بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(649)
الصدر: المصلحة في المباح الإقتضائي، وراء الإباحة الظاهرية
سبق أن الشهيد الصدر ارتأى قيام المصلحة والمفسدة في المؤدى لا في الحكم (أو الجعل) في الأحكام الظاهرية، ولكن مع فذلكة فنية لطيفة وهي: أنّ المصلحة في مؤدى أمر آخر لا في مؤدى الحكم الظاهري نفسه (ليلزم التنافي)، كما ليست في الحكم (أو الحكم) بل ان أهمية مؤدى أمر، كالمباح الإقتضائي، أوجبت الحكم الظاهري في أمر آخر هو المحرم الواقعي الذي يحمل المفسدة مثلاً، حفاظاً على ملاك ذلك الأمر الأول، قال: (وأما إذا كانت الإباحة الواقعية ذات ملاك اقتضائي، فهي تدعو - خلافا للحرمة - إلى الترخيص في كل ما يحتمل اباحته، لا لان كل ما يحتمل اباحته ففيه ملاك الإباحة، بل لضمان اطلاق العنان في المباحات الواقعية الموجودة ضمن محتملات الإباحة، فهو ترخيص ظاهري ناشئ عن الملاك الاقتضائي للمباحات الواقعية والحرص على تحقيقه. وفي هذه الحالة يَزِن المولى درجة اهتمامه بمحرماته ومباحاته، فإن كان الملاك الاقتضائي في الإباحة أقوى واهم رخّص في المحتملات، وهذا الترخيص سيشمل المباح الواقعي والحرام الواقعي إذا كان محتمل الإباحة، وفي حالة شموله للحرام الواقعي لا يكون منافيا لحرمته، لأنه لم ينشأ عن ملاك للإباحة في نفس متعلقه، بل عن ملاك الإباحة في المباحات الواقعية والحرص على ضمان ذلك الملاك. وإذا كان ملاك المحرمات الواقعية أهم، منع من الاقدام في المحتملات ضمانا للمحافظة على الأهم)([1]).
توضيح وتقوية
وتوضيح ما طرح في المباح الإقتضائي، يظهر بالمثال المقابل له، إذ تعرف الأشياء بأضدادها، فانه إذا اشتبه الحرام بين أمرين (ولنفرض أن أحدهما ميتة والآخر مذكى) فإن كان ملاك الحرام ومفسدته أهم بنظر الشارع من ملاك الحلال، فانه يحكم حينئذٍ بالاحتياط بتجنبهما، وهو حكم ظاهري، نظراً لاهتمامه البالغ بعدم تورط العبد في مفسدة الحرام فكان تحريمه للاقتحام في طرفي الشبهة مقدمةً، أو شبيهاً بالمقدمة([2])، لعدم التورط في مفسدة الحرام.
والحاصل: ان تحريم الطرفين الذي يعني ضمناً تحريم المذكى ظاهراً: 1- لم يكن لمفسدة فيه، 2- ولم يكن لمصلحة في الحكم نفسه أي في تحريمه كما قال به الآخوند، 3- بل كان حفاظاً عن الوقوع في المفسدة التي في الميتة.
إذا ظهر ذلك نقول: كذلك حال الإباحة أو الحلية الظاهرية لما في سوق المسلمين مثلاً مع أن بعضها غير مذكى، أو لما في أيدي المسلمين والحكم بأنها ملك لهم مع أن بعضها مغصوب حتماً، أو الحكم الظاهري على طبق البيّنة أو الإقرار مع أن كثيراً منها مخالفة للواقع، إذ قد تشهد البيّنة زوراً وقد يكذب في إقراره على نفسه، ففي جميع هذه الموارد فإن مصلحة الإباحة الاقتضائية كانت هي الأقوى بنظر الشارع ولذلك رجّحها على مراعاة جانب المفسدة الواقعية.
إن قلت: ما الدليل على ذلك؟
قلت: الدليل هو البرهان الإنّي إذ اكتشفنا ذلك من حكمه بحلية كل ما في سوق المسلمين بدون فحص، بدل حكمه بالاحتياط بالاجتناب عنها جميعاً.
فبذلك ظهر أن الملاك والمصلحة في إباحة ما في سوق المسلمين ليست قائمة بالإباحة نفسها، كما قاله الآخوند، بل قائمة بالمؤدى، أي بذلك المباح الواقعي المختلط بالحرام الواقعي والذي لأجل الوصول إليه وإحرازه أباح الشارع كل المشتبهات لأنه إن حكم بالاحتياط حَرَمنا منه لصالح تجنب المفاسد الثبوتية، مع أن المفروض (المستكشف بالبرهان الإنّي كما سبق) أن مصلحة المباح الإقتضائية أقوى من مفسدة الحرام الثبوتية.
المناقشة: مصلحة التسهيل هي السبب لا ضمان ملاك الإباحة الإقتضائية
ولكن يرد عليه: أن الظاهر أن كلام المحقق الخراساني هو الصحيح، وأن حكم الشارع بالإباحة الظاهرية في السوق واليد... إلخ كان لمصلحة في الحكم (وهو الإباحة نفسها) لا لأجل تغليب المصلحة في الإباحة الإقتضائية في المباح الثبوتي، على المفسدة في المحرم الثبوتي؛ وذلك لوضوح أن المصلحة في الحكم بالإباحة لكل ما في السوق واليد و... هو التيسير على العباد فإن إباحة الشراء من السوق فيه تيسير عليهم أيُّ تيسير، وذلك هو ما دلَّ عليه الدليل كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (سورة البقرة: الآية 185) {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (سورة الحج: الآية 78) وأما احتمال ترجيح الشارع الملاك الإقتضائي في المباح على ملاك المفسدة في الحرام، فهو مجرد احتمال لا دليل عليه أبداً غاية الأمر إمكانه، بل نقول الدليل على خلافه، لدى العقلاء وبالنظر إلى ظواهر الأدلة:
لدى العقلاء
أما لدى العقلاء، فإن سيرة العقلاء قائمة على قاعدتي اليد والسوق، في كل الملل والنحل، نعم قد تكون القاعدتان لدى الشارع أوسع، لكن أصل لقاعدتين مما لا شك فيه لدى العقلاء إذ قوام معيشتهم وحياتهم عليها، في الجملة، وكذا الإقرار والبيّنة ونظائرهما، غاية الأمر أن سيرة العقلاء دليل لبّي لا إطلاق له فلا يشمل مورد الشك، وعندما نتأمل الوجه في سيرة العقلاء وبنائهم ندرك بوضوح أنه هو التسهيل على الناس والتيسير عليهم (والعقلاء ببابك فاسألهم)، وليس (لأن في المباحات الواقعية المشتبهة مع المحرمات الواقعية) ملاك إباحةٍ اقتضائيٍ قوي جداً وان العقلاء بنوا على حلّية ما في السوق وملكية ما في الأيدي لأجل إحراز المباح والوصول إليه وتغليب مصلحة الإباحة في المباح والمذكى على مفسدة الغصب والميتة لدى وزنهما، فإن ذلك مما لا يخطر ببال العقلاء أصلاً بل إذا قيل لهم يستنكرونه، وإنما الذي يدور في أذهانهم مصلحة التسهيل ولزوم العسر والحرج من عدم الحكم بالإباحة الظاهرية.
بوجه آخر: في السوق واليد مصلحة سلوكية وهي بناء حياة الأمم على الاعتماد المتقابل بين الناس، وهذا وجه آخر إذ يعتمد على المصلحة السلوكية في السوق، وهو غير المصلحة في الإباحة نفسها وهي التسهيل، وكلاهما مغاير لكون العلة (علّة الإباحة الظاهرية) التحفظ على المباح الإقتضائي والوصول إليه.
كما تدل على ذلك الروايات التي تنيط الأمر بـ(سوق المسلمين) فان ظاهرها أن الوجه في الإباحة كونه سوق المسلمين الظاهر في أن المصلحة في إقرار نظام السوق بما هو سوق أو بما هو محقّق للتسهيل على العباد، لا أن المصلحة في المباح الإقتضائي كانت قوية بحيث جوّز الشارع الاقتحام في الحرام الواقعي (وإباحته ظاهراً) معتبراً إياه جسراً موصلاً للمباح الإقتضائي ضامناً له!
بوجه آخر: كان من الممكن، بل الأرجح لو كان الملاك هو المحافظة على المباح الواقعي وضمان ملاكه، بدل إباحة الكل من محرم واقعي ومحلل، هو أن يأمر الشارع بالفحص فانه حينئذٍ يجمع بين الحقوق بأفضل وجه فمن جهة ننال به، عادةً، المباح الواقعي، ومن جهة نتجنب الوقوع في الحرام الواقعي، ولكن لِمَ لم يوجب الشارع الفحص؟ لمجرد أن التسهيل في خلافه وانه موجب لبعض العسر والحرج.
والحاصل: لو كان مدار همّ الشارع نيلنا المباحات الواقعية والحرص على ضمان تحقق ملاكها (لا العسر والحرج) لكان الواجب أن يوجب الفحص الذي به نناله من دون أن نقع في مفسدة الحرام، لكنه لم يوجب الفحص وحكم بالإباحة الظاهرية من دونه والذي به نقع في مفسدة المحرمات المختلطة فلا يتصور لذلك وجه إلا مصلحة التسهيل على العبيد التي ترجح على مفسدة الوقوع في الحرام المختلط، فلم يوجب الفحص لأنه أراد التسهيل فهو المدار، ولو أراد مجرد الحفاظ على المباح الإقتضائي لأوجب الفحص الذي به نناله كما نتجنب في الوقت نفسه الحرام الواقعي فتدبر.
وبحسب الروايات
وتشهد على ما ذكرناه ظواهر الروايات الشريفة أيضاً، منها صحيحة فضيل وزرارة ومحمد بن مسلم ((أَنَّهُمْ سَأَلُوا أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ شِرَاءِ اللَّحْمِ مِنَ الْأَسْوَاقِ وَلَا يَدْرُونَ مَا صَنَعَ الْقَصَّابُونَ، قَالَ: كُلْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ))([3]) فالمقياس إذاً كونه في سوق المسلمين، الظاهر منه عرفاً أن سبب الإباحة كونه في سوق المسلمين، المستفاد منه المصلحة السلوكية أو مصلحة التسهيل وقيام مصلحة التسهيل على العباد بإباحة ما في سوقهم واعتباره امارة على الملكية، ومن البعيد جداً كون وجه تعليق الحكم بالإباحة على سوق المسلمين، هو المحافظة على ذلك المباح الواقعي فانه غريب عنه بالمرة([4]).
وكذلك ما ورد في دعائم الإسلام عن أبي جعفر (عليه السلام) ((أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ الْجُبُنُّ الَّذِي يَعْمَلُهُ الْمُشْرِكُونَ وَ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ فِيهِ الْإِنْفَحَةَ مِنَ الْمَيْتَةِ وَمِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ؟ قَالَ: إِذَا عُلِمَ ذَلِكَ لَمْ يُؤْكَلْ، وَإِنْ كَانَ الْجُبُنُّ مَجْهُولًا لَا يُعْلَمُ مَنْ عَمِلَهُ، وَبِيعَ فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ فَكُلْهُ))([5]).
وعن أبي الجارود قال: ((سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنِ الْجُبُنِّ؟ وَقُلْتُ لَهُ: أَخْبِرْنِي مَنْ رَأَى أَنَّهُ يُجْعَلُ فِيهِ الْمَيْتَةُ، فَقَالَ: مِنْ أَجْلِ مَكَانٍ وَاحِدٍ يُجْعَلُ فِيهِ الْمَيْتَةُ حُرِّمَ فِي جَمِيعِ الْأَرَضِينَ؟! إِذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ مَيْتَةٌ فَلَا تَأْكُلْهُ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ فَاشْتَرِ وَكُلْ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْتَرِضُ السُّوقَ فَأَشْتَرِي بِهَا اللَّحْمَ وَالسَّمْنَ وَالْجُبُنَّ، وَاللَّهِ مَا أَظُنُّ كُلُّهُمْ يُسَمُّونَ، هَذِهِ الْبَرْبَرُ وَهَذِهِ السُّودَانُ))([6]) والظاهر منه عرفاً: انه من أجل حرام واحد لا يوقع الشارع العباد في العسر والحرج ويحرم كل شيء. فتدبر
وعلى ذلك كله ينبغي، على المبنى، تطوير أو تفسير عباراته فقوله: (فهي تدعو...) نقول: بل مصلحة التسهيل تدعو لا الإباحة الإقتضائية، وقوله / (فهو ترخيص ظاهري ناشئ...) نقول بل هو ترخيص ظاهري ناشئ عن مصلحة التسهيل / وقوله (وفي هذه الحالة يزن...) نقول: بل كي لا نقع في عسر وحرج أباح المولى الكل وإلا لأمكن أن يأمر بالفحص مطلقاً أو البالغ منه، كي يحافظ على كلا الملاكين المتزاحمين على الفرض.
* * *
- حاول أن تدافع عن مبنى الشهيد الصدر، وحاول أن تناقشه أيضاً.
- أشكل على ما ذكرناه أو أيّده.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((عَجِبْتُ لِمَنْ يَقْنَطُ وَمَعَهُ الِاسْتِغْفَارُ)) (نهج البلاغة: الحكمة 87).
-------------------
([3]) الشيخ الطوسي، التهذيب، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج9 ص73.
([5]) نعمان بن محمد التميمي المغربي، دعائم الإسلام، دار المعارف ـ مصر: ج2 ص126.
([6]) أحمد بن محمد بن خالد البرقي، المحاسن، دار الكتب الإسلامية ـ قم: ج2 ص495.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((عَجِبْتُ لِمَنْ يَقْنَطُ وَمَعَهُ الِاسْتِغْفَارُ)) (نهج البلاغة: الحكمة 87).