بحث اصولي: لا اطلاق لقبح تخصيص الأكثر، وذكر موارد لعدم قبح تخصيص الاكثر *
بيان ذلك: إن قبح تخصيص الأكثر ليس ذاتياً له، بل هو بالوجوه والاعتبارات، فقد يكون جعل العنوان المستثنى أكثرُ أفراده موضوعاً للحكم هو الحسن الراجح، بل يكون خلافه خلاف الحكمة.
وذلك بوجوه:
منها: إثبات الرجحان للعنوان أو المرجوحية، وكونه ملاك الحكم ومنشؤه وعليه مداره لولا المعارض، مما لا يستفاد ذلك لو لم يجعل نفس العنوان الذي يراد استثناء أكثر أفراده من الحكم، موضوع الحكم.
فمثلاً لو كان ملاك حُكمه بإكرام الأطباء أو الفقهاء هو كونهم فقهاء أو أطباء، فإنه يرجح أن يقول: أكرم الأطباء أو الفقهاء، وإن كان قد استثنى بمتصل أو سيستثني بمنفصل الفساق منهم وإن كانوا هم الأكثر فيقول: (أكرم الأطباء إلا الفساق منهم)، مع علمه بأن أكثر الأطباء ـ فرضاً ـ فساق؛ فإن هذا هو الأرجح ما دام وجه حسن إكرامهم كونهم أطباء، وما دام وجه قبح إكرام الفساق منهم غلبه مفسدة إكرام الفاسق على مصلحة إكرام الطبيب.
ومنها: الجزالة والسهولة في التعبير بالجامع وجعله الموضوع للحكم وإن خرج منه الأكثر حكماً، بل وكونه هو مقتضى البلاغة وفصل الخطاب، ففي المثال السابق لو لم يُرِد أن يقول: (أكرم الأطباء)، لـمّا لاحظ أنه سيستثني الأكثر الأفرادي وهم الفساق، فإنه سيضطرّ إلى التطويل في الكلام بلا طائل، بأن يقول ـ بعد أن لم يصح حسب المدعى أن يعبر بالجامع وهو كونهم أطباء ـ: أكرم زيداً وعمرواً وبكراً، وهكذا يعددهم إلى المائة ـ مثلاً ـ وهم الأشخاص العدول من الأطباء في ذلك البلد فرضاً، مع كون الفساق منهم خمسمائة فرضاً، أو يضطر إلى اختيار عناوين متعددة أخرى تنطبق على الأطباء العدول فقط [1]، وهو متعسر عادة إن لم يكن متعذراً.
ومنها: إقرار المرجعية لدى الشك في الشبهة المصداقية للمخصص، فإنه لو جعل محور حكمه وموضوعه (الأطباء) واستثنى الفساق ثم شك في طبيب أنه فاسق أم لا صح التمسك بالعام، وهذا إنما يتم لو جعل الموضوع هو العنوان المستثنى أكثرُ أفراده، لا غير ذلك.
وقد يقال: بأن قبح استثناء الأكثر إنما هو في القضية الخارجية لا الحقيقية؛ إذ في القضية الحقيقية يصب الحكم على العنوان لا الأفراد، فلا مدخلية لكثرة أفراد المستثنى أو قلتهم بعد أن لم يكن الحكم منصباً عليهم، والأحكام الشرعية قد صبت على العناوين وأخذت بنحو القضية الحقيقية، ومنها المقام وهو (كل ما ألهى عن ذكر الله...)، وخرجت منه عناوين المستحبات [2] والمكروهات والمباحات.
------------------------
|