• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : (1436-1435هـ) .
              • الموضوع : 12- تحقيق عن التمثلات الذهنية والصور العلمية وبداهة ان الحواس الخمسة ليست هي المدركة لها ولا الحاكمة في وجودها وعدمها ولا في تشوهها ولا في مطابقة الواقع وعدمه .

12- تحقيق عن التمثلات الذهنية والصور العلمية وبداهة ان الحواس الخمسة ليست هي المدركة لها ولا الحاكمة في وجودها وعدمها ولا في تشوهها ولا في مطابقة الواقع وعدمه

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم.
دروس في أصول العقائد
(مباحث المعرفة)
(12)
 9- التمثلات الذهنية والصور العلمية
وتمكن الإجابة عن أصل النظرية الحسية وعن دعوى مرجعية الحواس في تصحيح اخطائها بنفسها، في الوقت نفسه بمعادلة الصور العلمية والتمثلات الذهنية ولكي يتضح الجوابان لا بد من إشارة موجزة ومركزة إلى عالم الصور الذهنية فنقول:
البحر الذي نسبح فيه هو عالم الصور الذهنية
ان قوما قالوا ان الإنسان لا يدرك شيئاً من حقائق العالم الخارجي الحسية (أو مطلقا)([1]) إلا عبر منظومة الصور الذهنية المرتسمة في العقل أو الذهن والتي تسمى بالعلم الحصولي أو التمثلات الذهنية، وفي الحقيقة فان الإنسان لا يتعامل مع الخارج مباشرة وإنما يتعامل مع مجموعة من الصور الذهنية ولا غير فعندما نرى الرياض النضرة فنبتسم أو السيارة المسرعة فنتنحى جانباً فان حقيقة الأمر هي ان مجموعة من الصور الذهنية عن الرياض النضرة والسيارة المسرعة تجسدت في أذهاننا فأدركناها فتحركنا أو ابتسمنا، أما ما يقع في الخارج فلعله مغاير تماماً فالصور والتمثلات الذهنية هي البحر الذي نسبح فيه ونتعامل معه ولا غير.
ولعله([2]) لا وجود لشيء خارج هذا العالم أبداً
بل ان بعض الفلاسفة (المثاليين) ترقى عن ذلك فذهب إلى انه لا يوجد شيء آخر وراء منظومة الصور الذهنية فقالوا: (فجميعنا أسرى السينما الخاصة بنا، نشاهد أفلامنا إلا أنه لا يوجد عالم خارج تلك السينما، ولا يمكننا ان نغادرها، كذلك؛ لعدم وجود شيء خارجها، فالأفلام هي واقعنا الوحيد) و(إنّ احدى تبعات هذا، بالنسبة إلى المثالي، هو أنّ الأشياء موجودة فقط، طالما أُدركت حسيّاً؛ فحينما لا يتم عرض الشيء على شاشة السينما الخاصة بي، فإنّه لا يكون موجوداً. وفي هذا الصدد، أعلن كبير الأساقفة بيركلي (Berkeley) (1685-1753)، وهو أشهر الفلاسفة المثاليين، "أن توجد، أن تدرك حسياً؛ فحينما أغادر الغرفة تصبح غير موجودة وحينما أغلق عيني يختفي العالم، وحينما أرمش بهما لا يبقى ما هو أمامي موجوداً. هذا بالطبع، بشرط([3]) ألا يكون ثمة أحد يدرك تلك الأشياء حسياً في اللحظة ذاتها)([4]).
حَكَمية الحواس عاجزة عن حل معضلة وجود الصور العلمية ومطابقتها للواقع
وهنا نقول: ان حكمية الحواس في خطأ الحواس لا يمكنها حل هذه المعضلة أبداً وليس للحسي إلا ان يستسلم أمام هذه الشبهة؛ وذلك لأنه تبرز أمامهم الأسئلة التالية:
هل هناك حقاً صور ذهنية؟ إذ لعلنا مخطئون وواهمون؟ ان الحواس لا يمكنها أن تقدم إجابة على ذلك أبداً ولا ان تثبت ذلك أبداً، كما لا يمكنها تقديم الإجابة عن سؤالين آخرين هما: هل هذه الصور حتى إن فرضت وجودها حقاً هي صور سليمة أو مشوهة كصور المرايا المحدبة أو المقعرة؟ وأيضاً: هل هي عاكسة للواقع ومطابقة له أم لا؟
ان (الحواس) لا يمكنها ان تقدم إجابة عن أي من الأسئلة الثلاثة السابقة أبدً وذلك لأن الصور الذهنية لا تنالها الحواس الخمسة أبداً إذ اننا لا نرى الصور التي في الذهن([5]) ولا نلمسها أبداً ولا نشمها أو نتذوقها أو نسمعها([6]) فكيف تحكم الحواس على الصورة الذهنية عن العصا المنكسرة (التي نقلتها إليها الباصرة) انها هي الخطأ وتحكم على الصورة الذهنية التي نقلتها إليها اليد والتي قررت استقامة العصا انها هي الصائبة مع ان الصور الذهنية لا يمكن ان تحس بالحواس الخمسة أبداً؟.
ونترقى أكثر إلى كلام المثاليين فنسأل كيف يمكن للحسي ان يقرر ان صوره الذهنية عن العالم الخارجي المحيط به، مثل هذا جدار وهذه سيارة وهذه وردة، هي واقعية؟ وليست سراباً وأموراً خيالية، إذ مادامت الصور الذهنية لا يمكن لمسها ولا رؤيتها ولا الإحساس بها بإحدى الحواس الخمس فكيف يمكن الحكم عليها بانها موجودة أو معدومة؟ صحيحة أو خاطئة؟ عاكسة للواقع أم لا؟ مشوهة أم لا؟
اللجوء إلى حكمية التفكير([7])
ان قلت: نعرف كل ذلك عبر التفكير؟
قلنا: هل التفكير أحسست به باحدى الحواس الخمس: لمسته؟ أو رأيته؟ ومن أين ان التفكير موجود بالأساس؟
ان قلت: ان قوة أخرى هي التي تحكم بوجود التفكير؟
قلنا: ما هي هذه القوة الأخرى؟ وهل رأيتها أو لمستها؟ ومن أين انها موجودة؟ وعلى فرض وجودها فمن أين انها ليست مخطئة؟.
العقل والفطرة هما الحَكَم
وفي المقابل: فاننا نرى ان القوة الأخرى التي تدرك كل ذلك وتحكم بوجود الصور الذهنية ووجود التفكير وتحكم بان الصورة الذهنية المتكونة لدي عن الجدار والسيارة والوردة هي واقعية مطابقة للواقع وليست كاذبة أو مشوهة عكس أحلام اليقظة والخيالات والأحلام والهلاوس؟ هذه القوة الأخرى هي العقل والفطرة فهي المصدر الآخر السابق للمعرفة وهي المصدر الرديف للحواس والحاكم عليها أيضاً: فالحواس تدرك أموراً والعقل يدرك أموراً أخرى سابقة عليها وموازية لها وفوقها فليست المعرفة بأكملها مما ترجع إلى الحواس ولا هي بأكملها مما ترجع إلى العقل، بل ان ما يبتدأ بالحواس (كالحسيات) لا بد ان يمر عبر سلسلة من احكام العقل، كما أوضحناه سابقاً.
ان قلت: العقل يبدأ في مرحلة لاحقة من (الاحساس) بالتفكير والتأمل والملاحظة وليست الضروريات والفطريات والقواعد الأولية مزروعة فيه من قبلُ أي من حين الولادة، وهذا هو ما يجيب به لوك عن مثل تلك الأسئلة؟ إذاً حَكمية التفكير مقبولة لكن التفكير كله عملية لا تبدأ إلا بعد ممارسة الحواس أعمالها ونقلها صوراً إلى الأذهان.
قلت: سبقت في أوائل البحث وفي ثناياه ومطاويه إجابات عديدة عن ذلك وستأتي إجابات أخرى بعد ان ننقل بعض نصوص كلماتهم بإذن الله تعالى.
الآراء في حقيقة الوجود الذهني والصور العلمية
ولنرجع إلى منظومة التمثلات الذهنية من جديد فنقول: اختلف الفلاسفة حول حقيقة الوجود الذهني إلى آراء عديدة:
1- فانكره قوم مطلقاً وقالوا ان الرؤية مثلاً هي بالإضافة بين العالم والمعلوم لا بانطباع صورة في الذهن، كما ان الفوقية هي بإضافة السقف إلى ما تحته لا بوجود شيء فيه أو ملاصقته له حقيقة.
2- وقال قوم بان الرؤية هي بإحاطة الروح بكل ما تراه؛ لتجردها، ومرجع ذلك إلى العلم الحضوري بكل المرئيات فالعلم بالقمر في واقعه علم حضوري لاحاطة النفس، لتجردها به وبالشمس وبكل ما تدركه النفس!
3- وقال قوم انه بخروج الشعاع من العين.
4- وقال قوم([8]) ان الإبصار إنما هو بسقوط الأشعة الضوئية على الهدف المرئي وانعكاسه منه على العين والشبكية التي تنقل معلومات الصورة عبر الألياف البصرية إلى الدماغ وقد تحدث الرؤية عبر الأشعة الحرارية الذاتية الصادرة من الجسم([9]) كالاشعة تحت الحمراء في الرؤية الليلية.
وهناك أقوال أخرى عديدة لا يهمنا الآن التطرق لها([10])
الحَكَم بين الآراء هو العقل أو العلم المستند للعقل
ويعود السؤال ههنا للحسيين من جديد إذ نقول: من أين ان الصور الذهنية موجودة بالفعل وليست سرابا متوهماً؟ ومن أين ان العلم ليس بالاحاطة الوجودية بالمعلوم كما هو القول الثاني؟ ومن أين ان العلم ليس بخروج الشعاع؟
ان العقل والعلم معاً هما اللذان يحكمان بوجود الصور الذهنية وليست الحواس هي الحاكمة، ثم ان العقل يحكم بان العلم حصولي أو حضوري وليست الحواس. نعم العلم يحكم بصحة النظرية الأخيرة ولكنه يعتمد في حكمه على سلسلة أحكام عقلية سابقة قد بنى عليها العلم وإلا لكان أساس العلم سراباً كما سبق بيانه([11]).
وبعبارة أخرى: ان الأجهزة المتطورة هي التي كشفت عن الرؤية عبر التموجات الحرارية وليست الحواس المجردة، على ان الأجهزة المتطورة لم تكشف إلا عن عمليات فيزياوية ثم كيماوية تحدث في عالم الخارج ثم في عالم الذهن اما أصل حدوث هذه العمليات وكونها ليست أحلاما أو خيالات أو حقائق، ثم ما هي حقيقة الرؤية وانها حضورية أو حصولية إلى غير ذلك فان ذلك مما لا تناله الحواس إلا مع حَكَمية العقل أو هي معزولة عن بعضها تماماً ولا ينالها العلم المجرد بل انه يدرك بمعونة العقل والفطرة... ولهذا تتمة وتفصيل يأتي لاحقاً بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
=========================
 
 

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=1709
  • تاريخ إضافة الموضوع : الثلاثاء 23 رجب 1436هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19