• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : (1436-1435هـ) .
              • الموضوع : 21- هل أخفق لوك في الغرض من تشييد فلسفته المعرفية؟ .

21- هل أخفق لوك في الغرض من تشييد فلسفته المعرفية؟

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم.
(21)
هل أخفق لوك في الغرض من تشييد فلسفته المعرفية؟
 
ان التأمل الفاحص في مجمل ما توصل إليه لوك في كتاب (مقالة في الفهم البشري) يكشف لنا بوضوح ان لوك أخفق في الهدف الأساس والعلة الغائية التي دفعته للتأمل في العقل البشري من حيث هو أداة لاكتساب المعرفة ولإزالة الأشواك والعوائق التي تقف في طريق العقل البشري لاكتساب المعرفة.
والحاصل: ان نتائج كتابه وحصيلة فلسفته لا تنتج إلا الوقوع في نفس المحذور الذي أراد الفرار فيه وفي نفس المطب الذي اتهم الفلاسفة العقليين كديكارت بالوقوع فيه ولكن تحت اسم آخر وعنوان آخر.
 
الغاية من فلسفة لوك: إزالة القمامة التي تقف في طريق المعرفة
 
قال بعض الباحثين ملخصاً فلسفة لوك بالاستناد إلى كتاب لوك نفسه (مقالة في الفهم البشري):
(فإن لوك لم يعن في: مقالة في الفهم البشري، بالفلسفة بهذا المعنى الواسع – إنما عني بالتمهيد إليها "بإزالة القمامة Rubbish التي تقف في طريق المعرفة"([1])
وعليه انصب بحث لوك على العقل البشري من حيث هو أداة "لاكتساب المعرفة")([2]) (وكما ان تهيئة الأرض للبناء لا يتم إلا بإزالة الشوك والأدغال التي تحول دون قيام المعمار بعمله على الوجه الأكمل، كذلك فإن تهيئة السبيل إلى المعرفة لا يتم إلا بإزالة العوائق التي تقف في طريق العقل البشري لاكتساب المعرفة.
 
القمامة اما لغوية أو منهجية
 
ويقسم لوك هذه العوائق إلى نوعين: لغوية ومنهجية. فأما العوائق اللغوية فتنشأ من استخدام ألفاظ غامضة ومبهمة تؤدي إلى ارتباك الذهن وتضليله، وأما العوائق المنهجية فبعضها يقوم في الاعتقاد بأن في العقل قواعد أو مبادئ أساسية فطرية قبلية يمكن أن تستخلص منها المعرفة كلها وبعضها يقوم في اعتبار القياس المنطقي الطريقة الصحيحة والوحيدة لاكتساب المعرفة.
وكما أنكر لوك وجود الأفكار والمبادئ الفطرية فرفض معها الطرق التي تستند إليها، فانه أنكر على المدرسييّن إصرارهم على رد كل أنواع الحجج إلى القياس مما كان سبباً من أسباب تأخر العلم، وقد تُشل قوة الإنسان – في رأي لوك – على اكتساب المعرفة إذا (اقتصرت طريقة البحث على القياس)([3]).
أقول: ان هذا الهدف (إزالة القمامة في طريق المعرفة) هو هدف نبيل لكن الطريقة التي سلكها لوك خاطئة.
ويتضح لنا إخفاق لوك بكل دقة حين نرى انه استبدل (الفطريات) و(المستقلات العقلية) بـ(قوة في العقل) كما استبدل (الأحكام العقلية) بـ(الحدس) و(الافتراض).
 
استبدال (الفطريات) بـ(قوة في العقل) لا يحل معضلة القمامة المعرفية
 
قال لوك ("يجزم بعض الناس بأن في الذهن مبادئ فطرية معينة، وعدداً من المفاهيم والحروف Characters قد طبعت، إن صح التعبير، على عقل الإنسان منذ أن وجد وجاء بها معه إلى العالم. ويكفي للتدليل على بطلان هذا الزعم بأن نبين أن الناس يستطيعون باستخدام ملكاتهم الطبيعية فقط ان يحصلوا على المعرفة التي بحوزتهم دون الالتجاء إلى الانطباعات الفطرية، وأن يتوصلوا إلى اليقين بدون مثل هذه المفاهيم أو المبادئ")([4]) انتهى وقال الباحث: (ومع أن العقل البشري في رأي لوك يمتلك قوة فطرية معينة لاكتساب المعرفة إلا أنه عند ميلاده يكون صفحة بيضاء Tabula rasa خالية تماماً من كل أثر ومن كل فكرة. وكل أفكارنا بدون استثناء مستمدة مما تتركه التجربة من آثار على العقل.
إذاً ينكر لوك وجود الأفكار الفطرية في العقل على أي نحو كان، بما في ذلك وجودها بالفعل ووجودها بالقوة)([5])
وقال هذا الباحث أيضاً: (وقد كان من الطبيعي أن تبدأ هذه الحركة ضد فلسفات العقل بتقويض الأساس الذي تقوم عليه، ألا وهو الاعتقاد بوجود عدد من المبادئ المنطقية والأخلاقية والدينية والرياضية – كقانون الذاتية وقانون التناقض والقول بأن الله موجود، والقضية بأنه إذا كانت كل من كميتين تساوي كمية أخرى فإنهما متساويتان، وكل إنسان يطلب السعادة، وأن لكل حادثة سبباً – التي توجد في العقل البشري منذ نشأته والتي يمكن أن يُستخلص منها كل ما يعرفه الإنسان عن النفس والله والعالم والأخلاق وما إلى ذلك.
وعليه ففي العقل – فيما يعتقد العقليون – تكمن المبادئ الأولى للمعرفة كمون النار في حجر الصوان، وما على الإنسان إلا أن يسلك المنهج الصحيح لاستخلاص كل المعارف منها.
وكما كان لوك أول من تمرّد على العقل، فإنه كان كذلك أول من حمل على الاعتقاد بوجود الأفكار والمبادئ الفطرية في العقل، وأنكر وجودها)([6]).
اما في الفلسفة الإسلامية فان القمامة التي تقف في طريق المعرفة هي (دفائن العقول) إذ قال أمير المؤمنين عليه السلام في علة بعثة الأنبياء "لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ وَ يُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ وَ يَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ وَ يُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ"([7]) فبحسب هذه الفلسفة فان الفطريات – وكذا المستقلات العقلية – أمر مغروس في العقل والوجدان – كما سيأتي بيانه وكما سبق أيضاً – إلا انها قد تتراكم عليها الضلالات والشبهات وقد تحجب رؤيةَ العقل عنها الأهواءُ والشهوات، وقد قال الإمام علي (عليه السلام) "ذَهَابُ الْعَقْلِ بَيْنَ الْهَوَى وَ الشَّهْوَةِ"([8])
ومهمة الأنبياء هي بالذات إزالة هذه القمامة وإبراز الحقائق الفطرية المودعة في النفس الإنسانية، عكس ما يقوله لوك تماماً، وقد فصلنا الكلام عن ذلك في كتاب (المبادئ والضوابط الكلية لضمان الاصابة في الأحكام العقلية).
 
التجربة كبديل للعقل
 
وقال هذا الباحث أيضاً: (إذا كان معظم الفلاسفة في القارة الأوروبية قد آمنوا – فيما وجدنا بقدرة العقل الإنساني على إدراك حقيقة الأشياء، فوضعوا فلسفاتهم على أساس عدد من المبادئ العقلية البيّنة بذاتها كالكوجتيو الديكارتية ومبدأ السبب الكافي، والمبدأ القائل بأنه لا يخرج شيء من لا شيء على نحو ما فعل ديكارت أو عدد من التعاريف كالجوهر والمتسبب لذاته والمتناهي واللامتناهي والله وغيرها ومن البديهيات مثل: كل ما هو موجود إما موجود في ذاته أو في غيره، وكل ما لا يمكن تصوره من خلال غيره ينبغي تصوره من خلال ذاته على نحو ما فعل اسبينوزا، واستخدموا طرقاً رياضية واستدلالية صارمة في الوصول إلى قضايا تتعلق بكل نواحي الواقع – فإن معظم الفلاسفة الإنكليز منذ القرن السابع عشر، قد تمردوا على العقل وأنكروا عليه القدرة على اكتشاف الحقيقة وأقاموا المعرفة البشرية على أساس التجربة)([9]).
 
اعتراف لوك بالاحكام العقلية بمسمّيات أخرى
 
ولكنه – وهذا هو الغريب حقاً - انه من جهة أخرى نجد لوك يقر ويذعن بوجود هذه المعارف الفطرية والعقلية كلها لكن تحت عناوين أخرى هي: الحدس والافتراض وقوة في العقل وهذا ما سنتحدث عنه بشيء من التفصيل:
 
(الحدس) هو تعبير لوك المقنّع عن الفطريات
 
قال ( أ- المعرفة الحدسية Intutitive Knowledge وهي المعرفة التي يحصل عليها العقل نتيجة إدراكه ما بين الأفكار من توافق أو عدم توافق مباشرة وبدون تدخل أية فكرة([10]). وفي هذه الحالة يدرك العقل صدق المعرفة مباشرة كما يدرك البصر الضوء. وعلى هذا النحو يعرف العقل أن الأبيض ليس أسود، وأن الدائرة ليست مثلثاً وثلاثة أكثر من اثنين، وتساوي واحداً واثنين. وهذا النوع من المعرفة يُكتسب بالحدس Intutition وهو أصدق أنواع المعرفة وأوضحها، وعليه يعتمد كل ما لمعرفتنا من وضوح ويقين)([11])
والحاصل: ان الفلاسفة اعتبروا ان الأبيض ليس بأسود والدائرة ليست مثلثاً من الفطريات والمبادئ العقلية إذ كل شيء هو هو وليس غيره والتناقض محال، بينما غيّر لوك التسمية فقط فسماها حدساً (نتيجة إدراكه ما بين الأفكار من توافق أو عدم توافق مباشرة وبدون تدخل أية فكرة وفي هذه الحالة يدرك العقل صدق المعرفة مباشرة... وهذا النوع من المعرفة يكتسب بالحدس..).
 
نقل البحث عن عالم الخارج والواقع إلى عالم الذهن والفكر
 
غاية الأمر انه نقل الكلام من البحث عن عالم الواقع إلى البحث عن عالم الذهن فبدل البحث عن تضاد الأسود الخارجي مع الأبيض الخارجي، وان الدائرة الخارجية ليست مثلثاً خارجياً، تحدث لوك عن تضاد الأسود الذهني مع الأبيض الذهني باعتبارهما فكرتين من الافكار وكذلك المثلث والدائرة، غافلاً عن ان هذا الحكم على الوجودات الذهنية يتوقف هو الآخر – كالحكم على الوجودات الخارجية – على تلك المبادئ العقلية الأساسية الأولى كقانون الذاتية وقانون التناقض.. الخ وغافلاً عن ان كل ما في الذهن من الأحكام التي كانت من قبيل امثلته فهي إنما هي نظراً لمرآتيتها للخارج وأن هذا هو المدار في العلوم وهو النافع للحياة البشرية لا الافكار والأحكام بما هي ذهنية مجردة، على انها لو كانت كذلك لخضعت لتلك المبادئ المنطقية والرياضية بلا ريب كما سلّم به.
إضافة إلى انه لا ريب في تدخل تلك المبادئ الأساسية الأولى في اذعان العقل بهذه الأحكام – وان كانت لطيفة خفية لكن لطافتها لا تنفي وجودها – إذ كيف يدرك العقل ان المثلث ليس بالمربع أو الدائرة إذا كان لا يؤمن – في أعماقه – بان التناقض محال؟ وبان الشيء هو هو ولا يعقل ان يكون غيره؟
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
====================

  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=2000
  • تاريخ إضافة الموضوع : الثلاثاء 21 شعبان 1436هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29