بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(633)
الملخص:
(المبحث الثاني: أنّ في كون الإطلاقات الواردة في شأن المعاملات إمضائيةً أو لا، أقوالاً ثلاثة:
القول الأول: ما ينسب إلى المشهور، من كونها إمضائية على إطلاقها.
القول الثاني: ما اخترناه من كونها إمضائية – تأسيسية، وقد فصّلنا الكلام فيها في الدرس الماضي، نعم يمكن حمل كلام المشهور أو بعضهم على الأقل على هذا القول، ولعله يأتي بيانه.
القول الثالث: ما ذهب إليه بعض الأصوليين في الأدلة الشرعية الإمضائية من أنها جاعلة للمماثل وليست إمضاء كما يقتضيه ظاهر لفظ الإمضاء)([1]).
معنى جعل المماثل
أقول: جعل المماثل تارة يراد به المماثل من جميع الجهات وأخرى يراد به المماثل في الجملة أي المماثل من بعض الجهات وإن كان مخالفاً من بعض الجهات الأخرى، فإن أريد الأول كان القول الثالث غير القول الثاني، وإن أريد الثاني كانا عبارتين عن مؤدى واحد فتدبر.
تنبيه: لا يراد بجعل المماثل أن عنوان المماثل يجعله الشارع أو أن المماثل بعنوانه مجعول، بل يراد جعل شيءٍ (حكمٍ، في المقام، أو طريقٍ، في باب الحجج) يُنتزع منه عند مقارنته بغيره (أي بالمجعول العرفي مثلاً) عنوان المماثلة والمماثل فـ{أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ} جعل لحكمٍ، وحيث كان مماثلاً لجعل العقلاء لحلّية البيع، سمي بجعل المماثل.
الإطلاق بناءً على جعل المماثل
تنبيه: سواء أذهبنا إلى القول الثاني الذي اخترناه أم الثالث بناءً على إرادة المماثل في الجملة، فإن الإطلاق تام منعقد دون ريب، أما لو قيل بأن المجعول هو المماثل مطلقاً فلا بد أن يكون حاله حال ما كان مماثلاً له وهو مرتكزات العقلاء وحيث أنها لبّية لا إطلاق لها فكذا ما فرض أنه مجعول بنحو مماثل لها مطلقاً، وحيث بنى السيد الروحاني على الأول (أي جعل المماثل في الجملة) التزم بالإطلاق، كما صرح به فيما نقلناه عنه في الدرس السابق، فراجعه.
الفرق بين القولين الثاني والثالث
تنبيه: من الفروق بين ما نقول وما يقوله السيد الروحاني أنه ذهب إلى (إنشاء حكم مستقل لم يلحظ فيه إيصال حكم العقلاء ولا الأخبار عنه) بينما لنا أن نقول: بأن الشارع لاحظ حكم العقلاء ولكن لم يتقيد به، وفرق بين أن لا يلاحظ حكمهم أصلاً وكأنه غير موجود بالمرة وبين أن يلاحظه ويجعل حكماً مماثلاً من غير أن يتقيد به. فتأمل
لا دليل على إمضائية المعاملات أبداً
المبحث الثالث: أن القول بأن المعاملات إمضائية، مما لا دليل عليه، من آية أو رواية أو إجماع، فلا وجه للدوران مدار عنوان إمضائية العقود، ولا حجية له أبداً؛ وذلك لبداهة انه لم ترد آية ولا رواية تصرح بأن المعاملات إمضائية، ولم يقم على ذلك الإجماع، بل غاية الأمر الشهرة على فرض إرادتهم ما تُوهّم من كلامهم، على أن الإجماع لو كان قائماً فهو دليل لبّي يقتصر فيه على ما قام الإجماع على أنه إمضائي كما لو قام على أن البيع إمضائي فانه لا يكفي للقول بأن الإجارة إمضائية كذلك أو المزارعة والمساقاة، نعم لو كان للإجماع معقد مطلق صح التمسك بإطلاق معقده، وعلى فرضه فقد سبق أنه مشهور لا غير، على أنه لو كان له معقد فهو محتمل الاستناد فليس بحجة، فتأمل. بل نقول كما سبق أن البرهان والوجدان على أن المعاملات تأسيسية – إمضائية وأنها ليست إمضائية محضة بالبداهة الفقهية فراجع ما سبق.
هل المعاملات إمضائية لأنها وجدت قبل الشارع؟
المبحث الرابع: قال بعض بأن المعاملات إمضائية نظراً لأنها وجدت قبل الشارع، بدعوى أن البشر في بدء الخليقة كانوا يعيشون في الصحارى والفيافي أو الغابات والمراعي، وحينما عرضت لأحدهم حاجة لأن يبادل سمكته التي لا يحتاجها بالثمرة التي حازها صاحبه وهو لا يحتاجها، طلب أن يبادلها بها فكان هذا هو أول منشأ للبيع.. وهكذا عندما احتاج إلى الانتفاع بكوخ الآخر أو بالعصا المدبّبة التي صنعها، مقابل ثمن، كانت الإجارة.
لكن: هذه مجرد دعوى بلا دليل، إلا الاستحسان، وهي ككثير من دعاوى العلمانيين بما جرى في أصل الخليقة، فعليهم عهدة إقامة الدليل، بل نقول: الدليل على العدم أي على أن المعاملات وجدت بعد الشارع فإن أول بَشري وجد على سطح الأرض هو آدم ومعه حواء وقد نزلت معه الشريعة، وقد قال تعالى: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} (سورة فاطر: الآية 24) وقال: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (سورة البقرة: الآية 31) فمقتضى القاعدة أن تكون المعاملات (كموضوعاتٍ وأحكام) كالعبادات مما جاءت به الرسل([2])، نعم الشريعة الخاتمة، توسعت لتشمل ما لم تتعرض له الشرائع السابقة.
والحاصل: أن دعوى إمضائية المعاملات لأنها وجدت قبل الشارع محل تأمل، أما دعوى كونها موجودة مع الشارع وقد حظيت بتقريره فلها وجه. فتأمل. ولهذا المبحث تتمة وكلام وأخذ وردّ نوكله لمظانه.
الاحتمالات في الدليل المتكفل بجعل ما يُرى مماثلاً
المبحث الخامس: أنّ الدليل المتضمن لجعل الممائل (أي لما يُرى مماثلاً بعد جعله ومقارنته بغيره)، تحتمل فيه احتمالات ثلاثة:
أن يكون إخباراً
الأول: أن يكون إخباراً محضاً، فيكون صورةَ إنشاءٍ، وأما واقعه فالإرشاد إلى أحكام العقلاء.
أن يكون إنشاءاً طولياً
الثاني: أن يكون إنشائياً ولكن بنحو الإنشاء الطولي أو الظِلّي أي المنبعث عن إرادة المولى، وذلك نظير أمر الأب ابنه بالصلاة، فإنه إنشاء لا إخبار بالبداهة؛ للفرق بين قوله لابنه (الصلاة واجبة) وقوله (صلِّ) فهو إنشاء دون ريب.
لا يقال: لو كان إنشاءً للزم إما تحصيل الحاصل أو اللغو أو كون الأب مشرِّعاً، والأول فيما لو تعلق الجعل بنفس المجعول السابق، والثاني فيما لو جعل مماثلاً له إذ أية فائدة في جعل المماثل؟، والثالث لو انشأ وجوب الصلاة عليه.
إذ يقال: لنا أولاً أن نختار الثاني، ولا لغوية، فإن جعل المماثل ينفع في شدة البعث، نظراً لمشككيته، وتوفر الدواعي، ويدل عليه: استحقاقه عقاباً آخر، ولذا نجد أن للوالد أن يقول لولده صلِّ وإلا ضربتك، فإن ضربه له عقاب آخر غير عقوبة الله تعالى، والأخير فرع إيجابه تعالى والأول فرع إيجابه هو.
والحاصل: ان اللغوية تنتفي بالتشكيكية فإن الولد قد لا ينبعث عن بعث الشارع بينما ينبعث عن بعث أبيه أو عن ضمّه إلى بعث الشارع، وحيث أمكن أن يكون بنحو الداعي على الداعي صحت صلاته.
ولنا ثانياً أن نختار الثالث، ولا يلزم كونه مشرِّعاً، إذ التشريع جعل الأحكام الكلية، وأما جعل الأحكام الجزئية استناداً إلى ولاية مستمدة من الشارع فليس تشريعاً، ألا ترى أن القيّم والولي وحاكم الشرع والقاضي ينشؤون أحكاماً جزئية وليسوا بمشرعين؟ فإن تشريعهم للجزئي ليس في عرض تشريع الشارع بل في طوله أي بولاية مستمدة منه متفرعة على تشريعه.. بل وكذا حال الشركات والوزارات بل وحتى البقال والعطار والخباز فإن كُلّا منهم يجعل أحكاماً وأوامر ونواهي وحدوداً في شركته ومحل عمله، مع انها ليست بإخبارات بل هي إنشاءات لكنها لا تسمى تشريعاً بل أحكام وَلَوِية مجعولة على حسب حدود الولاية الممنوحة لهم من الشارع أو من العقلاء.
أن يكون إنشاءً منبعثاً عن إرادة مستقلة
الثالث: أن يكون إنشائياً منبعث عن إرادة مستقلة، وهذا حال الأحكام التكليفية كما هو واضح، وكذلك هو حال الإمضائيات بتعبير المشهور.
وقد استفدنا هذا التقسيم الثلاثي من عبارة المنتقى الآتية، مع بعض التغيير والإضافات، قال: (وتحقيق ذلك : أن الدليل المتكفل لبيان حكم مماثل لحكم موجود متحقق الاعتبار، يمكن أن يكون على أحد أنحاء ثلاثة:
لأنه تارة يكون إخبارياً. وأخرى يكون إنشائياً.
فالأخباري: ما تكون صورته إنشاء الحكم، ولكن يكون المقصود منه هو الاخبار عن تحقق متعلقه وهو الحكم، نظير الأوامر الإرشادية التي تتصور بصورة الإنشاء ولكن يكون واقعها الاخبار عن تحقق متعلقها في الخارج.
والإنشائي: تارة: يكون منبعثاً عن إرادة إيصال حكم الغير العام الّذي يكون هو على صفته، وذلك كالأوامر التبليغية، فان أمر الأب ابنه بالصلاة أمر حقيقي المقصود منه البعث، وليس من الإخبار في شيء، ولكن الغرض منه إيصال أمر الله تعالى لولده، والملحوظ فيه الأمر على طبق ذلك الأمر العام المأمور به كلي المكلف. وهذا في العرفيات كثير.
وأخرى: لا يكون كذلك، بان لم يلحظ فيه إيصال الحكم الآخر ولا الاخبار عنه، بل لوحظ فيه إنشاء الحكم صرفاً. غاية الأمر أن هذا الحكم مماثل لذلك الّذي اعتبره الغير لا أكثر.
ومن هذا الدليل بأنحائه الثلاثة ينتزع عنوان الإمضاء والتقرير لحكم الغير، وهو واضح الوجه)([3]).
بقي الكلام عن الوجه في دعوى الانصراف (انصراف الإطلاقات عما يخالف مرتكزات العقلاء) وفي أن مقام ولاية الشارع أمر آخر غير مقام تشريعاته الكلية، وفي كلام المحقق النائيني في الفوائد عن المجعولات الشرعية، وفي النسبة بين دليل السلطنة ودليل {أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ}.
* * *
ما هو الفرق بين القول بجعل المماثل في الطرق والأمارات والقول بجعل المماثل في المعاملات؟
وهل للقول بجعل المماثل نظير لدى العقلاء؟
أقم دليلاً على صحة نظرية جعل المماثل أو دليلاً على بطلانها.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الصادق (عليه السلام): ((مَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا أَثْبَتَ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فِي قَلْبِهِ وَأَنْطَقَ بِهَا لِسَانَهُ، وَبَصَّرَهُ عُيُوبَ الدُّنْيَا دَاءَهَا وَدَوَاءَهَا، وَأَخْرَجَهُ مِنَ الدُّنْيَا سَالِماً إِلَى دَارِ السَّلَامِ)) (الكافي: ج2 ص128).
---------------------------------------
([1]) الدرس (632).
([2]) أو مما أمضوه.
([3]) السيد عبد الصاحب الحكيم، منتقى الأصول، مطبعة الأمير، ج 7 ص24-25.
|