• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : (1436-1435هـ) .
              • الموضوع : 25- (القوة في العقل) بديل لوك عن (الأحكام الفطرية) .

25- (القوة في العقل) بديل لوك عن (الأحكام الفطرية)

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم.
(25)
 
(القوة في العقل) بديل لوك عن (الأحكام الفطرية)
 
3- القوة في العقل
قال الباحث: (ويرد لوك كذلك على الفلاسفة الذين يعتقدون أن المبادئ الفطرية موجودة في العقل منذ أول نشأته ولكن العقل لا يستطيع أن يدركها إلا نحين يصل مرحلة معينة من النضج، يرد على هؤلاء بقوله: إن ذلك يعني أحد أمرين: إما أن العقل يمتلك قوى فطرية لإدراك هذه المبادئ وهذا صحيح)([1])
وقال (الحدس عند لوك هو ما في العقل من قوة على إدراك العلاقة الكائنة بين الأفكار التي نحصل عليها بواسطة الإحساس أو التأمل. فمع أن الحدس قوة عقلية فان موضوعه غير عقلي بل حسي([2]). وعليه فالحدسية على نحو ما فهمها لوك لا تتعارض مع الفلسفة الاختبارية)([3]).
وقال (أولاً: ان المعرفة الحدسية التي تقوم على إدراك ما بين الأفكار من علاقة ذاتية أو اختلاف تمتد إلى الأفكار ذاتها، والعقل يدرك بالحدس أن كل فكرة عنده هي ما هي وأنها تختلف عن كل فكرة أخرى)([4]).
 
فما الفارق حسب الفلسفة النفعية؟
 
وهنا نقول تعليقاً على هذه الكلمات وكلماته السابقة جميعاً([5]) ونسأل ما الفرق، حسب الفلسفة النفعية، بين ان نقول بوجود مجموعة محددة من المبادئ الفطرية في النفس كما قال به الفلاسفة العقليون، وبين القول بوجود قوى فطرية تدرك هذه المبادئ؟ وأيضاً كيف يمكن معالجة معضلة التحليق عاليا أكثر من حدود صلاحيات العقل أي مشكلة اقتحامه عوالم المحسوسات بسلاح العقل المجرد فقط. كيف يمكن حل هذه المشكلة عبر إنكار الفكرة الأولى (المبادئ الفطرية) وتبني الفكرة الثانية (القوى الفطرية)؟
 
التزامه بالقوى الفطرية يستلزم سلب الوثوق بالمبادئ الأساسية
 
نعم، هناك فرق لكنه عليه وليس له، إذ الالتزام بوجود قوة فطرية يمكنها عبر الملاحظة والتأمل اكتشاف وإدراك المبادئ، يستلزم تطرق احتمال الخطأ بشكل أكبر لدى سعي العقل عبر هذه القوى لاكتشاف هذه المبادئ مما يسلب الوثوق بهذه المبادئ الأساسية تماماً مع اننا نجد اننا نثق بها تماماً؛ وذلك لأن من طبيعة التأمل امكانية تطرق احتمال الخطأ إليه بشكل كبير جداً خاصة مع اختلاف الخلفيات والنفسيات والتراكمات المعرفية لدى كل إنسان مما يؤثر ذلك كله على عملية التأمل فتكون غير موضوعية ولا حيادية بل متحيزة – من حيث يدري المتأمل أو من حيث لا يدري - لهذا الرأي أو ذاك ولهذا التفسير أو ذاك.
هذا كله إضافة إلى ان الالتزام بوجود قوى فطرية قادرة([6]) على إدراك هذه المبادئ لا يتوقف على توسيط الحواس أو التجربة([7])، بل يكفي ان يقول بأن القوى الفطرية بمقدورها بالتأمل ان تستكشف هذه المبادئ فمن أين ادعى توقف الوصول للمبادئ على عامل ثالث هو الحواس والاحساس أو التجربة؟
بل ان الصحيح ان مثل (ادراك العقل ان كل فكرة هي ما هي وانها تختلف عن كل فكرة أخرى، لا يتوقف على الحواس ولا على التجربة بل ولا حتى على التأمل الذي أشار إليه كعامل ثانٍ وإلا للزم التسلسل فدقق جيداً.
إضافة إلى وضوح ان العقل يدرك مثل ذلك مباشرة وبدون حاجة للتامل أبداً ولذا يدركه حتى البسطاء والسذج والأطفال وحتى البلهاء، اللهم إلا العقل المبتلى بداء الوسوسة.
 
لِمَ التمييز في عطاء الله؟ وأليست حِكَمُ الله عامة؟
 
هذا كله إضافة إلى ان من يذعن بالله الخالق وحكمته – وهو منهم – فانه يدرك بوضوح ان مقتضى الحكمة ان يهب الخالق الحكيم للبشر أسس المعارف وبنيتها التحتية، مباشرةً عبر غرسها في نفوسهم أو فطرتهم، فكما وهب الله للإنسان العين والاذن فيرى بها منذ لحظة الولادة، وكما وهبه القلب والرئة وغيرهما والتي تمارس وظائفها منذ الولادة بل وقبلها أيضاً، فكذلك فان مقتضى الحكمة، بل هو أولى، ان يهب الرب تعالى الإنسانَ أسس المعرفة الأولى والتي لولاها لما أمكنه الحصول على أية معرفة وأي علم أبداً ولتحولت الحياة حينئذٍ إلى اسوأ من غاية وحش([8]).
وعلى أية حال فلم التمييز؟ لماذا يعطينا الله العين الباصرة والاذن السامعة والانف الشامة.. الخ من دون أن يحوجنا في أصولها([9]) إلى ممارسة تأمل أو تدريب أو استعمال قوة خاصة أخرى فينا كي نصل إلى مرحلة القدرة على الابصار والسماع لاحقاً، لكنه في الوقت نفسه، ومع ان قيمة الإنسان هي بروحه وبفكره لا بجسده فان الجسد مشترك مع سائر الحيوانات، لا يعطيه (الفطريات) وأسس المعرفة (كاستحالة التناقض ومبدأ الذاتية ومبدأ العلية والمعلولية.. الخ) عبر غرسها فيه مباشرة؟
نعم، غاية الأمر ان يقول لوك لا أدري ما الذي صنعه الله تعالى، لا ان يجزم بنفي (الفطريات) ويجزم بانها مبادئ لا يصل إليها المرء إلا عبر قوى فطرية!
واما في الفلسفة الإسلامية فيكفي ان نشير إلى قوله تعالى: ( وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ)([10]) وبالفؤاد يدرك الإنسان الفطريات والمستقلات العقلية والحقائق.
 
كيف تكون الفطريات قمامة ولا تكون القوى الفطرية قمامة!
 
هذا كله إضافة إلى انه كيف تكون (الفطريات المغروسة مباشرة من قبل خالق الكون([11])) قمامةً في طريقة المعرفة، ولا تكون (القوى الفطرية التي توصل إلى نفس تلك الفطريات أيضاً) قمامة في طريق المعرفة؟
ومن ذلك يظهر ان التحول من (الفطريات) إلى (قوى قادرة على إدراكها لم يحقق الهدف الذي كان يصبوا إليه لوك (فإذا تيسر لنا أن نعرف مدى ما يستطيع أن يمتد إليه العقل البشري وما للعقل من قوى للوصول إلى اليقين، استطعنا أن نعلم ما هو في متناول إدراكنا وما هو ليس في متناوله، وعندئذ نتحاشى صرف جهودنا العقلية فيما لا طائل وراءه ولا فائدة ترجى منه. وعليه نستطيع ان نقول أن هدف لوك الرئيسي في: مقالة في الفهم البشري، كان عملياً ونفعياً.. وهو تعيين حدود المعرفة البشرية لكي ننظم حياتنا وأبحاثنا على نحو يتفق مع ما لدينا من قوى وإمكانيات، وحتى لا نبدد جهودنا في البحث عن أشياء تستعصي على عقولنا معرفتها)([12]).
 
الفارق بين الفكرة عبر الذاكرة والفكرة عبر الحواس، ينقض الحسية
 
كما ظهر بذلك كله ان قوله ("إننا نجد اختلافاً بيّناً بين الفكرة التي تنبعث في عقولنا بواسطة الذاكرة والفكرة التي تأتي إلى عقولنا بالفعل بواسطة الحواس، على نحو ما نجد اختلافاً بين فكرتين متميزتين.."([13]) وإن زعم امرؤ أن كل الأفكار تنشأ في العقل بدون الأجسام الخارجية فلا اختلاف بين الأفكار التي تأتي – فيما يرى البعض – إلى العقل بواسطة الحواس والأفكار التي تتولد في العقل بواسطة الذاكرة، فإنه ينبغي أن لا يعتقد بوجود اختلاف بين أن يكون في النار بالفعل وبين أن يكون في النار في الحلم)([14]) يشكل هو الآخر رداً على نظريته الحسية. فان الفكرة التي جاءت عبر الذاكرة والفكرة التي جاءت عبر الحواس، كلتاهما حاليا (فكرة) لا تنالها الحواس أبداً فكيف فرّق العقل بينهما؟ ان تفريقه بينهما هو بالمباشرة وبالإدراك الفطري الضروري لا بالحواس ولا بالتجربة ولا حتى بالتأمل في ذلك.
هذا كله إضافة إلى ان من الواضح انه استند في رد ذلك الزعم إلى أمر فطري لا غير([15]) (فانه ينبغي ان لا يعتقد) إذ هذا الفارق بين ان تكون في النار بالفعل وبين أن تكون في الحلم، هو أمر وجداني فطري يدركه كل شخص من غير حاجة إلى ان يستعين بالحواس([16]) أو يستعين بالتفكر والتأمل والملاحظة فان هذه المعرفة (فرق النار الخارجية عن النار الاحلامية وفرق السقوط في هذه عن السقوط في تلك) بديهية يدركها كل شخص بمجرد تصور هذين الأمرين معاً من دون حاجة لتفكير وملاحظة وتأمل واستدلال.
واما في الفلسفة الإسلامية فيكفي ان نشير إلى قول الله تعالى: (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)([17]) فلعله للاشارة إلى الفارق بين المعرفة العلمية النظرية المجردة المخزونة في الذاكرة، وبين مراتبها العليا التي تحدث بالرؤية المباشرة فيطمئن القلب الذي إليه مرجع المعرفة!
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
====================
 

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=2004
  • تاريخ إضافة الموضوع : الثلاثاء 28 شعبان 1436هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29