• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : البيع (1444هـ) .
              • الموضوع : 582-مناقشة مع الشيخ في قهرية الصحة والبطلان .

582-مناقشة مع الشيخ في قهرية الصحة والبطلان

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(582)

الشيخ: الصحة والفساد عقليان
سبق كلام الشيخ ((قدس سره)): (وأما الصحة والفساد، فهما في العبادات: موافقة الفعل المأتي به للفعل المأمور به ومخالفته له، ومن المعلوم أن هاتين - الموافقة والمخالفة - ليستا بجعل جاعل)([1]).
كما سبقت مناقشة المحقق اليزدي له ((قدس سره)) حيث ذكر نوعين من الصحة والفساد مجعولين بجعل الشارع فهما شرعيتان وليستا عقليتين، ومن المعلوم أن الموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية فلا يصح قول الشيخ: لا شيء من الحكم الوضعي، ولا من الصحة والفساد، بمجعول شرعاً، ونضيف:
المناقشة: الصحة بمعنى ترتيب الأثر؛ لمطابقة الغرض، شرعية
إن هنالك نوعاً آخر من الصحة، أمرها بيد الشارع، فهي مجعولة بجعله، وليست عقلية، وهي أسبق رتبة من نوعي اليزدي، وهي: موافقة الفعل المأتي به لغرض المولى من دون أن يتعلق به أمر لوجه من الوجوه، وذلك في الموالي العرفية كإنقاذ ولد المولى من خطر لا يعلم به المولى، حيث لا يوجد أمر حينئذٍ، إلا أنّ فعله كان منبعثاً عن غرضه، ولذا يستحق عليه الثواب كما يستحق على تركه العقاب، وفي مولى الموالي قد يمثل به بعدم أمره به تخفيفاً وامتناناً لا لعدم تعلق غرضه به وعدم مطلوبيته لديه، كقوله ((صلى الله عليه واله وسلم)): ((لَوْ لَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ))([2]) بل وكما لو لم يأمر به تقية([3]).. وشبه ذلك.
ففي هذه الصورة، فإن أمر الصحة والبطلان في العباديات بيد المولى إذ أن موافقة العمل للغرض غير المأمور به وإن كانت قهرية إلا أن الصحة وترتيب الأثر ليست قهرية، إذ للشارع أن يحكم بصحة هذا العمل وعباديته ومشروعيته ويرتب عليه الأثر وله أن يحكم ببطلانه، فتكون الصحة على الأول مجعولة شرعاً ويكون البطلان على الثاني مجعولاً شرعاً.
بعبارة أخرى: لا يرى العقل لزوماً قهرياً لكون العبادة صحيحة بمطابقة الفعل لغرض المولى غير المأمور به، أما فيما لو أمر وطابق المأتي به المأمور به فإن الصحة لازمة قهراً لا يعقل غيرها وإلا للزم أن يناقض المولى نفسه.
وذلك كله في الغرض غير الملزم، الذي استكشفه العبد بوجهٍ، واضح، وهو يكفي كموجبةٍ جزئيةٍ لنقض سالبة الشيخ الكلية، ولكن يمكن أن ننقض بمطابقة الفعل للغرض الملزم الذي استكشفه العبد بوجهٍ، بأنه مما يتصور فيه البطلان أو الصحة الشرعية، وذلك بأن يحكم الشارع بنحو القضية الخارجية ببطلان كل ما سيعمله هذا العبد من العبادات مستنداً إلى قطعه بغرض المولى، وذلك إذا علم المولى خطأ العبد في قطعه وأنه لا يعدو كونه جهلاً مركباً، وكذا له النهي بنحو القضية الحقيقية وذلك إذا رأى أغلبية أخطاء العبيد في قطوعاتهم بأغراضه الملزمة.
قوله: الموافقة والمخالفة ليستا بجعل جاعل، مخالف لمبناه([4])
كما يرد على الشيخ ((قدس سره)) في قوله: (ومن المعلوم أن هاتين - الموافقة والمخالفة - ليستا بجعل جاعل) أن هذا الكلام عليه لا له، نعم هو على خصمه أيضاً؛ وذلك لأن هذا الكلام وإن كان ردّاً على مسلك من يرى الحكم الوضعي مجعولاً بالإستقلال حيث أجابة الشيخ بأنهما([5]) ليستا بجعل بجاعل لكنه يشكّل رداً على مبناه أيضاً إذ أن مبناه هو ما صدّر به البحث بقوله (المشهور([6]) - كما في شرح الزبدة([7]) - بل الذي استقر عليه رأي المحققين - كما في شرح الوافية للسيد صدر الدين([8]) -: أن الخطاب الوضعي مرجعه إلى الخطاب الشرعي)([9]) فمبناه إذاً أنّ الحكم الوضعي منتزع من الحكم التكليفي (على ما سبق من الخلط الحاصل في كلامه بين الإنتزاع والعينية) لكنه هنا يقول: (بأنهما، أي الصحة والفساد، ليستا بجعل جاعل) مع أنه إذا رجع الخطاب الوضعي إلى التكليفي كان جعله بجعله فكان بجعل جاعل.
والحاصل: أن جعل الأمر الإنتزاعي، كزوجية الأربعة والفوقية، بجعل منشأ انتزاعه كالأربعة وبناء السقف المرتفع، فإذا كان مرجع الخطاب الوضعي إلى التكليفي كان مجعولاً بجعله([10]) أي بجعل منشأ انتزاعه فكان مجعولاً بالتبع.
اللهم إلا أن لا يعتبرهما وضعيين. فتدبر.
سرّ الفرق المعاملات عن العبادات في معنى الصحة والبطلان؟
وقال الشيخ ((قدس سره)): (وأما في المعاملات، فهما: ترتب الأثر عليها وعدمه، فمرجع ذلك إلى سببية هذه المعاملة لأثرها وعدم سببية تلك)([11]).
أقول: الفرق بين العبادات التي فسر فيها الصحة والبطلان بالموافقة والمخالفة وبين المعاملات التي فسرهما فيها بمعنى آخر وهو ترتب الأثر (أو منشئية الأمر) هو: أن العبادات تأسيسيات والمعاملات إمضائيات، فلا يوجد فيها أمر كي تكون الصحة بمعنى مطابقة المأتي به للمأمور به، نعم لو قلنا إن المعاملات تأسيسيات للشارع ومجعولات له وأنها بين مأمور بها ومنهي عنها كان أمرها كأمر العبادات.
الشيخ: سببية المعاملة لحكم تكليفي مرجعه العكس
وقال: (فإن لوحظت المعاملة سببا لحكم تكليفي - كالبيع لإباحة التصرفات، والنكاح لإباحة الإستمتاعات - فالكلام فيها يعرف مما سبق في السببية وأخواتها)([12]).
أقول: وإجمال رأيه ونظره ومن ثم إشكاله: أننا إذا قلنا أن المعاملة كالبيع سبب لإباحة التصرفات كان معناه جعل إباحة التصرفات عند البيع لا جعل سببية العقد للإباحة، نظير ما قاله في (دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة) من (إنا لا نعقل من جعل الدلوك سببا للوجوب - خصوصا عند من لا يرى (كالأشاعرة) الأحكام منوطة بالمصالح والمفاسد الموجودة في الأفعال - إلا إنشاء الوجوب عند الدلوك)([13]).
ونضيف: أنه إذا قلنا المعاملة سبب لإباحة التصرفات فإنه ينتزع منها الملكية.
الشيخ: الملكية والزوجية ليست أحكاماً شرعية
وقال: (وإن لوحظت سببا لأمر آخر - كسببية البيع للملكية، والنكاح للزوجية، والعتق للحرية، وسببية الغسل للطهارة - فهذه الأمور بنفسها ليست أحكاما شرعية. نعم، الحكم بثبوتها شرعي)([14]).
المناقشة:
وأشكل عليه المحقق اليزدي ((قدس سره)) بأن كلامه متناقض قال: (قوله: "فهذه الأمور بنفسها ليست أحكاماً شرعية، نعم الحكم بثبوتها شرعي‌"([15]). هذا الكلام متهافت باعتبار صدره وذيله، لأنّه لا معنى لكون الأمور المذكورة شرعية إلّا أنّ الحكم بثبوتها شرعي، اللهمّ إلّا أن يقال إنّ المراد أنّ الكاشف عن ثبوتها شرعي فإنها إن كانت أموراً واقعية فقد كشف عنها الشارع وإلّا لم يكن طريق إلى إدراكها، وإن كانت أموراً انتزاعية فقد أخبر الشارع بصحة انتزاعها كذلك فتأمّل)([16]).
وتوضيح الإشكال بعبارة أخرى: إن الحكم الشرعي يعني ما حكم به الشارع، فإذا حكم الشارع بثبوت الملكية أو الزوجية كانت حكماً شرعياً، بوجه آخر: الحكم الشرعي اعتبارٌ أمره بيد المعتبِر، وكما أن الوجوب والحرمة حكمان شرعيان لكونهما اعتبارين أمرهما بيد الشارع، وليسا من الحقائق التكوينية المتأصلة إذ لا هما من الجواهر ولا من الأعراض التسعة، فكذلك الملكية والزوجية والحرية ... إلخ، نعم سنخ هذا الحكم (بالملكية) غير سنخ ذلك الحكم (بالوجوب) وكأنّ الشيخ ارتأى أن الأحكام منحصرة في الخمسة مع أنه لو قلنا بجعل الشارع لغيرها كان حكمها حكمها. فتدبر.
نعم يمكن أن نفسر كلام الشيخ بخلاف ظاهره ليرتفع التهافت بأن نقول إن قوله: (نعم الحكم بثبوتها شرعي) يريد به أن إمضاءها شرعي أو الكاشف عن ثبوتها شرعي (فتأمل): إذ ليس من المألوف أبداً استعمال (الحكم) في الكاشف أو الإمضاء.
إن قلت: قالوا: (ما حَكَمَ به الشرع حَكَمَ به العقل، والعكس).
قلت: أولاً: المختار أن الحكم هنا أيضاً يراد به الحكم لا الإمضاء، وقد فصّلنا في فقه التعاون عدم وجود أي محذور في توارد حكمين من حاكمين على أمر واحد وأنه يمكن للعقل أن يحكم بما حكم به الشرع وبالعكس بل ذكرنا توارد أربعة أحكام (هي حكم الفطرة، والعقل، والعقلاء، والشرع) على أمر واحد، كالعدل، بالـحُسن أو الوجوب والظلم بالقبح أو الحرمة، فراجع.
ثانياً: سلّمنا، لكن ذلك، أي صرف الحكم إلى الإمضاء في قاعدة الملازمة، لكنه إنما كان للقرينة العقلية القطعية على التجوز، عند من يرى استحالة جعل الحكم من حاكم ثانٍ بعد جعله من حاكم أول، وأما المقام فالمشهور لا يرون الإستحالة بل يرون الوقوع، نعم الشيخ حيث رأى الإستحالة أمكن له أن يقول أردت من ال حكم الإمضاء للقرينة القطعية، من مبناي، على استحالة إرادة الجعل والإنشاء. فتأمل.

 

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الصادق ((عليه السلام)): ((الْمَسْجُونُ مَنْ سَجَنَتْهُ دُنْيَاهُ عَنْ آخِرَتِهِ‏)) (الكافي: ج2 ص455)

-------------------------------

([1]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج3 ص129.
([2]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج3 ص22.
([3]) مع العلم أو الظن المعتبر بغرضه أو حتى مع احتماله، حتى في العباديات بأن يأتي بالعمل برجاء المطلوبية. فتأمل
([4]) من انتزاع الوضعي من التكليفي.
([5]) الصحة والبطلان.
([6]) من جملة المشهور: الشهيد الأول في الذكرى 1: 40، والقواعد والفوائد 1: 30، والمحقق الخوانساري في مشارق الشموس: 76 وستأتي عبارته، وشريف العلماء في تقريرات درسه في ضوابط الأصول: 6، مضافا إلى شارحي الزبدة والوافية كما أشير إليهما، وغيرهم.
([7]) غاية المأمول في شرح زبدة الأصول، للفاضل الجواد (مخطوط): الورقة 59.
([8]) شرح الوافية (مخطوط): 350.
([9]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج3 ص126.
([10]) أي بجعل الخطاب التكليفي.
([11]) المصدر: 129.
([12]) المصدر.
([13]) المصدر.
([14]) المصدر: ص130.
([15]) فرائد الاصول 3: 130.
([16]) الشيخ محمد إبراهيم اليزدي النجفي، حاشية فرائد الأصول، دار الهدى ـ قم، ج3 ص159.

 

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=4338
  • تاريخ إضافة الموضوع : السبت 25 ربيع الأول 1444هـ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 14