بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(620)
الإكراه إما على الإنشاء والمصدر أو على الـمُنشأ واسم المصدر
الثاني([1]): انّ الإكراه تارة يكون على نفس الإنشاء، أي إنشاء صيغة الطلاق مثلاً، وهو معنى مصدري أي هو فعل الإنشاء([2]) الذي يعدّ سبباً لوقوع الطلاق الذي هو الـمُنشأ، وأخرى يكون على المعنى المنشأ، أي الطلاق بالمعنى الاسم مصدري، وثالثة عليهما معاً، والظاهر ان الأقسام الثلاثة كلها من وادٍ واحد، لأن الإكراه على العلّة إكراه على المعلول والإكراه على المعلول إكراه على العلّة، إذ الواسطة في كل منهما بالنسبة للآخر واسطة في الثبوت لا العروض، فلو أكرهه مثلاً على فري الأوداج الاربعة وقطع رأسه كاملاً فقد أكرهه على القتل ولو أكرهه على القتل فقد أكرهه على قطع الرأس إن كان العلّة المنحصرة، أو على أحد العلل على سبيل البدل، فيكون ما اختاره هو العلّة بالفعل، والحاصل: انه يسرى حكم الإكراه من القتل بالمعنى الاسم مصدري إلى القتل بالمعنى المصدري وبالعكس، وفي الصور كلها، الإكراه رافع للحكم، وهو الصحة.
ومنه يظهر عدم تمامية قوله (قدس سره): (مع أن اختيارية التلفظ بهذا المعنى لا برجوعه إلى تلفظ النائم والغالط لا دليل عليه)([3]) ولعل يأتي مزيد إيضاح.
كما يظهر منه ان قوله: (الخامس: أن يكون الإكراه داعيا للداعي على الطلاق، فالفعل مستند إليهما طولياً، وهذا يتفق كثيراً، فإذا أكره على بيع الدار يوطِّن نفسه على بيعها ويصير الإكراه داعياً على الرضا بنتيجة الفعل، أي باسم المصدر، وهذه الصورة أيضاً يتطرق فيها الوجهان، والأقرب هو الصحة، لأنه طلق ناوياً ومريداً للطلاق)([4]) غير تام أيضاً إن أراد بقوله: (ويصير الإكراه داعياً على الرضا بنتيجة الفعل، أي باسم المصدر) الاحتراز عن الرضا بالفعل نفسه أي المصدر (كما تظهر الاحترازية من قوله اللاحق، والذي نقلناه قبل قليل (مع أن اختيارية التلفظ بهذا المعنى لا برجوعه إلى تلفظ النائم والغالط لا دليل عليه) وأما إن أراد مجرد بيان متعلق الإكراه وانه اسم المصدر من غير حصر، أي المكره عليه به ولا حصر الحكم فيه، فحسن.
تنقيح معنى الداعي على الداعي
الثالث: وهو تنقيح لكلامه وكلام المشهور في الداعي على الداعي حيث قال: (الخامس: أن يكون الاكراه داعياً للداعي على الطلاق، فالفعل مستند إليهما طولياً، وهذا يتفق كثيراً، فإذا أُكره على بيع الدار يوطّن نفسه على بيعها ويصير الإكراه داعياً على الرضا بنتيجة الفعل، أي باسم المصدر).
الرضا والكره ضدان فكيف اجتمعا في الداعي على الداعي؟
فنقول: قد يقال: بان الإكراه والرضا (طيب النفس) ضدان والضدان لا يجتمعان أبداً ولو كان أحدهما – بنحو الداعي والآخر بنحو الداعي على الداعي (كما فيما صوّره بقوله: وهذا يتفق كثيراً...) إذ انه وإن قيل ان العلة القريبة هي الرضا والعلة البعيدة هي الإكراه، فلا تضاد في عالم العلل، ولكن التضاد يقع في عالم المعلول نفسه وهو المكره عليه (ما تعلق به الداعي والداعي على الداعي) إذ يقال: هذا الفعل مكره عليه، لأن علته البعيدة الإكراه وعلة العلة علة، ومرضي به؛ لأن علته القريبة الرضا والفعل المرضي به النفس طيبة به؟ فكيف يكون شيء واحد مكرهاً عليه ومرضياً به؟
الأجوبة
ويمكن الجواب عن ذلك بوجوه:
1- ليسا ضدين إلا في أقصى مراتبهما
الأول: ما ذكره السيد الوالد من ان هذه الصفات، الكره والطيب والجبن والشجاعة، ليست متقابلة تقابلاً حقيقياً فيما وقع بين الحدين من اقصى درجات الحب والكره والجبن والشجاعة، ففي المراتب المتوسطة يجتمع كل منها مع كل منها، والحاصل: انه لا تضاد بين المراتب المتوسطة.
قال (قدس سره): (ومقتضى القاعدة أنه كلما تحقق الكره ولو بعضاً بطل، لظهور "طيبة نفسه" في كمال الطيب، أما مثل الداعي على الداعي وما كان كالحجر فلا يضر بكمال الطيب فيكون صحيحاً.
لا يقال: لا يمكن الجمع بين الكره والطيب؟.
لأنه يقال: تجتمع الصفات النفسية المتقابلة مثل الشجاعة والجبن، والكرم والبخل، ولذا يكون أحدهما أرفع من الآخر، وليس معناها إلّا خلطه بالضد، كما قالوا في خلط النور بالظلام، والحركة بالسكون، في شديدهما وضعيفهما، ومن المعلوم أن الصفات النفسية كالأمور الخارجية، والمقولات الاعتبارية وزان المقولات الحقيقية)([5]).
وبعبارة أخرى: قولهم الضدان ذاتان وجوديتان متعاقبتان على موضوع واحد ولا يتوقف تعقل أحدهما على تعقل الآخر، مختص في مثل البياض والسواد والضياء والظلام والحب والبغض، بما كان منهما في أقصى مراتبه أي أعلى درجات الضياء بحيث لا أعلى منه وأدنى درجات الظلام بحيث لا أدنى منه، ولا يشمل ما بينهما من الدرجات فليست بأضداد.
وبعبارة أخرى: النور الشديد الذي لا ضوء فوقه، نورٌ محض، والظلام الشديد الدامس الذي لا ظلام دونه ظلامٌ محض، أما درجات النور المتوسطة بينهما ودرجات الظلام الخفيف فانها في واقعها خلط نور بظلام، وقد يوضّح ذلك بان النور عبارة عن فوتونات وترددات الطاقة وان المساحات الفارغة بين الترددين هي الظلام والنور هو مجالات التردد، وذلك كما ان الجسم الصلب يترائى انه مصمت لا خلأ فيه لكن الواقع هو انه مركب من الجسيمات ومن الفراغات إذ الجسم يتكون من ذرات والذرات تتكون من بروتون وإلكترون يدور حولها، والفراغ بينهما مذهل.
وكذلك حال الكُره والحب والشجاعة والجبن، فان الشجاع بدرجة الجرأة على مواجهة أسد واحد دون الأسدين أو الثلاثة أو العشرة، جبان بدرجةٍ وشجاع بدرجة، عكس أسد الله الغالب علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام الذي هو شجاعة محضة لا يخالطها جبن.
والحاصل، ان الشجاعة الضعيفة والكرم الضعيف يمكن تفسيرها بوجهين: الأول: تشكيكيتها، الثاني تعدد الجهة، أي انه من جهة مواجهة الأسد الواحد شجاع ومن جهة مواجهة الأسدين جبان وكذا الجود إذا كان بمقدار بذل نصف ماله فانه كريم بمقدار النصف وبخيل فيما زاد.
والأول أرجح، ولكن الثاني هو ظاهر عبارته (قدس سره) حيث عبّر بـ(خلطة بالضد) إذ ظاهره انه في عرضه.
والتحقيق: انه لا مانعة جمع بينهما بل قد يكون مردّ تعدد الجهة إلى تشكيكية المرتبة أي انها هي علته. فتدبر.
وعلى ضوء هذا التحليل يمكن، بنحوِ مجرد الاحتمال لا التبني، ان يوضّح قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (سورة البقرة: الآية 257) إذ فسرته الرواية بـ: يخرجهم من ظلمات المعاصي إلى نور التوبة، مقابل التفسير المشهور بإخراجهم من نور الكفر إلى نور الإيمان فانكره الإمام (عليه السلام) لبداهة انه مؤمن و{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا...} فكيف يخرجون من الظلمات وهم خارجون منها بإيمانهم، لذا فسرها بظلمات الذنوب لا ظلمات الكفر، ويحتمل وجه آخر مكمل لما جاء في الرواية (لا بعنون التفسير) وهو ان الإيمان قوي وضعيف فالقوي المطلق لا ظلام فيه أبداً كإيمان المعصومين (عليهم السلام) أما ما كان أدنى من ذلك درجةً فهو نورُ إيمانٍ مشوب ببعض الظلام، وقد يكون الشرك الخفي مثلاً، حيث لم يكن إيماناً كاملاً، وذلك على ضوء التحليل السابق، وفيه تأمل فتأمل.
2- المكره قد يرضى ثانوياً مرتهناً بالإكراه فلو زال زال
الثاني: الاستناد إلى الوجدان في تحقيق (الداعي إلى الداعي) وقوله: (وهذا يتفق كثيراً، فإذا أُكره على بيع الدار يوطّن نفسه على بيعها ويصير الإكراه داعياً على الرضا بنتيجة الفعل، أي باسم المصدر).
توضيحه: انّ الظالم إذا أكره زيداً على طلاق زوجته وإلا قتله، فتارة يبقى كارهاً لطلاقها تماماً لكنه يطلّقها خوفاً من القتل فهذا هو المكرَه المحض، ويكون نظير الصابر على البلاء العاضِّ على نواجذه رغم مرارته لا لاستعذابه([6]) وكونه يراه حلواً بل لمجرد انه لا مناص منه، وأخرى تطيب نفسه به ولكن طيباً ناشئاً عن الإكراه بحيث لو ارتفع السيف عن رأسه لما طلق، وإلا فانه ينقلب عن كونه مكرهاً إلى كونه راضياً كما سبق، أي لو صار بحيث لولا الإكراه لأوقعه ولولا الرضا لأوقعه فانه يكون حينئذٍ من توارد علتين مستقلتين على معلول واحد وكذا لو انقلب فصار كل منهما جزء العلة، وهما الصورتان الثانية والثالثة مما ذكره (قدس سره) في منية الطالب).
بعبارة أخرى: انه إن فكر في نفسه بعد إكراهه فرضي بطلاقها، لكنه كان مجرد رضا ناشئ عن الإكراه كما سبق بحيث لو ارتفع ارتفع فيكون نظير الراضي بالقضاء، في مقابل الصابر على البلاء، فانه راضٍ به دون شك لكنه رضا وليد عن كون قضاء الله بحيث لو ارتفع كونه قضاء الله، أو قطع النظر عن كونه قضائه أو امكنه بإذن الله تعالى تغييره فلم يكن قضاء حتماً، لزال رضاه فوراً ولذا يبادر إلى تغييره... فهكذا يصور الداعي على الداعي فتدبر، وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
* * *
سؤال تمريني: هل الداعي على الفعل (كالقربة في العبادة، والإكراه في الطلاق) علّة تامة؟ أو علّة ناقصة ككونه علّة معدة أو الجزء الأخير من العلة أو هو مقتضي؟ برهن ما تختاره.
سؤال آخر: أدرس الفرق بين تعريف المناطقة للضدين وبين التفصيل الذي ذكرناه بناء على تشكيكية مراتب الوجود ومنها الضدان، وبناء على تعدد المضاف إليه في الأضداد.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((إِنَّ أَهْلَ الْقُرْآنِ فِي أَعْلَى دَرَجَةٍ مِنَ الْآدَمِيِّينَ مَا خَلَا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ فَلَا تَسْتَضْعِفُوا أَهْلَ الْقُرْآنِ حُقُوقَهُمْ فَإِنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْجَبَّارِ لَمَكَاناً عَلِيّاً)) (الكافي: ج2 ص603).
-------------------------------------------
([1]) من مواقع النظر في كلام المحقق النائيني (قدس سره).
([2]) الإضافة بيانية.
([3]) الشيخ موسى النجفي الخوانساري / تقرير بحث الميرزا النائيني، منية الطالب، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ج1 ص408.
([4]) المصدر: ص407-408.
([5]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، موسوعة الفقه / كتاب البيع، انتشارات خوشنواز ـ أصفهان، ج114/3 ص165.
([6]) أي كونه يراه عذباً.
|