بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(655)
مناقشة مع الشيخ في مثاليه
سبق قول الشيخ (قدس سره): (ثمّ إنّ ما ذكرنا من اعتبار العجز عن التفصّي إنّما هو في الإكراه المسوِّغ للمحرمات، ومناطه توقّف دفع ضرر المكرِه على ارتكاب المكرَه عليه، وأمّا الإكراه الرافع لأثر المعاملات، فالظاهر أنّ المناط فيه عدم طيب النفس بالمعاملة، وقد يتحقّق مع إمكان التفصّي، مثلًا من كان قاعداً في مكان خاصّ خالٍ عن الغير متفرّغاً لعبادة أو مطالعة، فجاءه من أكرهه على بيع شيءٍ ممّا عنده وهو في هذه الحال غير قادرٍ على دفع ضرره وهو كارهٌ للخروج عن ذلك المكان لكن لو خرج كان له في الخارج خَدَمٌ يكفونه شرّ المكرِه، فالظاهر صدق الإكراه حينئذٍ، بمعنى عدم طيب النفس لو باع ذلك الشيء، بخلاف من كان خَدَمه حاضرين عنده، وتوقّف دفع ضرر إكراه الشخص على أمر خَدَمه بدفعه وطرده؛ فإنّ هذا لا يتحقّق في حقّه الإكراه، ويكذّب لو ادّعاه، بخلاف الأوّل إذا اعتذر بكراهة الخروج عن ذلك المنزل)([1]).
ولكن قد يورد عليه في مثاله الأول: بانّ المتفرغ للعبادة أو المطالعة، إن كان كارهاً للخروج (للاستنجاد بخدمه أو الشَرَطة) فلا يخلو إما أن يكون خروجه ضررياً أو حرجياً أو لا شيء منهما:
فعلى الأوّلَين هو مكره بنفس المناط العام للإكراه، حيث أن الفرض كراهته لبيع داره وقد أكرهه عليه مكرِهٌ ولا يمكنه التفصي عنه إلا بضارٍّ عليه أو حرجي.
نعم قد يستثنى الحرج الخفيف جداً كالضرر القليل جداً الذي لا يراه العرف مسوّغاً لبيع داره لأجل التخلص منه؛ بدعوى انه لا يصدق عليه حينئذٍ انه مكره، ولكن لا بد من لحاظ اختلاف أنواع المبيع المكره عليه، فانه يختلف حال إكراهه على بيع داره التي يحتاجها بشدة عن إكراهه على بيع كتابه الذي لا يحتاجه، وإلا لضربه ضربةً خفيفة جداً، مع لحاظ أن التفصي عنها بالخروج يشكل عليه حرجاً شديداً أو خفيفاً أو لا يشكل إلا أدنى الحرج، فبلحاظ مجموع ذلك يحكم العرف بانه مكره أو لا.
وأما على الأخير، فلا.
وكذا الحال في مثاله الثاني، فان (أمر خَدَمه بدفعه وطرده) قد يكون ضررياً عليه أو حرجياً وقد لا يكون ، كمن يحرج جداً من أمر خَدَمه بطرد ضيفه وإن كان جسوراً متحكماً مؤذياً بل وإن أقدم على إكراهه على بيع كتابه مثلاً فانه يصدق عليه حينئذٍ انه مكره عليه لا مجرد انه غير طيب النفس كما تنزل إليه الشيخ (قدس سره). فتدبر.
وجه استدلاله (قدس سره) بخبر بن سنان على توسعة مفهوم الإكراه
وأما استدلال الشيخ (قدس سره) برواية عبد الله بن سنان وهي: عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: ((لَا يَمِينَ فِي غَضَبٍ، وَلَا فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ، وَلَا فِي جَبْرٍ، وَلَا فِي إِكْرَاهٍ، قَالَ قُلْتُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ! فَمَا فَرْقٌ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ وَالْجَبْرِ؟ قَالَ: الْجَبْرُ مِنَ السُّلْطَانِ، وَيَكُونُ الْإِكْرَاهُ مِنَ الزَّوْجَةِ وَالْأُمِّ وَالْأَبِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ))([2]) فوجهه انه (قدس سره) استظهر منها توسعة مفهوم الإكراه، حكومةً، لما يمكنه التفصي عنه (أي ما لا يتوقف دفع ضرر المكرِه على ارتكاب المكرَه عليه) ونضيف: أو يستفاد منها توسعته لما لا وعيد فيه إضافة إلى توسعته لما لا ضرر يترتب عليه كما قاله (قدس سره) أيضاً، وسيأتي.
وعلى أي فان الظاهر ان الشيخ (قدس سره) استفاد التوسعة في مفهوم الإكراه في المعاملات لأمرين: أ- ما يمكنه التفصي عنه. ب- وما لم يكن طيب النفس به وإن لم يكن ثَمّت ضرر، وذلك لقوله: (وأمّا الإكراه الرافع لأثر المعاملات، فالظاهر أنّ المناط فيه عدم طيب النفس بالمعاملة، وقد يتحقّق مع إمكان التفصّي، مثلاً) مع قوله قبل ذلك (ثمّ إنّ ما ذكرنا من اعتبار العجز عن التفصّي إنّما هو في الإكراه المسوِّغ للمحرمات، ومناطه توقّف دفع ضرر المكرِه على ارتكاب المكرَه عليه، وأمّا الإكراه الرافع لأثر المعاملات، فالظاهر أنّ المناط فيه عدم طيب النفس بالمعاملة).
ووجه التوسعتين:
أولاً: ما خطر بالبال من قرينة المقابلة في رواية بن سنان ((قُلْتُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ! فَمَا فَرْقٌ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ وَالْجَبْرِ؟ قَالَ: الْجَبْرُ مِنَ السُّلْطَانِ، وَيَكُونُ الْإِكْرَاهُ مِنَ الزَّوْجَةِ وَالْأُمِّ وَالْأَبِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ)) فانه إذا كان المدار في جبر السلطان هو الضرر، كما هو كذلك، لم يكن هو المدار في إكراه الزوجة والأم والأب، لوقوعه مقابل ذاك، فلا يكون الوجه في التعبير بالإكراه إلا عدم طيب النفس، قال الشيخ (قدس سره): (فالإكراه المعتبر في تسويغ المحظورات، هو: الإكراه بمعنى الجبر المذكور في الرواية، والرافع لأثر المعاملات هو: الإكراه الذي ذكر فيها أنّه قد يكون من الأب والولد والمرأة، والمعيار فيه: عدم طيب النفس فيها، لا الضرورة والإلجاء وإن كان هو المتبادر من لفظ الإكراه)([3]).
كما أن قرينة المقابلة تصلح عِلّة للتوسعة الأولى لأن السلطان لا يمكن عادة، التفصي من ضرره، عكس الزوجة والأبوين، باسترحامٍ أو بوعدٍ وتسويف ومماطلة أو شبه ذلك.
ثانياً: ما ذكره هو (قدس سره) من (لكنّ الداعي على اعتبار ما ذكرنا في المعاملات هو أنّ العبرة فيها بالقصد الحاصل عن طيب النفس؛ حيث استدلّوا على ذلك بقوله تعالى {تِجارَةً عَنْ تَراضٍ} (سورة النساء: الآية 29)، و((لا يحلّ مال امرئٍ مسلم إلّا عن طيب نفسه))([4])، وعموم اعتبار الإرادة في صحّة الطلاق([5])، وخصوص ما ورد في فساد طلاق من طلّق للمداراة مع عياله([6]))([7]).
المناقشة في وجه التوسعة
وسيأتي الجواب عن الوجه الثاني، أما الوجه الأول فجوابه بما ينفع في دفع الوجه الثاني أيضاً:
أن الظاهر من قرينة المقابلة، أنّ وجهها ليس ما ذكر (من أن في جبر السلطان الضرر، وفي إكراه الأم والزوجة لا شيء إلا عدم طيب النفس) بل وجهها: انّ ضرر السلطان كبير ولذا أطلق عليه الإمام (عليه السلام) الجبر وهو عرفاً كثير الاستعمال في غير مسلوب الإرادة فيما إذا كان يتضرر بشدة، مع ان هذا الشخص فلسفياً وبالمعنى الدقي ليس إلا مكرهاً، وأما الجبر فليس إلا فيما يسلب اختياره معه أو ما يقاربه، وأما ضرر الأب والأم والزوجة الذي يلحق الزوج والابن من مخالفتهما فقليل جداً، عادة، بالمقارنة مع ضرر السلطان؛ إذ ضرر السلطان القتل والقطع والسجن والجلد وما أشبه، أما ضرر الزوجة فهو عادة مما لا يقارن بضرر السلطان، بل نقول: لا يوجد في كثير من مواردِ مخالفةِ أحدهم، إن لم يكن أكثرها، إلا الحرج، مثل ان تتجهم زوجته معه أو تقاطعه أو تذهب إلى بيت أهلها وشبه ذلك، والحاصل: انه لعله يتوهم من نظائر ذلك، وهي كثيرة، انها إذا طلبت منه شيئاً فلم يفعل، انه ليس مكرهاً حينئذٍ مادام لا يترتب إلا مثل ذلك، ولذلك صرح الإمام (عليه السلام) بكونه إكراهاً، وهو كذلك عرفاً إذ الإكراه يتحقق بكل من ترتب الضرر والحرج، على المخالفة. فتأمل([8])
استدلاله (قدس سره) تمسك بالعام في الشبهة المصداقية
وبعبارة أخرى: إنّ تمسك الشيخ (قدس سره) برواية ابن سنان على تفسير الإكراه بعدم طيب النفس، معللاً بها ذكر من قرينة المقابلة، تمسك بالعام في الشبهة المصداقية، وذلك لأن للزوج بالنسبة إلى طلبات زوجته صوراً:
الأول: أن يفعل ما تطلبه منه وتريده، استرضاءً لها ليكسب محبتها، بكل شوق ورغبة، وليس هذا مكرهاً بالبداهة.
الثاني: أن يفعل ما تطلبه منه لأنه لا بشرط، كما لو أراد شراء سيارة فرجحت زوجته إحدى السيارتين على الأخرى، وكانا جميعاً بنظره سواء، فامتثل لها لأنه لا يهمه أيهما اشترى، فانه حينئذٍ ليس بمكرَه ولا مضطر، وكذا لو كان شراء السيارة وعدمه سيان عنده فاشتراها لأنها طلبت منه فانه ليس بمكره، وقد لا يصدق عليه عرفاً انه طيب النفس بشراء السيارة أو بشراء خصوص هذه السيارة، بناءً على أن الكراهة وطيب النفس ضدان لهما ثالث.
الثالث: أن لا يكون طيب النفس بشراء السيارة بل يكون كارهاً له، لكنه يشتريها لأنها طلبت، وإن لم يكن يقع في ضرر أو حرج من المخالفة.
الرابعة: أن يمتثل لأمرها، لأن في خلافه الحرج.
الخامسة: أن يمتثل لأمرها، لأن في خلافه الضرر.
والصورتان الأخيرتان مصداق للإكراه دون ما سبق.
والرواية إنما تقول: ((وَيَكُونُ الْإِكْرَاهُ مِنَ الزَّوْجَةِ وَالْأُمِّ وَالْأَبِ)) ولم تقل (كلما كان من الزوجة والأب والأم فهو إكراه) كما أنك تقول: (كل بيضة بيضية الشكل) فانه مختلف عن قولك (كل بيضي الشكل بيضة) فلو كانت الرواية (كلما كان من الزوجة فهو إكراه) شمل ما لا طيب نفس له به أو ما كان لا بشرط تجاهه، وإن لم يكن فيه حرج أو ضرر، لكن الإمام (عليه السلام) قال: ((وَيَكُونُ الْإِكْرَاهُ مِنَ الزَّوْجَةِ...)) ويكفي في صدق ذلك الموجبة الجزئية وهما الصورتان الرابعة والخامسة.
بعبارة أخرى: مع وجود الصورة الرابعة والخامسة يتحقق الإكراه دون شك ولكن من أين أن الصور الثالثة والثانية هي إكراه؟ كيف تدل الرواية عليه؟ بل حتى لو قيل بان ((وَيَكُونُ الْإِكْرَاهُ...)) بمنزلة كبرى كلية، فنقول: ان الكبرى لا تتكفل بصغراها فكيف تتكفل بكون الصورة الثالثة مثلاً هي مصداق هذه الكبرى! وللبحث تتمة.
مشككية الإكراه والتفصّي
تنبيه: سبق (وأما المشهور فانهم يرون للإكراه معنى واحداً، غاية الأمر أنه حقيقة تشكيكية ذات مراتب كالإكراه الذي يصدق في المعاملات فانه أخف من الذي يصدق في الأحكام، فلو قال له مثلاً أشرب الخمر أو اكذب وإلا صفعتك، لم يتحقق الإكراه الرافع للحرمة ويتحقق لو قال له بع كتابك هذا وإلا صفعتك.. وسيأتي الكلام عن ذلك أخذاً وردّاً إذ قد يقال: للإكراه في كل منهما مراتب)([9]).
وتوضيحه: ان الإكراه يختلف بحسب اختلاف درجات الضرر المتوعَّد به وبحسب اختلاف أنواع متعلّقه وبحسب اختلاف أنواع التفصّي، وذلك في كل من المعاملات والأحكام، فانه لو هدده بصفعة لو لم يبع كتابه الذي لا يحتاجه، فقد يصدق الإكراه حينئذٍ إذ الصفعة مما لا تسترخص مقابل الحفاظ على كتاب لا يحتاجه، لكنه لو هدده بصفعه لو لم يبع بيته فانه قد لا يصدق الإكراه حينئذٍ فانه إذا كان محتاجاً إلى بيته أشد الاحتياج لا يبيعه ويتحمل الصفعة الخفيفة (إلا ذا كان شريفاً تضر حتى الصفعة بسمعته) فذلك مما يؤكد الصدق هنا وعدمه هناك، ولا يعذر عرفاً إن قال كنت مكرهاً على بيع داري، لو باعه، وكذا حال الإكراه على المحرمات فانه درجات وأنواع، إذ لا يعد مكرهاً لو هدده بانه إن لم يَزْنِ لصفعه، لكنه ربما يعد مكرهاً لو هدده بانه إن لم ينظر للأجنبية لصفعه، فتأمل.
ثم ان مراتب الايعاد في الأحكام لا بد أن تكون أشد من مراتبه في المعاملات لأن الأولى اقتضائية والأخيرة لا اقتضائية. ولعله يأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((خُضِ الْغَمَرَاتِ لِلْحَقِّ حَيْثُ كَانَ، وَتَفَقَّهْ فِي الدِّينِ، وَعَوِّدْ نَفْسَكَ التَّصَبُّرَ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَنِعْمَ الْخُلُقُ التَّصَبُرُ فِي الْحَقِّ، وَأَلْجِئْ نَفْسَكَ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا إِلَى إِلَهِكَ فَإِنَّكَ تُلْجِئُهَا إِلَى كَهْفٍ حَرِيزٍ وَمَانِعٍ عَزِيزٍ)) (نهج البلاغة: الكتاب 31).
----------------------------------
([1]) الشيخ مرتضى الانصاري، كتاب المكاسب، الناشر: تراث الشيخ الأعظم، ج3 ص317.
([2]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج7 ص442.
([3]) الشيخ مرتضى الانصاري، كتاب المكاسب، الناشر: تراث الشيخ الأعظم، ج3 ص317-318.
([4]) عوالي اللآلي 2: 113، الحديث 309.
([5]) انظر الوسائل 15: 285، الباب 11 من أبواب مقدّمات الطلاق.
([6]) انظر الوسائل 15: 332، الباب 38 من أبواب مقدّمات الطلاق.
([7]) الشيخ مرتضى الانصاري، كتاب المكاسب، الناشر: تراث الشيخ الأعظم، ج3 ص318.
([8]) سيأتي.
([9]) الدرس (654).
|