• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : البيع (1444هـ) .
              • الموضوع : 630- خمس ردود على عدم انعقاد الإطلاقات إلا وفق بناء العقلاء .

630- خمس ردود على عدم انعقاد الإطلاقات إلا وفق بناء العقلاء

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(630)

الإطلاقات غير شاملة للمكره اقتضاءاً

سبق أن بعض المعاصرين ذهب إلى (وفيه أولاً: أن الأدلة الإمضائية – كدليل الحلّ والوفاء بالعقود – موجّهة إلى العقلاء، وناظرة لتصرفاتهم التجارية الصادرة وفق قواعد السوق المبنية على الاسترباح، فلا تشمل المعاملات السفهية البعيدة عن تصرفات العقلاء، فإذن تكون الإطلاقات في هذه الموارد قاصرة في مرحلة الاقتضاء عن شمولها لها، إذ لا ترديد عقلاءً أنّ الحكم بصحة بيع المكرَه ونفوذه لا يعدّ حكماً عقلائياً، فضلاً عن ثبوت الإرتكاز في مخالفتها مع قانون سلطنة العقلاء، ومعلومٌ أنّ كل إطلاق وارد على المرتكز عند العقلاء يكون محدوداً ومقيّداً بما لم يقم ارتكاز العقلاء على بطلانه.

وثانياً: لا شبهة أنّ شأن الشارع المشرّع للقوانين التي تنظّم الحياة الإنسانية السليمة، هو الترويج للأمور العقلائية وإشاعتها والحث عليها، والحذر عن اتّباع السلوك السفهي الغير العقلائي، وبناءً عليه يعدّ الحكم بصحة عقد المكرَه مخالفاً لمقتضى الشارعية والتشريع.

وبعبارة أخرى: تعد الأحكام الشرعية الصادرة من الشارع الحكيم مكمّلاً للأمور العقلية والعقلائية، وإرشاداً للابتعاد عن ما يخالفها، ومثله يمنع عن انعقاد دليل الصحة والنفوذ بالنسبة للمعاملات السفهية)([1]) و(وبتعبير آخر: أنّ جميع أدلة العقود والإيقاعات تعدّ من الارتكازات العرفيّة، ولا تشمل منذ البداية وعند انعقادها ما صدر منهما عن إكراه، بمعنى أنّه ليس هناك إطلاق في دليل الحلّ ليشمل جميع العقود حتى الإكراهي منها، ثمّ يأتي دليل منفصل – كدليل الرفع – ليستثنى البيوع الإكراهية منها، ويبقى ما صدر عن الرضا وطيب النفس، بل الارتكاز العرفي قائم منذ البداية على أنّ هذه الأدلة أدلة لتصحيح خصوص العقود والإيقاعات الصادرة عن الطيب والرضا دون الإكراهي منهما)([2]).

إشكالات خمسة

ولكن هذا المبنى بتفصيله، غير تام لوجوه خمسة([3]):

1- بناء العقلاء دليل لبّي لا إطلاق له

الوجه الأول: ان بناء العقلاء دليل لبّي لا إطلاق له، فلا يشمل مورد الشك لتكون إطلاقات {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (سورة البقرة: الآية 275) و{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (سورة المائدة: الآية 1) ((الطَّلَاقُ بِيَدِ مَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ))([4]) مخالفة له، فلا يصح حينئذٍ ما فرّعه عليه (وشيّد أركان هذا المبنى لأجله) من (تارةً: نقول بقصور أدلّة الصحة والنفوذ عن شمولها لموارد الكراهة منذ البداية، بمعنى أنّ دليل صحة العقد والطلاق ونفوذهما مثل {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} ((الطَّلَاقُ بِيَدِ مَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ)) قاصرٌ منذ البداية عن شمول البيع الجبري أو الطلاق القهري، فحينئذٍ لو صدر الطلاق مركّباً من الطيب والإكراه، فإنّ مقتضى القاعدة هو البطلان، لاندراج الأمر في صغريات احتفاف الدليل بالقرينة المتصلة، ومن المعلوم أنّ القرينة المتصلة لو انتهت إلى الإجمال لأدّت إلى إجمال ذي القرينة، ويعدّ موردنا من صغريات هذه القضية، إذ مع قصور دليل الطلاق عن شمول الطلاق القهري، فإنّ نفس دليل صحة الطلاق وهو قوله: ((الطَّلَاقُ بِيَدِ...)) كافٍ لإثبات إنصرافه عن مورد الإكراه، لأنّه بنفسه ينفي صحة الطلاق الصادر عن الإكراه، ويثبت صحة الطلاق الصادر لا عن الإكراه)([5]).

والحاصل: أن المركب من طيب وكُره مجمل، لا يعلم اندراجه تحت أي منهما، على حسب الفرض، فيكون مجملاً وحيث لم ينعقد إطلاق لأوفوا بالعقود، ببركة مبناه من أنها لا تشمل العقد الإكراهي اقتضاءً لأنه غير عقلائي ولذا فان {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} لا يشمل مثل هذا المركب من كره ورضا نظراً لاحتفافه بالمتصل المجمل([6]) فيكون([7]) مجملاً، فيكون العقد فاسداً نظراً لأصالة الفساد في العقود، عكس ما لو قلنا أن الإطلاقات منعقدة بمعزل عن ارتكاز العقلاء، فان المخصص إذا أجمل فحيث انه منفصل([8]) فيشمله الإطلاق دون معارض([9]).

2- وليس بناؤهم على بطلان عقد المكرَه

الوجه الثاني: سلّمنا: لكن لم يثبت وجود بناء للعقلاء على بطلان عقد المكره، كما سبق، بل الصحيح أن بناء العقلاء على أن للمكره الخيار، أي ارتكازهم على صحة العقد وتزلزله لا على بطلانه؛ وذلك على مقتضى القاعدة فإن ذلك مقتضى سلطنته على ماله فإذا أكره ثم ارتفع الإكراه كان له الخيار فإن شاء أمضى وإن شاء فسخ فذلك ما تنطق به السلطنة، عكس طرفيه([10]) وهما (اللزوم) (البطلان) إذ كلاهما خلاف السلطنة فتدبر.

فقوله: (إذ لا ترديد عقلاءً أنّ الحكم بصحة بيع المكرَه ونفوذه لا يعدّ حكماً عقلائياً، فضلاً عن ثبوت الإرتكاز في مخالفتها مع قانون سلطنة العقلاء)([11]) غير تام إذ الحكم باللزوم حكم غير عقلائي، دون الحكم بالجواز (والصحة المتزلزلة أو الخيار).

3- سلّمنا لكنه على نحو المقتضي لا العلية

الوجه الثالث: سلّمنا لكنَّ بناءهم على بطلان عقده إنما هو بنحو المقتضي لا العلة التامة، فإذا كان بنحو المقتضي أمكن للشارع أن يضع شرطاً أو يقرر مانعاً أو شبه ذلك وذلك بحسب المصالح والمفاسد المزاحِمة الأخرى فلا يكون الشارع بذلك مخالفاً لمقتضى الشارعية والتشريع، كما ادعى ولا مخالفاً للأحكام العقلائية، كما قاله أيضاً.

والحاصل: ان الأمر داخل في باب التزاحم، فانعقاد الإطلاق (والشمول للعقد الإكراهي حينئذٍ) مما لا محذور فيه فانه عقلائي.

توضيحه: ان الإكراه إنما هو مقتضىٍ لفساد المعاملة وليس علة لها وإلا لما أمكن الحكم بصحتها في مواطن كثيرة، بحكم الشارع أو بحكم العقلاء أو بحكم كليهما:

ومنها: إكراه المحتكر على عرض بضاعته في السوق، فإن معاملاته وإن تمت عن كره وإكراه لكنها صحيحة، مما يدل على أن الإكراه ليس علة تامة للفساد بل مجرد مقتضٍ.

تنبيه: المذكور في العديد من الروايات والذي أفتى به العديد من الفقهاء، والذي نراه مقتضى القاعدة، أنّ المحتكر يجبر على مجرد عرض سلعته في السوق أي عرضها للبيع، ولا يسعّر عليه (أي لا يحدد له السلطان الثمن، وذلك لما ورد من انه (صلى الله عليه وآله): ((وَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) بِالْمُحْتَكِرِينَ فَأَمَرَ بِحُكْرَتِهِمْ أَنْ تُخْرَجَ إِلَى بُطُونِ الْأَسْوَاقِ، وَحَيْثُ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا، فَقِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): لَوْ قَوَّمْتَ عَلَيْهِمْ، فَغَضِبَ (صلى الله عليه وآله) حَتَّى عُرِفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ وَقَالَ: أَنَا أُقَوِّمُ عَلَيْهِمْ!؟ إِنَّمَا السِّعْرُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَرْفَعُهُ إِذَا شَاءَ وَيَخْفِضُهُ إِذَا شَاءَ))([12]).

ولذلك وجه اقتصادي لطيف، وهو أن الرخص يتبع وفرة العرض، فلا حاجة للتسعير، فانه إذا كثر العرض انخفضت الأسعار، ولذلك قال (عليه السلام): (إِنَّمَا السِّعْرُ إِلَى اللَّهِ...) فانه كذلك بحسب القانون الاقتصادي الذي قرره تعالى، من أن قلة العرض تسبب ارتفاع القِيَم والغلاء وان كثرته تسبّب انخفاضها، كما فصّلناه في كتاب بحوث في الاقتصاد الإسلامي المقارن فراجع، وبذلك (الإكراه على عرض السلعة دون الإكراه على سعر محدد) يكون القانوني الإسلامي قد اقتصر من الإكراه على أدنى مراتبه كما انه يكون قد جمع بين الحقين (حق الناس في أن لا يحتكر عنهم الطعام، وحق البائع في أن لا يكره على التسعير).

ومنها: إكراه الممتنع، فان السلطان وليه فإذا امتنع عن أداء دينه وقد توقف على بيع غير داره السكنية أجبر عليه وصحت المعاملة رغم كونها إكراهية.

والجامع: ان الإكراه بحق، غير مبطل للمعاملة.

4- النقض بما يخالف أحكامه

الوجه الرابع: النقض بأنه لو قيل بعدم شمول الإطلاقات، اقتضاءاً، لما يخالف المرتكزات العقلائية، فالأولى منه أن يقال بعدم شمول الإطلاقات لما يخالف الأحكام الشرعية.

بيانه: ان حكم الشارع في بيع الحيوان، بالخيار لمدة ثلاثة أيام، هو حدّ شرعي لا ريب فيه، فهل يصح أن يقول قائل بان {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} غير شامل اقتضاء للأيام الثلاثة الأولى من بيع الحيوان (إذ لا يجب الوفاء فيها حيث أن له الخيار) مستدلاً بأن الشارع لا يعقل في إطلاقاته أن يخالف أحكامه (والفرض انها غير غائبة عنه عند إطلاقاته عكس العادي من المشرّعين) أو الصحيح هو أن يقال: بان الإطلاق منعقد ثم أن دليل الخيار مخرج؟

والحاصل: انه كما لا تتحدد إطلاقات الشارع وتتضيَّق، عند التشريع، بأحكامه (المقيدة ثبوتاً بقيودها وحدودها) كذلك لا تتحدد إطلاقاته ولا تتضيق بارتكازات العقلاء وإن فرض انهما على الخلاف.

والسرّ في ذلك هو الوجه العام لتفكيك إرادته الجدية عن الاستعمالية، لتكون المرجع في صورة الشك كما سبق، فرغم علمه بعدم شمول حكمه لفاقد الشرط أو المبتلى بالمانع (الشرعي أو العقلائي) إلا انه يقيده، في مرحلة الإرادة الاستعمالية واسعاً وإن كان بحسب الإرادة الجدية، ضيقاً. فتدبر.

5- النقض بالفضولي

الوجه الخامس: النقض بالفضولي، بل انه اسوأ حالاً من المكره، لأن المكره مالك لكنه فاقد للرضا، أما الفضولي فغير مالك، فإذا أمكن تصحيح عقد الفضولي بالرضا اللاحق فكيف لا يمكن تصحيح عقد المكره بالرضا اللاحق؟ وأما انه اسوأ حالاً فلأن المالكية مقتضٍ للصحة والرضا شرط لها، والفضولي فاقد للمقتضي (إذ ليس بمالك) والمالك المكره فاقد للشرط، فكيف يصحِّح الرضا اللاحقُ العقدَ الفاقد للمقتضي للصحة ولا يصحح العقدَ الفاقد للشرط، بعد توفر الشرط؟

بعبارة أخرى: قد يقال: العقلاء لا يرون عقد الفضولي صحيحاً، بل يرونه باطلاً كما قيل في عقد المكره، فإن صح هذا بالرضا صح ذاك، إلا أن يدعى أن العقلاء يرون عقد الفضولي صحيحاً اقتضاءاً، لكنهم لا يرون عقد المكره صحيحاً كذلك، لكن عهدة هذا التفريق على المدعي، وللبحث صلة بإذن الله تعالى.

*              *              *

* اكتب ثلاثة من الأجوبة السابقة وصغها بعباراتك.


وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (( إنّ أوقاتك أجزاء عمرك فلا تنفد لك وقتا إلّا فيما ينجيك)) (غرر الحكم: ص243).

---------------------------------

([1]) الشيخ محمد رضا الانصاري القمي، العقد النضيد، دار التفسير ـ قم، ج2 ص496.

([2]) المصدر: ص585.

([3]) بل أكثر.

([4]) ابن أبي جمهور الاحسائي، عوالي اللآلئ، دار سيد الشهداء – قم، ج1 ص234.

([5]) الشيخ محمد رضا الانصاري القمي، العقد النضيد، دار التفسير ـ قم، ج2 ص584.

([6]) وهو بناء العقلاء الذي ذكره.

([7]) {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}.

([8]) وهو (رفع ما استكرهوا عليه).

([9]) فصّلنا ذلك بعبارات أوضح في الدرس (629) فراجع.

([10]) (طرفي الخيار).

([11]) الشيخ محمد رضا الانصاري القمي، العقد النضيد، دار التفسير ـ قم، ج2 ص496.

([12]) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج3 ص265.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=4457
  • تاريخ إضافة الموضوع : السبت 5 رجب 1444هــ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 13