• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : (1436-1435هـ) .
              • الموضوع : 22- معرفتنا بوجودنا حدسية أو بالعلم الحضوري! .

22- معرفتنا بوجودنا حدسية أو بالعلم الحضوري!

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم.
(22)
معرفتنا بوجودنا حدسية أو بالعلم الحضوري!
 
وكذلك نجد الباحث يقول: مستعيناً بنصوص عبارات لوك: (فيعتقد لوك أن معرفتنا بوجودنا الخاص حدسية، "لأننا ندركه بدرجة من الوضوح واليقين بحيث لا يحتاج إلى برهان بل ولا يقبل البرهان. وأنه لا شيء بيّن([1]) إلينا عن وجودنا الخاص"([2]) وهكذا ندرك وجودنا الخاص مباشرة، لأن كل عمليات العقل كالإدراك والتفكير والشك والشعور بالألم – تتضمن وجود شيء هو موضوع هذه العمليات، "ففي كل عملية إحساس أو استدلال أو تفكير نشعر بوجودنا الخاص. وفي هذه الحالة نصل إلى أقصى درجات اليقين في المعرفة"([3]))([4])
ومن الواضح ان إدراك وجودنا الخاص وعمليات عقلنا هي التي اعتبرها بعض الفلاسفة علماً حضورياً واعتبرها البعض فطرياً وقد اذعن بها لوك لكنه سماها معرفة حدسية! هذا.
إضافة إلى استدلاله بـ(كل عمليات العقل كالإدراك والتفكير والشك والشعور بالألم – تتضمن وجود شيء هو موضوع هذه العمليات) هو استدلال بالبرهان المنطقي على ما هو معلوم بالعلم الحضوري! وهو استدلال بالبرهان المنطقي من الشكل الأول على المعرفة الحدسية التي اعتبرها معرفة مباشرة، وهل تحتاج المعرفة المباشرة إلى برهان؟ خاصة وانه صرح بـ(لأننا ندركه بدرجة من الوضوح واليقين بحيث لا يحتاج إلى برهان بل ولا يقبل البرهان)!
كما نجده يقول (ثانياً: ان أفكارنا المركبة – ما عدا أفكارنا عن الجواهر – أي الأحوال والعلاقات تطابق موضوعاتها، لأنها نماذج من صنع العقل ذاته ولم يكن القصد منها أن تكون نسخاً لأشياء، ولا أن تشير إلى أشياء تعتبر أصولها، ولذلك فلا تفتقر إلى المطابقة الضرورية للمعرفة الحقيقية، فإن ما لم يقصد به أن يمثل شيئاً عدا ذاته، لا يمكن أن يطابق شيئاً آخر، بل ولا يمكن أن يضللنا([5]) إلى فهم حقيقي لأي شيء بسبب ما بينهما من اختلاف([6]). ولذلك فهي حقيقية.
وكل أفكارنا عن الحقائق الرياضية والأخلاقية هي من هذا النوع. ففكرتنا عن الحقيقة الرياضية أن زوايا المثلث الداخلية تساوي قائمتين حقيقية تطابق النموذج الموجود عن المثلث في العقل رغم أنها قد لا تشير إلى أي مثلث في الواقع)([7]).
 
هل يعقل ان تغير التسمية موانع المعرفة والقمامة في طريقها؟
 
ان هذه الحقائق الرياضية والأخلاقية هي التي قال عنها جمهور الفلاسفة: انها إدراكات للعقل واكتشافات له فيما اعتبرها لوك مصنوعات للعقل ومخلوقات له، وهل بذلك يحقق لوك غرضه وهدفه الأسمى من فلسفته ومن كتابه (مقالة في الفهم البشري) والذي هو (إزالة القمامة ٌRubbish التي تقف في طريق المعرفة)؟
وكيف يؤثر العدول عن (الإدراك) إلى (الخالقية وصانعية العقل) أو عن (الفطرية) إلى (الحدسية) في إزالة العائق المنهجي الذي عبر عنه بـ(وأما العوائق المنهجية فبعضها يقوم في الاعتقاد بأن في العقل قواعد أو مبادئ أساسية فطرية قبلية يمكن أن تستخلص منها المعرفة كلها)؟
 
هل قال أحد بان المعرفة كلها في القياس؟
 
ولم أجد – في حدود استقرائي – فيلسوفاً أو مفكراً أو عالماً يقول بان في العقل قواعد أساسية يمكن استخلاص المعرفة كلها منها، ولعل لوك خلط بين هذا المدعى الذي استبعد ان يقول به حكيم وبين ما يقول به المتكلمون والفلاسفة من ان المعارف كلها – الحاصلة بالتجربة وغيرها – تبتني أسسها على المعارف الفطرية مثل قانون التناقض والهوهوية وغيرهما، بمعنى ان من لم يؤمن بهذين القانونين وشبههما لا يمكنه ان يصل إلى معرفة حسية أو غيرها أبداً؛ إذ حتى لو جرّب النار فأحرقت يده فانه مادام لا يعترف بهذين القانونين فان له ان يقول (النار محرقة وليست محرقة في آن واحد) و(ان النار لا يعلم انها نار والحرارة لا يعلم – أو ليست – حرارة) وهكذا! هذا. إضافة إلى انني – في حدود معرفتي بآراء مشاهير المناطقة والفلاسفة – لم أجد من يقول بان القياس هو الطريق الصحيح والوحيد لاكتساب المعرفة؛ إذ من المعروف منطقياً ان الطرق ثلاثة هي القياس، الاستقراء، والتمثيل إضافة إلى أدلة أخرى مثل عكس النقيض والعكس المستوي.
و(يقول لوك: وحين تمتد أبحاث الناس إلى ما هو فوق متناول قواهم ويتركون العنان لأفكارهم تحوم في تلك الأعماق التي لا يستطيعون أن يجدوا فيها مستقراً فلا عجب أن أثاروا تساؤلات ومناقشات لا حل لها ولا تؤدي إلا إلى تثبيت شكوكهم وزيادتها وتدفع بهم في الآخر إلى الشك المطلق. وعليه ينبغي أن نعيّن للمعرفة البشرية حدوداً لا يجوز أن نتجاوزها، وإلا تناولنا حلَّ ما لا يستطيع العقل البشري بطبيعته حلّه وضاعت جهودنا سدى. فإذا تيسر لنا أن نعرف مدى ما يستطيع أن يمتد إليه العقل البشري وما للعقل من قوى للوصول إلى اليقين، استطعنا أن نعلم ما هو في متناول إدراكنا وما هو ليس في متناوله، وعندئذ نتحاشى صرف جهودنا العقلية فيما لا طائل وراءه ولا فائدة ترجى منه.
وعليه نستطيع ان نقول أن هدف لوك الرئيسي في: مقالة في الفهم البشري، كان عملياً ونفعياً.. وهو تعيين حدود المعرفة البشرية لكي ننظم حياتنا وأبحاثنا على نحو يتفق مع ما لدينا من قوى وإمكانيات، وحتى لا نبدد جهودنا في البحث عن أشياء تستعصي على عقولنا معرفتها)([8]).
ولم نجد في تغيير لوك الفطرة إلى الحدس أو تغييره الإدراك إلى خالقية العقل وصانعيته وشبه ذلك، أية مدخلية لتحقيق الهدفين الذين سعى لهما وهما:
أ- (فإذا تيسر لنا أن نعرف مدى ما يستطيع أن يمتد إليه العقل البشري وما للعقل من قوى للوصول إلى الحقيقة، استطعنا ان نعلم ما هو في متناول إدراكنا وما ليس في متناوله، وعندئذ نتحاشى صرف جهودنا العقلية فيما لا طائل وراءه ولا فائدة ترجى منه)
ب- (وعليه نستطيع ان نقول أن هدف لوك الرئيسي في: مقالة في الفهم البشري، كان عملياً ونفعياً.. وهو تعيين حدود المعرفة البشرية لكي ننظم حياتنا وأبحاثنا على نحو يتفق مع ما لدينا من قوى وإمكانيات، وحتى لا نبدد جهودنا في البحث عن أشياء تستعصي على عقولنا معرفتها) إذ ما الفرق بين ان تذعن بكل الفطريات لكن بعد ان نسميها تارة حدسيات وأخرى مصنوعات للعقل وثالثة افتراضات؟.
واما في الفلسفة الإسلامية فان الطرق إلى المعرفة متعددة متنوعة فمنها القياس المنطقي([9]) ومنها الاستقراء، ومنها التجربة، ومنها الإلهام الإلهي الصادق.
وقد أشارت الآيات والروايات إلى هذه العناوين وغيرها ومنها: قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)([10]) فـ(تبين الحق) كان عن طريق المشاهدة والتجربة بالنسبة إلى ما في الآفاق، وعن طريق الاستبطان والعلم الحضوري – ربما – بالنسبة إلى الانفس.
ومنها: قوله تعالى: (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) فطريق التفقه هو التعلم والحدس والاستنباط والاجتهاد، كما فصنلاه في كتاب (مبادئ الاستنباط).
ومنها: قوله (عليه السلام): "وَسِرْ فِي دِيَارِهِمْ وَآثَارِهِمْ فَانْظُرْ فِيمَا فَعَلُوا"([11])
ومنها: قوله (عليه السلام): "مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّه‏"([12])
ومنها: قوله تعالى: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى)([13])...
والبحث حول هذه الآيات والروايات ونظائرها يستدعي كتابة كتاب مستقل.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
====================
 

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=2001
  • تاريخ إضافة الموضوع : السبت 25 شعبان 1436هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28