• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : (1436-1435هـ) .
              • الموضوع : 29- التنافر أو التوافق بين فكرتين أو فكرة وواقع أو واقعين .

29- التنافر أو التوافق بين فكرتين أو فكرة وواقع أو واقعين

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم.
(29)
التنافر أو التوافق بين فكرتين أو فكرة وواقع أو واقعين
 
5- ان الاختلاف والتنافر أو التوافق يكون تارة بين الأفكار – وهو الذي اعتبر المعرفة منحصرة به – لكنها تارة تكون بين الحقائق المفّكر فيها لا الأفكار أي بين الحقائق نفسها، وأخرى تكون بين الفكرة والواقع فالأقسام ثلاثة إذاً.
وبعبارة أخرى: للفكرة بما هي فكرة ذهنية أحكام، وللفكرة بما هي مشيرة إلى مداليلها أي بما هي منسوبة للواقع أحكام أخرى، وللمداليل بما هي حقائق واقعية أحكام مغايرة تماماً.
فمثلاً: النار كفكرة ذهنية أي كصورة أو كلمة منطبعة في الذهن لا تحرق([1])، لكنها بما هي ترمز إلى النار الخارجية مرآة للشيء المحرق، ولا تزال حتى بهذا اللحاظ غير محرقة – واما النار الخارجية – وهي المدلول المشار إليه بذاته – فهي المحرقة.
وبعبارة أخرى: النار بالحمل الذاتي الأولي أمر وبالحمل الشائع الصناعي أمر آخر ثم انها بالحمل الشائع على قسمين: بالحمل الشائع بلحاظ الوجود الذهني وبالحمل الشائع بلحاظ الوجود العيني 
ولنتدبر الأفكار التالية: فان فكرة الوجود والعدم والنور والظلام والعلم والجهل:
أ- من حيث هي بالحمل الشائع الصناعي موجودة في الذهن أي ذات وجود ذهني فانها متساوية الأحكام والاقدام، إذ حتى (العدم) كمفهوم فانه موجود بوجود ذهني كما ان الوجود موجود بوجود ذهني.
ب – ومن حيث هي هي بالحمل الذاتي الأولي فان كل واحد منها هو هو، ولا مجال حتى لنسبة فكرة إلى فكرة أخرى في هذا العالم أي عالم الحمل الذاتي الأولي، فانه لا مجال للاغيار في عالم الذوات، ولذا لا يجري حتى التناقض وأحكامه في عالم الذوات، بل إنما يجري في عالم الوجودات.
ج – ومن حيث هي مرائي لما في الخارج أي لحاظها بما هي مقيسه ومنسوبه للخارج أو لحاظها بالقياس إلى الخارج ليشمل مثل العدم، أي من حيث ان هذه الألفاظ مجرد مرائي وجسور انتقلنا منها إلى عالم الخارج وأردنا ان نبحث عن صفاتها وأحكامها وتحققها فيه وعدمه، فانها ههنا متنافرة متناقضة. لكن آليا لا استقلالياً. فتفكر جيداً
د- هذا كله إضافة إلى ان للوجود والعلم وما أشبه وجوداً خارجياً، عكس العدم والجهل وما أشبه فيناقض الوجود الخارجي عدمه ويضاد أو يماثل هذا الوجود ذلك الوجود الآخر، وهكذا فتدبر جيداً.
ولا يتوهم اتحاد النار كفكرة ذهنية مجردة وكفكرة مرآتية للخارج، من حيث الأحكام وذلك لأن كلتا هاتين النارين وإن لم تحرقا لكنها مختلفتان في بعض الأحكام الأخرى فمثلاً (النار شبّت في المنزل) كصورة ذهنية مجردة ولنفترضها في تمرين اللغة أو النحو أو القراءة والكتابة، فانها لا تبعث أحداً على الفرار أو على المسارعة لأجهزة اطفاء الحريق لاطفائها عكس: (النار شبت في المنزل) كمرآة لحدث خارجي فانها تدفع السامع للفرار أو المواجهة المتسارعة([2]).
ومن ذلك نعرف ان المعرفة على ثلاثة أقسام:
أ- إدراك التوافق أو الاختلاف بين أفكارنا([3]) – وهو ما ذكره.
ب- إدراك التوافق أو الاختلاف بين المفكر فيها – وهو ما لم يذكره.
ج- إدراك التوافق أو الاختلاف بين الفكرة والواقع وهو المعبر عنه بالمطابقة واللامطابقة والصدق والكذب أو الخطأ والصواب باعتبارات عديدة، ولم يذكره أيضاً.
وعن هذا القسم قال تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ومختلف الآيات المصدّرة بـ(اعلموا) أو (لتعلموا) أو نظائرها.
وعن القسم السابق قال تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ)([4])
وعن القسم الأول قال تعالى: (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) إذ المعرفة هذه متضادة بعد الإيمان بمبدأ الجميع، كما قال عن هذا القسم (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)([5]).
فهذه أقسام ثلاثة، والآن:
لنتدبر في النماذج التالية، وهي من أنواع مختلفة فتدبر جيداً:
1- محبة زيد لعمرو وبالعكس، فان هاتين الفكرتين ليستا من حيث هما مفهومان متنافران أو متعاندان، لكن: بما هما مرآتان للواقع فانهما قد تكونان متصادقتين أو متعاندتين لكن آلياً لا استقلالياً كما انهما في الواقع الخارجي قد تكونان متعاندتين كما لو كان كلما أحب زيدٌ عمرواً أكثر نفر منه عمرو وأبغضه أكثر! عكس محبة زيد لعمرو وبغضه له في الوقت نفسه فان الفكرتين هما بما هما هما متضادتان.
2- التفكير في أمر وعدم التفكير فيه، فانهما متناقضان مع اجتماع شرائط التناقض.
3- التفكير في أمر والتفكير في ضده كالتفكير في الحلاوة والحموضة أو السواد والبياض، فان المفكر فيهما متضادان أما التفكيران أي الفكرتان بما هما فمختلفتان وليستا متضادتين، بل قد يقال ان الحرارة والبرودة مثلاً بما هما أمران خارجيان مفكر فيهما متنافران لكنهما بما هما فكرتان لا تنافر بينهما بل يجتمعان ويتصاحبان مع قطع النظر عن مدلولهما، فحالهما كحال البرودة والجدار أو حتى البرودة والبرودة من حيث هما مجرد فكرتين مع قطع النظر عن مدلولهما الخارجي نعم بما هما مرآتان متنافران آلياً كما سبق.
4- التفكير في ان الأربعة زائداً أربعة تساوي ثمانية مع التفكير في انها تساوي تسعة فان الفكرة الأولى غلط لا تطابق الواقع والمفكر فيهما متضادان والفكرتان بما هما مرآتان للواقع أيضاً متضادتان بل بما هما فكرتان أيضاً. فتأمل
وهذه الدوائر الأربعة من الشواهد تختلف من حيث ان بعضها من دائرة التصورات وبعضها من دائرة التصديقات، كما تختلف من حيث ان بعضها صرف تصور مجرد وبعضها تصور مضاف (مما يشكل شبه جملة) فلاحظ الفوارق على ضوء ذلك.
 
مغالطة لوك: مبدأ الذاتية والتناقض معلول لفكرة توافق الأفكار واختلافها
 
وقع لوك في مغالطة غريبة في هذا المبحث (مبحث التوافق والتخالف بين الأفكار) حيث قلب المعادلة الواقعية فحوّل السبب إلى مسبب والمعلول إلى علة.
فحسب رأي لوك فانه: (ويقع التوافق أو عدم التوافق بين الأفكار في أنواع أربعة هي:
أ- الذاتية أو الاختلاف Identity of Diversity إن أول فعل يقوم به العقل حين يحصل على أحاسيسه أو أفكاره، هو أنه يدرك أفكاره... فيدرك أن كل فكرة هي ذاتها وأنها تختلف عن غيرها من الأفكار مثل "الأزرق ليس أصفر". هذا النوع من الإدراك ضروري بصورة مطلقة ولولاه لامتنعت المعرفة والاستدلال والتفكير وسائر العمليات العقلية الأخرى. بكلمة أخرى، لو لم تكن الأفكار ثابتة ومتميزة إلى حد ما، لأصبحت المعرفة مستحيلة. فالعقل يدرك بوضوح وصدق بأن كل فكرة تتفق مع ذاتها وأنها تختلف عن أية فكرة أخرى. وهكذا يحصل العقل على معرفة قضايا مثل مبدأ الذاتية "كل ما هو هو"، ومبدأ التناقض "من المحال أن يكون شيء واحد بذاته وأن لا يكون". وهذه المعرفة يقينية ولكنها تكرارية أو فيما يقول لوك تافهة)([6]).
أقول: يعاني كلامه هذا من الثغرات والإشكالات التالية:
 
المناقشات:
 
1- فان العقل لأنه أدرك مبدأ التناقض ومبدأ الذاتية أدرك ان كل فكرة تتفق مع ذاتها وانها تختلف عن أية فكرة أخرى، لا العكس كما زعمه، وذلك لوضوح ان (كل فكرة تتفق مع ذاتها وتختلف عن أية فكرة أخرى) هي من نتائج القاعدة الكلية: (من المحال ان يكون شيء واحد بذاته وان لا يكون) و(كل ما هو هو) فانه إذا لم نؤمن بهذين المبدأين لما أمكننا القول بـ(كل فكرة تتفق مع ذاتها وتختلف عن أية فكرة أخرى) ولما أضحت المعرفة ممكنة أبداً. فتأمل؛ فان الأصح ان (كل فكرة تتفق...) هي من صغريات القاعدة الكلية لا من نتائجها ولا العكس ولذا لا يصح قوله (وهكذا يحصل العقل...) هذا في عالم الثبوت واما في عالم الإثبات فكما يمكن الانتقال من الجزئي إلى الكلي يمكن الانتقال من الكلي إلى الجزئي، والظاهر – بالنظر إلى الارتكاز – هو الثاني.
 
لا يمكن ان يكون ما هو أساس المعارف كلها، تافها
 
2- قوله (وهذه المعرفة يقينية ولكنها تكرارية أو تافهة) غير صحيح لأن هذه المعرفة هي أساس كل المعارف وقد اعترف بذلك هو (هذا النوع من الإدراك ضروري بصورة مطلقة ولولاه لامتنعت المعرفة والاستدلال والتفكير وسائر العمليات العقلية الأخرى) فكيف تكون تافهة؟ نعم هي تكرارية لكنها كتكرار طلوع الشمس كل يوم والذي لولاه لاختلت الحياة كلها جميعاً!
 
هذه المعرفة هي المعرفة الفطرية التي انكرها!
 
3- ان هذه المعرفة هي المعرفة الفطرية التي أنكرها، لكنه ها هو يعود ليعترف بها لكن تحت مسمى آخر هو إدراك التوافق أو اللاتوافق بين الأفكار!
وقد أسماها شارحه نقلاً عنه بالمعرفة الحدسية([7]) ((أولاً: ان المعرفة الحدسية التي تقوم على إدراك ما بين الأفكار من علاقة ذاتية أو اختلاف تمتد إلى الأفكار ذاتها، والعقل يدرك بالحدس أن كل فكرة عنده هي ما هي وأنها تختلف عن كل فكرة أخرى) فقد ابدل (والعقل يدرك بالفطرة ان كل فكرة عنده...) إلى (والعقل يدرك بالحدس...)!
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
===================
 

  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=2020
  • تاريخ إضافة الموضوع : الاحد 7 ذو القعدة 1436هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19