بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(602)
تتمة
سبق جوابان عن الاستدلال على تخصيص ((عَمْدُ الصَّبِيِّ وَخَطَأُهُ وَاحِدٌ))([1]) بباب الجنايات وعدم شموله للعقود بـ(أنه([2]) لا يستفاد المدعى من الرواية فانه لو قال عليه السلام عمد الصبي كلا عمد، لكان دالاً على المدعى ولكنه جعل عمد الصبي كخطائه، وظاهر هذه العبارة مشاركة هذين العنوانين فيما يترتّب عليهما من الأحكام وان كل حكم مترتب على الخطأ في غير الصبي يترتب على عمده لأن عمده خطاء فيختص بباب الجنايات ولا يشمل بقية الموارد فلا تدل الرواية على سلب الاعتبار عن كلامه كي يقال: انه لا أثر لإيجابه)([3]).
ومن المفيد الإشارة إلى تتمة الجواب الأول وهي ما ذكره السيد القمي بقوله: (وإن شئت قلت: مقتضى اطلاق الحديث أن عمد الصبي في وعاء الشرع كالخطأ على الاطلاق فإذا كان الخطأ موضوعاً لحكم اثباتي كباب الجنايات يترتب ذلك الأثر على عمد الصبي وإذا كان الخطأ في مورد لا يكون مورداً وموضوعاً للأثر يكون عمد الصبي كذلك فلا وجه لاختصاص الحديث بمورد خاص)([4]).
ثالثاً: (عمده خطأ) مطلق يشمل الموضوع والمورد
الجواب الثالث: ان ((عَمْدُ الصَّبِيِّ وَخَطَأُهُ وَاحِدٌ))، مطلق فيشمل صورة كون الخطأ موضوعاً للأثر (كما في باب الجنايات) وكونه مورداً ومحلاً للأثر وإن لم يكن موضوعاً له (كباب العقود) حيث الأثر هو للّاعمد لا للخطأ، كما قيل، لكن الخطأ مع انه ليس الموضوع للأثر لكنه مورد له، فعمد الصبي كخطأه لا أثر له سواء كان الخطأ موضوعاً للأثر أو مورداً له. بعبارة أخرى: الخطأ في المعاملات إما مقارن أو ظرف للّا اثر، وإطلاق أن عمده خطأ يعمّه فعمده يكون مقارناً للا اثر أو ظرفاً، وهو كاف في شمول الرواية لباب العقود. فتأمل.
رابعاً: يشمل السالبة المحصلة والموجبة المعدولة
الجواب الرابع: انّ ((عَمْدُ الصَّبِيِّ وَخَطَأُهُ وَاحِدٌ)) مطلق يشمل صورتي كون الأثر مسلوباً عن الخطأ بنحو السالبة المحصلة وكون اللااثر ثابتاً للخطأ بنحو الموجبة المعدولة، بيانه: انه تارة يقال: خطأ الصبي (أو الكبير) ليس له أثر فهذه سالبة محصلة وأخرى يقال خطأ الصغير (أو الكبير) له اللااثر فهذه المعدولة الموجبة، والفرق ان في الأول سلب الحمل وفي الثاني حمل السلب، كما ان الفرق الفني ان في الأول يقع ضمير هو بعد حرف السلب([5]) وفي الثاني يقع قبله([6]).
وفي باب العقود: يكفي كون الأثر مسلوباً عن فعل الصبي (والكبير المخطئ) بنحو السالبة المحصلة، ولا يشترط ان يكون ثابتاً له بنحو المعدولة الموجبة، فهذا مبنى جوابنا الثاني في الدرس السابق، وأما هذا الجواب فمع تسليمه الفرق بينهما وعدم كفاية السالبة المحصلة لكنه يبتني على ان الأمر في الخطأ بنحو المعدولة الموجبة وإذا كان من المعدولة الموجبة كان (اللا اثر) أثراً ثابتاً للخطأ، فصح ان الخطأ له أثر وحكم، وللعمد أثر وحكم، وقد نزّل هذا منزلة ذاك فيشمل العقود. وفيه تأمل.
خامساً: للخطأ أثر هو جعل عدم الحكم
الجواب الخامس: ما أجاب به العقد النضيد من ان للخطأ أثراً فانه وإن كان ظاهر الجملة([7])، في مثل العقود أن الخطأ لا أثر له أي لا حكم له، لكن الواقع هو ما يفيده التدبر في معنى الرفع، وهو ان عدم الحكم في مورد الخطأ يعود، واقعاً، إلى حكم الشارع بالعدم أي حكم الشارع في الخطأ بجعل عدم الحكم وليس عدم جعله الحكم.
والحاصل: ان عدم الحكم أمر مجعول فللخطأ حكم مجعول فصار كالعمد الذي له حكم مجعول فصح ((عَمْدُ الصَّبِيِّ وَخَطَأُهُ وَاحِدٌ)) إذ لكليهما حكم مجعول لكن العمد حكمه المجعول وجودي والخطأ حكمه المجعول عدمي (جعل عدم الخطأ)، ويقارب هذا الجواب ما طرحناه في المعدولة الموجبة.
وهذا الجواب مبني على مبنى التزم به المحقق الاصفهاني وبعض آخر من ان مدلول حديث الرفع هو جعل عدم الحكم لا عدم جعل الحكم، وتوضيحه ودليله بعبارة أخرى انه: (قيل في خصوص حديث الرفع أنّ البراءة الشرعية الحاصلة تعدّ رفعاً ظاهرياً للحكم الواقعي، وهذا الرفع معدود في المجعولات الشرعية، بخلاف قوله "كل شيء لك حلال" فإنّ المجعول فيه هي الإباحة، فالمجعول بحديث الرفع هو الحكم الظاهري وهو مجعول شرعي)([8]) وجوهر استدلاله هو ما ورد في قوله: (لكن الجعل متعلّق بعدم الحكم، لأنّ عدم فعليّة الحكم الواقعي بعدم الوصول عقلي، والأمر العقلي غير قابل للوضع والرفع، فإذن مدلول حديث الرفع ليس عدم فعليّة الحكم الواقعي، بل مدلوله اعتبار عدم الحكم وجعل ذلك عند الشك في الواقع بالنسبة إلى ما لا يعلمون وكذلك)([9]).
والمقصود واضح، رغم بعض الاضطراب في العبارة ومنه التناقض بين قوله (لكن حديث الرفع قسمان: قسم منه حكم ظاهري وذلك بالنسبة لقوله "ما لا يعلمون"، وقسمٌ آخر منه حكم واقعي وذلك في "الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه وما اضطروا إليه"، حيث أنّ الرفع في هذه الأربعة رفع واقعي وهو أثر الواقع)([10]) وبين قوله: (فإذن مدلول حديث الرفع ليس عدم فعليّة الحكم الواقعي، بل مدلوله اعتبار عدم الحكم وجعل ذلك عند الشك في الواقع بالنسبة إلى ما لا يعلمون وكذلك بالنسبة إلى الخطأ والنسيان)([11]) حيث عد الرفع في الخطأ والنسيان تارة من الرفع الواقعي وأخرى من الرفع الظاهري، والصحيح ان الإكراه والاضطرار، لهما حكم واقعي ثانوي، أما ما لا يعلمون (الجهل) والخطأ والنسيان، فليس لها حكم واقعي ثانوي بل حكم ظاهري([12]) فقط([13]) سواء أقلنا بانه عدم جعل الحكم، أم قلنا بانه جعل عدم الحكم. وللبحث تتمة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((الْعَالِمُ بَيْنَ الْجُهَّالِ كَالْحَيِّ بَيْنَ الْأَمْوَاتِ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى حِيتَانُ الْبَحْرِ وَهَوَامُّهُ وَسِبَاعُ الْبَرِّ وَأَنْعَامُهُ، فَاطْلُبُوا الْعِلْمَ فَإِنَّهُ السَّبَبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ)) (الأمالي للطوسي: ص521)
------------------------------
([1]) الشيخ الطوسي، التهذيب، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج10 ص233.
([3]) السيد تقي الطباطبائي القمي، مباني منهاج الصالحين، منشورات قلم الشرق، ج8 ص302-303.
([5]) خطأه ليس هو بذي أثر كما تقول: زيد ليس هو بعالم.
([6]) خطأه هو لا ذو أثر أو هو اللامؤثر كما تقول زيد هو اللاعالم.
([8]) الشيخ محمد رضا الأنصاري القمي، العقد النضيد، دار التفسير ـ قم: ج2 ص449.
([12]) أي بما هي منسوبة إلى الواقع، وإن كان لها أحكام فرضاً بما هي هي، أي بما هي حقائق.
([13]) أي إضافة إلى الحكم الواقعي الأولي.
([1]) الشيخ الطوسي، التهذيب، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج10 ص233.