||   بسم الله الرحمن الرحيم | اللهم كُن لوليّك الحُجَّة بن الحَسَن صَلواتُكَ عَليه وَعَلى آبائه في هذه السّاعة وفي كُلّ سَاعَة وَليّاً وَحَافِظا وَقائِداً وَ ناصراً ودَليلاً وَ عَينا حَتّى تُسكِنَه أرضَك طَوعاً وَتُمَتِعَه فيها طَوِيلاً | برحمتك يا أرحم الراحمين   ||   اهلا وسهلا بكم في الموقع   ||  


  





 189- من حقوق الائمة ( عليهم السلام ) : المعرفة والطاعة وان تؤثر هواهم على هواك

 398- فائدة كلامية: حال أجساد المعصومين (عليهم السلام) بعد موتهم

 123- المستحبات في معادلة الحياة

 242- فائدة منهجية: الحفاظ على التراث

 307- الفوائد الأصولية: حجية الاحتمال (3)

 204- مناشئ الانحراف والضلالة : الغرور والاستعلاء والجهل الشامل

 420- فائدة أصولية: الأصل الفوقاني في المعاملات

 119- تطوير الاداء التبليغي -التبليغ التخصصي والجامعي

 238- (الامة الواحدة) على مستوى النشأة والذات والغاية والملة والقيادة

 356- الفوائد الاصولية: بحث الترتب (7)



 اقتران العلم بالعمل

 متى تصبح الأخلاق سلاحا اجتماعيا للمرأة؟

 الحريات السياسية في النظام الإسلامي

 فنّ التعامل الناجح مع الآخرين



 موسوعة الفقه للامام الشيرازي على موقع مؤسسة التقى الثقافية

 183- مباحث الاصول (مبحث الاطلاق) (1)

 351- الفوائد الاصولية: بحث الترتب (2)

 قسوة القلب

 استراتيجية مكافحة الفقر في منهج الإمام علي (عليه السلام)

 الأجوبة على مسائل من علم الدراية

 النهضة الحسينية رسالة إصلاح متجددة

 236- احياء أمر الامام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)

 نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة

 177- أعلى درجات التواتر لاخبار مولد الامام القائم المنتظر ( عجل الله تعالى فرجه الشريف )



  • الأقسام : 85

  • المواضيع : 4431

  • التصفحات : 23712379

  • التاريخ : 29/03/2024 - 14:56

 
 
  • القسم : الفوائد والبحوث .

        • الموضوع : 131- بحث عقدي: في تفويض أمر الدين والأمة للمعصومين (عليهم السلام) والمعاني المتصورة في كيفية التفويض .

131- بحث عقدي: في تفويض أمر الدين والأمة للمعصومين (عليهم السلام) والمعاني المتصورة في كيفية التفويض
8 جمادى الأولى 1438هـ

بحث عقدي: في تفويض أمر الدين والأمة للمعصومين (عليهم السلام) والمعاني المتصورة في كيفية التفويض*
جاء في الكافي الشريف: عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن فضيل بن يسار[1]، قال: سمعت أبا عبد الله(عليه السلام) يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: ((إن الله عز وجل أدب نبيه فأحسن أدبه، فلما أكمل له الأدب قال: (إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ)، ثم فوض إليه أمر الدين والأمة ليسوس عباده، فقال عز وجل: (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)، وإن رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان مسدداً موفقاً مؤيداً بروح القدس، لا يزل ولا يخطئ في شيء  مما يسوس به الخلق))[2].
 
من فقه قوله (عليه السلام): ((ثم فوض إليه أمر الدين والأمة))
وفقه هذا الحديث يقتضي رسم أمور:
 
الأمر الأول: اختصاص أمر تفويض الدين والأمة بالمعصوم (عليه السلام)
إنّ ظاهر هذه الرواية اختصاص تفويض أمر الدين والأمة بالرسول(صلى الله عليه وآله)،   ومن كان مثله في العصمة، بضميمة الروايات الأخرى الآتي بعضها[3]، دون الفقهاء؛ إذ قال(عليه السلام): ((فلما أكمل له الأدب قال: (إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ) ثم فوض إليه أمر الدين))، ومن الواضح أن الرسول(صلى الله عليه وآله) والمعصومين(عليهم السلام) هم فقط من أكمل الله لهم الأدب، وأنهم على خلق عظيم بقول مطلق، وأشد صراحة منه قوله(عليه السلام): ((وإن رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان مسدداً موفقاً مؤيداً بروح القدس، لا يزل ولا يخطئ في شيء  مما يسوس به الخلق)). ومن البديهي أن الفقهاء ليسوا كذلك، كما أنَّ من الثابت، بل البديهي أن سائر المعصومين كذلك.
والحاصل: إن هذه الرواية ونظائرها تشهد بحصر أمر التفويض إليهم(عليهم السلام)،  وأما الفقيه ـ فلو تمت أدلة ولايته ـ فله بعض الولاية على الأمة فقط، ولا مجال لتوهم تفويض أمر الدين إليه.
 
الأمر الثاني: روايات دالة على التفويض للأئمة (عليهم السلام) أيضاً
وقد دلت روايات عديدة على التفويض للأئمة(عليهم السلام) أيضاً وهي متعددة، نكتفي هنا بالإشارة إلى بعضها:
فمنها: عن موسى بن أشيم قال: ((كنت عند أبي عبد الله(عليه السلام) إذ أتاه رجل فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثاً في مقعد، فقال أبو عبد الله(عليه السلام): قد بانت منه بثلاث، ثم جاءه آخر فسأله عن تلك المسألة بعينها فقال: ليس بطلاق، فأظلم عليَّ  البيت لما رأيت منه، فالتفت إليَّ فقال: يا ابن أشيم، إنّ الله فوض الملك إلى سليمان فقال: (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أو أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ)[4]، وإن الله فوض إلى محمد (صلى الله عليه وآله) أمر دينه فقال: (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)[5]، فما كان مفوضاً  إلى محمد (صلى الله عليه وآله) فقد فوض إلينا))[6].
ووجه تقديم ذكر تفويض الملك لسليمان واضح، وهو أن الله كما اقتضت حكمته تفويض الملك لسليمان اقتضت حكمته تفويض أمر الدين للرسول والأئمة(عليهم السلام) والجامع هو قابلية القابل وكماله، وجود وكرم الفاعل وحكمته، وكما أنَّ سليمان لم يكن يتصرف في الملك إلا بحكمة، كذلك هم(عليهم السلام) فإنهم لا يتصرفون في أمر الدين إلا على مقتضى الحكمة، وقد فصلنا وجه الحكمة في مثل هذه الرواية في كتاب (فقه قاعدة الإلزام)[7].
ومقتضى القاعدة أن الرجل الأول كان مخالفاً، فقد بانت منه زوجته بطلاقه إياها بالثلاث لقاعدة الإلزام، وأن الثاني كان شيعياً فلم يقع الطلاق لبطلان طلاق الثلاث عندنا، على رأي[8]، ولمَن يرى وقوعه طلقة واحدة أن يجيب بأنه محمول على ما لو كان قوله ثلاثاً في (أنت طالق ثلاثاً) حيثية تقييدية لا بنحو الشرطية وتعدد المطلوب، جمعاً بين هذه الرواية وبين ما تفيد وقوع الطلقة الواحدة. وتفصيل الأخذ والرد يوكل لمظانه، فهناك حكم واقعي ثانوي، وهنا حكم واقعي أولي.
لكن سياق الرواية، بل ظاهر تعليل الإمام (عليه السلام) كون ما صنع (عليه السلام) أقرب للأحكام الولائية منه لبيانه للأحكام الواقعية بين أولية وثانوية، إلا أن يكون المراد من التفويض الأعم من تفويض الأحكام وتفويض كيفية بيانها، وإيراد الجواب على حسب مورد سؤال السائل، وإن خفي وجهه على السامع، فتدبر.
ولا يخفى أن هذا المثال[9] مورد، وهو لا يخصص الوارد في كلامه(عليه السلام)، بل إن الاستدلال هو بصريح كلامه(عليه السلام): ((فما كان مفوضاً إلى محمد(صلى الله عليه وآله) فهو مفوض إلينا)).
ثمّ إنَّ الآية مطلقة شاملة لكل ما آتاناه الرسول(صلى الله عليه وآله)، سواء أكان بوحي من الله، أم كان بما منحه الله تعالى من الصلاحية، وما فوضه إليه من الأمر، لكن هذه الآية (وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا...)[10] كبرى لا تتكفل حال الموصول، وإنه ما الذي أتانا به الرسول(صلى الله عليه وآله)، إلا أن يقال: إن ظاهر الآية هو ما آتاهم الرسول(صلى الله عليه وآله) ممّا نشأ من ولايته وتفويض الأمر إليه، وإلا لكان الأنسب أن يقال: ما نقله لكم الرسول، وفيه ما لا يخفى.
وعلى أية حال، فالرواية صريحة في تفسير الآية بتفويض أمر الدين إليه(صلى الله عليه وآله)؛ إذ جاء فيها: ((وإن الله فوض إلى محمد أمر دينه فقال: (وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ...)))
ومنها: عن محمد بن سنان، ((إن الله لم يزل فرداً متفرداً بالوحدانية، ثم خلق محمداً وعلياً وفاطمة(عليهم السلام) فمكثوا ألف دهر، ثم خلق الأشياء وأشهدهم خلقها، وأجرى عليها طاعتهم، وجعل فيهم ما شاء، وفوض أمر الأشياء إليهم، في الحكم والتصرف والإرشاد والأمر والنهي في الخلق؛ لأنهم الولاة، فلهم الأمر والهداية، فهم أبوابه ونوّابه وحجابه، يحللّون ما شاء ويحرّمون ما شاء، ولا يفعلون إلا ما شاء، عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون. فهذه الديانة التي من تقدمها غرق في بحر الإفراط، ومن نقصهم عن هذه المراتب التي رتبهم فيها زهق في بحر التفريط، ولم يوف آل محمد حقهم فيما يجب على المؤمن من معرفتهم. ثم قال: خذها يا محمد، فإنها من مخزون العلم ومكنونه))[11].
والكلام عن فقه هذين الحديثين ونظائرهما يوكل لمظانه.
 
الأمر الثالث: تفويض أمر الدين والأمة للمعصوم(عليه السلام) هو مقتضى الحكمة
إن تفويض أمر الدين إليه(صلى الله عليه وآله) هو مقتضى الحكمة، فإنه رسول الله والذي تولى الله تربيته، حتى بلغ أقصى درجات العلم والمعرفة والكمال، فالتفويض إليه وضع للشيء في محله.
ولا ينبغي أن يستغرب ذلك، خاصة ممن يرى تفويض أمر التشريع إلى مجالس الأمة ـ البرلمان ـ مع أن النواب محاطون بالقصور أو التقصير، وبالنواقص من جهات، فإنهم:
 أـ محاطون بالجهل بالماضي وبالحاضر والمستقبل، وبالجهل بالأبعاد والخفايا والتزاحمات والموانع والطوارئ.
ب ـ كما هم محاطون بالأهواء والشهوات والمصالح، إضافة إلى الأذواق والسلائق غير الحسنة ولا السليمة.
ج ـ كما أنَّهم غير محصنين أمام الضغوط، فكيف يقبل عالم أو مفكر تفويض تشريع القوانين العامة لكل البلاد، من سياسية واقتصادية وحقوقية واجتماعية وغيرها إليهم، ولا يستسيغ أن يفوض الخالقُ أمرَ الدين إلى مَن علم بنافذ علمه بأنه معصوم من كل الجهات، عالمٌ بقول مطلق بإذن الله تعالى، حكيمٌ بأعلى درجات الحكمة، وكامل كأقصى ما يمكن للممكن أن يناله من الكمال؟

الأمر الرابع: التفويض إليهم (عليهم السلام) في الجملة[12]
إن تفويض أمر الدين إليه(صلى الله عليه وآله) لا يعني أن الله تعالى أنزل روح الدين وجوهره فقط، وأن الرسول(صلى الله عليه وآله) قام بمصدقته وتشكيله وتكوينه، كأن يكون أنزل أصل فرض الحج أو الصوم[13]، ثم قام الرسول(صلى الله عليه وآله) بمصدقتها في الحج والصوم بالكيفية المعروفة، أو أنه أنزل جل اسمه أصل وجوب الخضوع لله تعالى فمصدقه الرسول في الصلاة والركوع والسجود وهكذا، كما زعمه بعض الحداثويين، وكما نسب بعض الأعلام نظيره[14] إلى الآخوند الخراساني؛ إذ إنَّ ذلك باطل قطعاً؛ لبداهة نزول كثير من الأحكام بتفاصيلها وخصوصياتها من الله تعالى على الرسول(صلى الله عليه وآله) والآيات والروايات صريحة في ذلك كـقوله: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ...)[15]، و(أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا...)[16]، و(فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ...)[17]، و(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا...)[18]، و(لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ...)[19] ... الخ.
بل المقصود التفويض في الجملة، بمعنى أن الله تعالى بعد أن أنزل أحكاماً، وشرَّع قوانين فوَّض للرسول(صلى الله عليه وآله) أن يزيد فيها بعض الشيء، أو ينقص في حدودٍ معينة، فالصلاحية في التوسعة أو التضييق أو تقنين بعض القوانين.
وتدل على ذلك الروايات، ومنها تتمة الرواية السابقة في الكافي وهي: ((فتأدب بآداب الله، ثم إن الله عز وجل فرض الصلاة ركعتين، ركعتين عشر ركعات، فأضاف رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الركعتين ركعتين، وإلى المغرب ركعة،  فصارت عديل الفريضة، لا يجوز تركهن إلا في سفر، وأفرد الركعة في المغرب فتركها قائمة في السفر والحضر، فأجاز الله عز وجل له ذلك، فصارت الفريضة سبع عشرة ركعة، ثم سن رسول الله (صلى الله عليه وآله) النوافل أربعاً وثلاثين ركعة مثلي الفريضة،  فأجاز الله عز وجل له ذلك، والفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة، منها: ركعتان بعد العتمة جالساً تعد بركعة مكان الوتر، وفرض الله في السنة صوم شهر رمضان،  وسن رسول الله (صلى الله عليه وآله) صوم شعبان، وثلاث أيام في كل شهر مثلي الفريضة، فأجاز الله عز وجل له ذلك، وحرم الله عز وجل الخمر بعينها، وحرم رسول الله (صلى الله عليه وآله) المسكر من كل شراب، فأجاز الله له ذلك كله، وعاف رسول الله(صلى الله عليه وآله) أشياء وكرهها ولم ينه عنها نهي حرام، إنما نهى عنها نهي إعافة وكراهة، ثم رخص فيها))[20].
 
الأمر الخامس: في معاني ومحتملات التفويض إليهم
ثمّ إنَّ المحتملات أو الأقوال في التفويض إليهم متعددة، فلنشر إليها إشارة:
 
الاحتمال الأول: روح الدين هو المنزل فقط
وهو ما سبق من أن روح الأحكام وجوهرها أوحي إلى النبي(صلى الله عليه وآله) مطلقاً، دون خصوصياتها وأركانها ونحوِ تَمَصْدُقها.
وهذا القول باطل تشهد الأدلة بخلافه، وقد سبق بعضها.
 
الاحتمال الثاني: المصالح والمفاسد هي الموحى بها دون الأحكام
وهو ما نسبه بعض الأعلام إلى الآخوند في الكفاية، فقد قال: ((الرأي الثاني: وهو ما ذكره المحقق الآخوند في الكفاية من أن المشرِّع في جميع الأحكام هو النبي(صلى الله عليه وآله) والأئمة(عليهم السلام)، وأما الوحي أو الإلهام فهو واسطة في إلهام المصالح والمفاسد إلى نفوسهم المقدسة، وحينئذٍ يشرعون بأنفسهم الأحكام على ضوء هذه المصالح والمفاسد الملهمة لهم)).
 
الاحتمال الثالث: الأحكام الشأنية موحى بها لكن دون إرادة أو كراهة من الله
وهو رأي صاحب الكفاية، فإن الظاهر عدم تمامية تلك النسبة إلى الآخوند في كفايته؛ وذلك لصراحته في أنّ (الحكم الشأني) قد أُوحي إلى النبي(صلى الله عليه وآله) أو ألهم إلى الإمام(عليه السلام) لا مجرد المصلحة أو المفسدة، بل الحكم الذي من شأن تلك المصلحة أو المفسدة اقتضاؤهُ قد أنشأه الله تعالى، وهو الذي أوحى به إلى النبي(صلى الله عليه وآله) غاية الأمر أنه شأني لا فعلي.
قال في الكفاية: ((حيث إنه مع المصلحة أو المفسدة الملزمتين في فعل وإن لم يحدث بسببها إرادة أو كراهة في المبدأ الأعلى إلا أنه إذا أوحى بالحكم الشأني من قبل تلك المصلحة أو المفسدة إلى النبي(صلى الله عليه وآله) أو ألهم به الولي فلا محالة ينقدح في نفسه الشريفة بسببهما الإرادة أو الكراهة الموجبة للإنشاء بعثاً أو زجراً))[21].
أقول: حيث إن الآخوند فسّر الإرادة في الله تعالى بعلمه بالصلاح والفساد؛ لذا لم يمكنه القول بإرادة الله تعالى للواجبات وكراهته للمحرمات؛ إذ كيف تُحدث المصلحة والمفسدة إرادة وكراهة لله تعالى[22]، فتكونان علة لإرادته وكراهته، فيلزم عليه التغير؛ لكون علمه عين ذاته؟ ولأنه أراد شيئاً ولم يرد شيئاً آخر، فكيف تكون الإرادة صفته، وصفاته عين ذاته؟ لذلك نَقَلَ الإرادة والكراهة إلى النبي(صلى الله عليه وآله)، وعليه وحسب كلامه: فإن الله يوحي إليه(صلى الله عليه وآله) بالمصلحة والمفسدة، ويوحي إليه بالوجوب الشأني للصلاة المحددة[23]، فيريد الرسول(صلى الله عليه وآله) أو الإمام الصلاة، فينشئ وجوبها الفعلي، فتكون واجبةً لازمة الاتباع، أي: منجزة معذرة.
ولا يخفى بطلان مبناه وبطلان ما بناه عليه؛ لضرورة اختلاف مفهوم العلم عن الإرادة وواقعهما، وللآيات الكريمة، ومنها قوله تعالى: (وَإذا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا)[24]؛ إذ لا يصح تفسيرها بـ (إذا علمنا أن نهلك قرية...)[25]، وكذلك (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا)[26]، و(وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)[27]. إلى غير ذلك.
والتحقيق: إن الإرادة من صفات الفعل لا من صفات الذات، فهي كالخلق والرزق، والذي يلزم من تغيره تغيّر الذات هو تغير صفات الذات، لا تغير صفات الفعل[28]، وعليه فالإرادة ـ وهي من صفات الفعل ـ حادثة متغيرة بحدوث أو تغير المصلحة والمفسدة، فليس الله تعالى منشأ للأحكام فقط، بل هو مريد لها وكاره.
نعم، ذهب السيد الوالد إلى رأي آخر، فراجع الوصول وتأمل فيه[29]، ولعل مرجع كلامه إلى أن الإرادة على نوعين: الإرادة الفعلية المقارنة لوقوع المراد، وهي من صفات الفعل، والإرادة القائمة به تعالى السابقة على الأشياء، وهي من صفات الذات، فتأمل.
 
الاحتمال الرابع: إرادة النبي (صلى الله عليه وآله) سبب وجوب الفعل
وهو ما احتمله النائيني أولاً، وهو: كما جاء في أجود التقريرات حيث قال: ((فإن قلت: بعد الفراغ عن أن النبي(صلى الله عليه وآله) لا ينطق عن الهوى، فما معنى كون الفرض منه في قبال فرض الله... قلت: يمكن أن يكون إرادة النبي(صلى الله عليه وآله) موجبة لوجوب فعل على المكلف بنفسها، كما لا يبعد أن يكون ذلك مقتضى تفويض الدّين إليه الثابت بالإجماع والضرورة، وحينئذٍ يكون كيفية الوجوب تابعة لإرادته، فإذا تعلقت إرادته بتقيد الواجب بشيء فلا محالة يكون مقيداً به))[30].
ولتوضيح كلامه يمكن التمثيل له بولاية الأب والأم، فإن إرادتهما لو تعلقت بأن يأتي ابنهما بفعل مباح بذاته فإنه سيتحول إلى واجب، لو كان تركه موجباً لإيذائهما أو مطلقاً، والأقرب التمثيل بإرادة المولى، فإنها سبب وجوب الفعل على العبد من غير تقييد بكونه يتأذى بالترك. فنفس إرادة الأبوين أو المولى كانت سبباً لوجوب الفعل على الابن أو العبد، وكذلك ـ بل أولى منه ـ إرادة النبي أو الإمام.
 
الاحتمال الخامس: إرادته (صلى الله عليه وآله) سبب تولّد المصلحة في الواقع
وهو ما احتمله النائيني ثانياً، حيث قال: ((على أنه لو تنزلنا عن ذلك فيمكن أن يقال: إن وجوب بقية الأجزاء ناشٍ عن مصلحة لا تتم إلا بإرادة النبي(صلى الله عليه وآله)، فجملة من الأجزاء يكون ملاكها ملزِماً على الإطلاق، وجملة أخرى يتوقف تمامية ملاكها على إرادته...))[31].
وتوضيح كلامه: إن الإرادة يمكن أن تؤثر في عالم التكوين فتغيّره، فيتبعه تغير المصلحة والمفسدة فالحكم بالتبع، أو يتبعه وجودهما أو عدمهما أو عدم المصلحة أو المفسدة بالمرة (في المباح).
ويقربه إلى الذهن: إن إرادة الدولة أو بعض الجهات كثيراً ما تغير الواقع تكوينياً في الاعتبارات[32]، فمثلاً: لو قررت الدولة شراء البيوت والأراضيَ في منطقة ما بعد شهر مثلاً، فإن أسعار كافة البيوت سترتفع فوراً من الآن، فقد أثّر مجرد القرار ـ بل حتى مجرد طرح احتماله ـ في رفع الأسعار، ولو قررت الدولة توزيع بيوت على الناس بعد فترة انخفضت الأسعار فوراً، وكذا لو قررت الدولة منع استيراد السيارات بعد ستة أشهر، فإن أسعارها ترتفع من الآن، أو قررت إجازة استيرادها بعد ستة أشهر فإن أسعارها من الآن تنخفض.
بل ثبت علمياً وتجربياً أن الإرادة قد تؤثر في الخارج تكوينياً في الحقيقيات[33]؛ ولذا نجد أن بمقدور بعض ذوي الإرادة القوية أن يحركوا الأجسام الثقيلة، أو يوقفوها معلَّقةً في الهواء بمجرد تركيز إرادتهم عليها، والأوضح والأقرب من ذلك تأثير الإرادة في الصحة والمرض، مثلاً: كما لو أراد طلاقها فإنها قد تمرض لذلك[34].
 
الأمر السادس[35]: نماذج فقهية من إعمال المعصوم (عليه السلام) ولايته التشريعية
إن الرسول والأئمة(عليهم السلام) أقروا أحكاماً يحتمل ـ بدواً ـ كونها أحكاماً واقعية أولية نازلة من الله تعالى، كما يحتمل كونها ممّا فُوِّض إليهم، وعلى الأول: فهي عامة لكل الأزمان والأمم والأقوام، وعلى الثاني: فلا بد من ملاحظة نوع تشريع المعصوم، وأنه شرّع ذلك لزمن خاص أو لكل الأمم، وعلى أي تقدير، فليس للفقيه ذلك، أي ولاية التشريع . وهذه بعض الأمثلة الفقهية:
أولاً: إن أمير المؤمنين وضع الزكاة على الخيول دينارين وديناراً[36]، ومن المعلوم أن الزكاة هي في الأمور التسعة، فهل كان وضعه عليها من باب تفويض التشريع إليه؟ ثم هل إنه شرَّعه لزمنه أو مطلقاً، أو أنه كان من باب آخر؟[37]
ثانياً: إن الإمام الصادق (عليه السلام) أجاز الذهاب إلى زيارة الإمام الحسين (عليه السلام)، بل حرَّض عليها[38] وإن كان فيها خوف قطع اليد، بل خوف القتل، مع أن الزيارة أمر مستحب، وحفظ النفس من أوجب الواجبات، فهل كان وجهه تفويض التشريع إليهم صلوات الله عليهم أو غير ذلك؟[39]
ثالثاً: إن الإمام الجواد (عليه السلام) فرض على الشيعة الخُمس في إحدى السنين مرتين.
رابعاً: وإنه فرض في سنة (220) الخمس على الذهب والفضة، التي قد حال عليها الحول[40]، مع أنهما مما تجب فيه الزكاة. وأشباه ذلك.
فلو كان وجه كل ذلك تفويض أمر الدين إليهم لما كان للفقيه أن يقوم بمثل ذلك بالبداهة، فهي موسعات للمعصومين(عليهم السلام) مضيقات للفقهاء.
وأما لو كان ذلك لوجه آخر فلا بد من ملاحظته من جهة، وملاحظة حدود أدلة ولاية الفقيه من جهة أخرى، فتدبر جيداً.
--------------------------------------
 
 
[28] ومقياس صفة الذات وصفة الفعل: أن ما أمكن أن يُثبَت له تعالى تارة، ويُنفى عنه أخرى، فهو من صفات الفعل، مثل (الخلق) إذ يقال: خلق الله زيداً، ولم يخلق حفيده، أو خلق سبع سماوات ولم يخلق الثامنة، أو خلق زيداً السبت ولم يخلقه الجمعة، وكذلك الإرادة إذ يقال: أراد الله أن يبعث الرسول ولم يرد أن يبعث غيره شريكاً له (كمسيلمة الكذاب مثلاً) وأما صفات الذات فهي ثابتة له مطلقاً، كالعلم والقدرة؛ إذ هو عالم أبداً قادراً أبداً، ولا يقال قَدِرَ ولم يقدر أو عَلِم ولم يعلم.
[29] انظر: الوصول إلى كفاية الأصول 3: 388 ـ 389، وفيه: ((... و لا يخفى أن ما ذكره المصنف من كون الإرادة في الباري تعالى هو العلم بالصلاح والفساد هو مختار بعض المتكلمين،  كالمحقق الطوسي ـ رضي الله عنه ـ  وغيره، وذهب آخرون إلى أن الإرادة من صفات الفعل لا من صفات الذات. والذي لا يبعد القول به هو أن الإرادة والكراهة من صفات الذات، ولا يلزم أن تكونا علماً، ولا من صفات الفعل؛ إذ تسمية العلم إرادة خلاف ظاهر الأخبار والآيات، بل والدليل أيضاً، كما أن جعلها من صفات الفعل خلاف ظاهرهما....)).
[38] بل نهى عن تركها، والروايات متعددة مذكورة في كامل الزيارات وغيره. انظر: كامل الزيارات: 227، ح 1، وفيه: عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: قال لي: ((يا معاوية، لا تدع زيارة قبر الحسين(عليه السلام) لخوف، فان من ترك زيارته رأى من الحسرة ما يتمنى أن قبره كان عنده، أما تحب أن يرى الله شخصك وسوادك فيمن يدعو له رسول الله(صلى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة والأئمة(عليهم السلام))). وفيه أيضاً ص: 243، ح 2: عن ابن بكير، عن أبي عبد الله(عليه السلام)، قال: قلت له: ((إني أنزل الأرجان وقلبي ينازعني إلى قبر أبيك، فإذا خرجت فقلبي وجل مشفق حتى ارجع خوفاً من السلطان والسعاة وأصحاب المسالح، فقال: يا بن بكير، أما تحب أن يراك الله فيناً خائفاً، أما تعلم أنه من خاف لخوفنا أظله الله في ظل عرشه، وكان محدثه الحسين(عليه السلام) تحت العرش، وآمنه الله من أفزاع يوم القيامة، يفزع الناس ولا يفزع، فإن فزع وقرته الملائكة وسكنت قلبه بالبشارة)).

 

  طباعة  ||  أخبر صديقك  ||  إضافة تعليق  ||  التاريخ : 8 جمادى الأولى 1438هـ  ||  القرّاء : 12662



 
 

برمجة وإستضافة : الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net