَلِكَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَلَا تَبْطُلُ حُدُودُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، وَلَا تَبْطُلُ حُقُوقُ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَهُمْ))([10]) بناءً على كونهما حديثين كما هو الأصل عند نقلها كذلك، وتقارب الألفاظ لا يدل على الوحدة بعد إمكان كونهما حديثين وعرفيته، على أن على مدعي الوحدة الدليل، ولذا عدّهما الجواهر والفقه وبعض آخر حديثين، على أنه لا يضر بنا وحدتهما أبداً، وعلى أي فهذه الرواية صريحة في التفصيل وعلى طبقها المشهور، أيضاً إذ يعزر الصبي ولا يحدّ فتفيد تقييد (كَمْ تَجْرِي الْأَحْكَامُ عَلَى الصِّبْيَانِ) بالحدود الكاملة، وتصرفها إلى الكلام عن أصل التشريع. فتأمل

حمل روايات الـ8 والـ13 على درجات الاستحباب

كما ويمكن حملها على تأكد الإستحباب، فيجمع بذلك بين الروايات المختلفة حتى الدالة على الـ8 سنين كموثق حسن بن راشد، عن العسكري (عليه السلام) قال: ((إِذَا بَلَغَ الْغُلَامُ ثَمَانَ سِنِينَ فَجَائِزٌ أَمْرُهُ فِي مَالِهِ، وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْفَرَائِضُ وَالْحُدُودُ، وَإِذَا تَمَّ لِلْجَارِيَةِ سَبْعُ([11]) سِنِينَ فَكَذَلِكَ))([12])  

((إِذَا تَمَّ لِلْغُلَامِ ثَمَانُ سِنِينَ فَجَائِزٌ أَمْرُهُ، وَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفَرَائِضُ وَالْحُدُودُ، وَإِذَا تَمَّ لِلْجَارِيَةِ تِسْعُ سِنِينَ فَكَذَلِكَ))([13]) ويكون إجمال الكلام فيها:

أ- أن (فَجَائِزٌ أَمْرُهُ فِي مَالِهِ) مما لنا أن نلتزم به بعد تقييده بقوله تعالى: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ‏)([14]) فيكون الحاصل جواز أمره في ماله إذا رشد.

ب- أن (وَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفَرَائِضُ وَالْحُدُودُ) يفيد أنها ثابتة عليه فعلاً، إلا أن حديث الرفع يرفعها امتناناً كما سبق، أو هي ثابتة عليه ملاكاً واقتضاءً.

ج- ثم إذا بلغ الـ13 تأكدت عليه الأحكام لقوة المقتضي فيها، لكن حديث الرفع، مع ذلك، يرفعها عنه.

تنبيه: في بعض ما سبق في الدروس الماضية تأمل وفي بعضه تكلف، لكنه غاية ما أمكننا به الدفاع عن رأي المشهور فتأمل والله العالم.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

 

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (( أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّمَا الدُّنْيَا دَارُ مَجَازٍ وَالْآخِرَةُ دَارُ قَرَارٍ، فَخُذُوا مِنْ مَمَرِّكُمْ لِمَقَرِّكُمْ، وَلَا تَهْتِكُوا أَسْتَارَكُمْ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ أَسْرَارَكُمْ، وَأَخْرِجُوا مِنَ الدُّنْيَا قُلُوبَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا أَبْدَانُكُمْ، فَفِيهَا اخْتُبِرْتُمْ وَلِغَيْرِهَا خُلِقْتُمْ‏‏)) (نهج البلاغة: الخطبة 203).

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


([1]) الدرس (547).

([2]) التهذيب: ج6 ص310.

([3]) أي الوضعية والتكليفية الإلزامية وغير الإلزامية.

([4]) التهذيب: ج6 ص310.

([5]) الكافي: ج7 ص197.

([6]) الكافي: ج7 ص197.

([7]) في باب الحدود خاصة.

([8]) الدرس (546).

([9]) التهذيب: ج7 ص383.

([10]) الكافي: ج7 ص198.

([11]) الظاهر انه تصحيف تسع.

([12]) التهذيب: ج9 ص183.

([13]) التهذيب: ج10 ص120، والاستبصار: ج4 ص249.

([14]) سورة المائدة: الآية 5.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=4188
  • تاريخ إضافة الموضوع : السبت 22 شعبان 1443هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19