بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(610)
من شرائط صحة العقد الا ختيار والرضا
قال الشيخ ( قدس سره ): (مسألة: ومن شرائط المتعاقدين: الاختيار.
والمراد به القصد إلى وقوع مضمون العقد عن طيب نفسٍ، في مقابل الكراهة وعدم طيب النفس، لا الاختيار في مقابل الجبر)([1]).
وبعبارة أخرى: انّ من شرائط صحة العقد، شرائط مصبّها المتعاقدان كالبلوغ كما سبق وكالاختيار، والمراد به، بحسب الشيخ ( قدس سره )، هو طيب النفس؛ وذلك لأن الاختيار له ضدان: الجبر والكراهة، والمراد بالجبر ما تسلب معه القدرة كحركة يد المرتعش فانها ليست اختيارية بل هي اضطرارية وعن جبر وإن لم يسمّ جبراً اصطلاحاً لأنه بحسب المصطلح فيما لو كان هنالك شخص قاهر جابر، ومثاله في المقام: ما لو أمسك بيده قسراً وحرّكها ليمضي على المعاملة أو ليقرّ على أمر فانه غير مختار بمعنى انه مجبور، وليس هذا المعنى هو المقصود بالبحث هنا لأنه معه، أي مع عدم الاختيار بمعنى الجبر، لا تنعقد إلا صورة البيع ولا يتحقق مفهومه إذ لا يتحقق منه قصد الإنشاء؛ وإلا كان مختاراً غير مجبور؛ فان القصد والإنشاء أمر اختياري، فالمراد هو المعنى الثاني المضاد للاختيار وهو الكراهة وهي ما لو صدر عنه الفعل من دون رضا وطيب نفس.
مقوِّما ت الاختيار
وقد فسّر الشيخ الاختيار بما يتضمن قيوداً ثلاثة:
الأول: (القصد) وهو يقابل أمرين:
أحدهما: ما لم يكن فيه قصد للّفظ، كالغالط، كما إذا أراد القول بعتُ فقال: وهبت فانه ليس قاصداً للفظ الهبة، بل هو مجرد سبق لسان.
ثانيهما: ما يقصد فيه اللافظ اللفظ ولكن لا بما هو حاك عن المعنى، وذلك كمن لا يعرف اللغة والألفاظ ومعانيها، وكالمتمرن على أداء الألفاظ من مخارجها الصحيحة، فانه كثيراً ما يغفل عن جهة حكايتها للمعاني.
الثاني: أن يكون وقوع مضمون العقد مقصوداً له، إذ قد يقصد اللفظ والحكاية ولكن لا يقصد وقوع المضمون، وذلك كالهازل فانه، بحسب تعبير المحقق النائيني في منية الطالب، لا يقصد إيجاد المادة بالهيئة خارجاً بل إنما يقصده صورةً وهزلاً([2]).
الثالث: أن يكون ذلك كله عن طيب نفس ورضىً، لا عن ضغط ضاغط وإكراه مكره، كما لو قال له: بِع دارك وإلا قتلتك.
ولنقدم للبحث كله بإشارات عابرة إلى بعض البحوث:
الإكراه غير الكُره
الأول: انّ الإكراه غير الكُره، فان معاملات المكرَه باطلة، أما معاملات من باع كرهاً لا عن إكراه صحيحة، قال السيد الوالد (ظهر مما تقدم: أن المعيار الإكراه لا الكره، إذ الثاني يجتمع مع الاختيار والاضطرار والإلجاء، من داخل النفس أو خارجه، من الإنسان أو غيره، فمن طاردته الريح فباع أثاثه فراراً إلى بلده باع بكره لا بإكراه بمعناه الاصطلاحي، وهكذا من ألقي في غياهب السجن بإلجاء كارهٌ، لا مكرَهٌ ـ بالفتح ـ كذلك.
ولذا لا يقال: كيف يتحقق الكره بدون الإكراه، كما لا يعقل الكسر بدون التكسير، إذ المراد الاصطلاح كما عرفت، وإلا فكل كره لابد له من مكرِه ـ بالكسر ـ خارجي أو داخلي، فإن النفس قد تقوم بفعل الفاعل والمفعول كمن يؤدب نفسه، إلى غير ذلك)([3]).
والحاصل: ان الإكراه لا بد فيه من مُكرِهٍ بَشَرِي أي بشرط كونه إنساناً وإلا لم يصدق الإكراه، أما الكُره فانه يتحقق في كل ما يصدر منه لا عن طيب نفسه، سواء ءأكرهه إنسان، أم كان السبب حيوان مؤذٍ أو طبيعة ضارة.
الإكراه الحق والإكراه بالحق، غير مبطلين للعقد
الثاني: انّ الإكراه المبطل للعقد المشمول لقوله (صلى الله عليه واله ): ((وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعُ خِصَالٍ: ... وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ...))([4]) هو (الإكراه الباطل بالباطل) فيخرج صنفان: 1- الإكراه بالحق 2- الإكراه الحق.
والأول هو ما أشار إليه المحقق اليزدي بقوله: (أقول: إنّما يشترط ذلك إذا كان الإكراه بغير حقّ، وأمّا في ما لو كان بحقّ فلا يشترط، بل يصحّ بيعه مع عدم الرّضا منه، كما في بيع المحتكر إذا أمره الحاكم الشرعي، وكما في بيع الطعام أو غيره على من هو مشرف على الهلاك عند إجبار الحاكم أو عدول المؤمنين أو فسّاقهم أو نفس ذلك المشتري)([5]) والسبب: ان إبطال هذا النوع من العقد الإكراهي خلاف الامتنان وقد ورد حديث الرفع مورد الامتنان. والواسطة واسطة في الثبوت لا العروض فكل إكراهٍ بغير حق إكراهٌ باطل، وكل إكراهٍ بالحق، إذا قصد به الواجب، إكراهٌ حقٌ. فتدبر
والثاني هو ما أشار إليه السيد الوالد بقوله: (الإكراه المشروع: ثم اللازم أن يكون الإكراه غير مشروع، فلو طلبه القصاص فأمره بالبيع وإلاّ اقتص، وكذلك تقاص لم يكن منه)([6]) فانه إكراه حق أي مما يحق له أن يشترط عليه لإسقاط حقه في القصاص أو التقاص، ان يبيع له داره مثلاً فإن لم يبع اقتص منه بحسب حقه الشرعي، عكس ما لو هدده بانه إن لم يبع ضربه بالباطل عدواناً.
نعم الواسطة واسطة في الثبوت لا العروض فكل إكراه بالباطل إكراه باطل، ولكن ليس كل إكراه على حق في نفسه، حقاً.
لا فرق بين المكره والمضطر من حيث الرضا
الثالث: انّه فُرِّق بين الـمُكرَه والمضطر، بأنّ المكره لا رضى له ولا طيب نفس له، عكس المضطر كمن اضطر إلى بيع داره لتوفير أموالٍ لعلاج إبنه، ولكنّ المحقق اليزدي لم يرتض ذلك وذهب إلى ان المضطر والمكره كلاهما فاقد للرضى وطيب النفس الأولي، لكنهما واجدان للرضا وطيب النفس الثانوي وبعد الكسر والانكسار وإعمال الأهم والمهم.
وفرّع عليه: انّه لا يصح الاستدلال على بطلان عقد المكره بانه لا طيب له وبقوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ} (سورة النساء: الآية 29) و((لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ))([7]) ((وَلَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ مَالُ أَخِيهِ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ))([8]) بل ذهب ( قدس سره ) إلى أن الإكراه عنوان مستقل بحسب بعض الروايات بمعزل عن الرضى وطيب النفس.. وسيأتي بحث ذلك بإذنه تعالى.
سؤال تمريني: لماذا تبطل معاملة المكره ولا تبطل معاملة المضطر مع ان كليهما مشمول لحديث الرفع ((وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعُ خِصَالٍ: ... وَمَا اضْطُرُّوا إِلَيْهِ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْه))؟
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الكاظم (عليه السلام): ((الْمُؤْمِنُ مِثْلُ كَفَّتَيِ الْمِيزَانِ كُلَّمَا زِيدَ فِي إِيمَانِهِ زِيدَ فِي بَلَائِهِ))
تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه واله ): ص408.
--------------------------------------
([1]) الشيخ مرتضى الانصاري، المكاسب، ط تراث الشيخ الأعظم، ج3 ص307.
([3]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، موسوعة الفقه، كتاب البيع، انتشارات خوشنواز ـ اصفهان، ج114/3 ص115.
([4]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج2 ص463.
([5]) السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، حاشية المكاسب، مؤسسة إسماعيليان ـ قم، ج1 ص118.
([6]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، موسوعة الفقه، كتاب البيع، انتشارات خوشنواز ـ اصفهان، ج114/3 ص116.
([7]) ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلئ، دار سيد الشهداء (عليه السلام) ـ قم، ج3 ص473.
([8]) الحسن بن شعبة الحراني، تحف العقول، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ص30.
قال الإمام الكاظم (عليه السلام): ((الْمُؤْمِنُ مِثْلُ كَفَّتَيِ الْمِيزَانِ كُلَّمَا زِيدَ فِي إِيمَانِهِ زِيدَ فِي بَلَائِهِ))