178- 1ـ الكذب في المخالطة من نوع مخالفة ( القيد والظرف ) مثالان : أ ـ الالفاظ موضوعة للمعاني بما هي موجودة في الذهن ب ـ ان الله في القران يكلم الانسان في التاريخ 2ـ الكذب في مخالطة ايهام اللبس ( بين الانسابية والنسبية وبين الاخبار عن الواقع ومثال : الصدق والكذب في اختلاف المجتهدين او عن النظر
السبت 1 ربيع الثاني 1435هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
كان البحث حول مسألة نسبية الكذب، وانه، أي الكذب، هل هو نسبي بمعنى انه يختلف باختلاف الانظار او لا؟ فلو قال الشخص الاول شيئا ما فهو صدق مثلا ولكن لو قال الثاني عين ما قاله الاول فهو كذب، كما هو الحال في اختلاف المجتهدين في مسألة الرضاعات المحرمة من كونها خمس عشرة رضعة او عشر رضعات. وكذلك في مسألة قضاء نوافل النهار في الليل في كونه حراما او جائزا أو مستحباً، فلو افتى الفقيه الاول بالحرمة فهو صادق لو طابقت فتواه نظره، ولكن لو افتى الفقيه الاخر بنفس الراي من الحرمة فهو كاذب؛ إذا كان مؤدى نظره هوعكس ما ذكره.
الجواب: الربط بين البحث المنطقي في (المغالطة) والتطبيق الفقهي لذلك
بعد التدبر في المسألة اكثر وجدنا ان هذا البحث يمكن ان يعطى عمقا اكثر وتأطيرا اوضح من خلال ايجاد الجسر الرابط بين البحث المنطقي المعروف في الصناعات الخمس وهو بحث (المغالطة) وبين بحثنا الفقهي، ففي المنطق وفي بحث الصناعات يتناول هناك صناعة المغالطة, وفيها عدة انواع، منها مثلا ايهام الانعكاس وكذلك أخذ أو جعل ما بالعرض ما بالذات وهكذا .
وهنا نقول: ان هذا المبحث المنطقي يمكن ان يدرس من الناحية الفقهية في مسألتنا المذكورة ببيان: ان المغالطة هي قسم من اقسام الكذب، وهذا الربط والتجسير هام جداً لأن انواع المغالطة تتضمن عشرات الالوف من المسائل من الناحية الفقهية، كما ان ما ذكرناه من كون الكذب نسبياً او انتسابياً يجري في المقام([1]).
اطاران في المقام:
ونذكر الاطار الاول من أطر المغالطة وهو الإطار التي تنطبق على بحثنا فنقول:
ان من اقسام الكذب، وان شئت فقل من اقسام المغالطة مغالطة القيد والظرف وكذلك مغالطة الانتسابية والنسبية([2]) ويندرجان في ايهام اللبس - وكلها مصطلح جديد وضعناه لمسيس الحاجة – فان كل هذه من الكذب.
اما مغالطة القيد والظرف فنوضحها بذكر مثالين:
المثال الاول: وضع الالفاظ للمعاني الذهنية
اما المثال الاول - هو مثال تمهيدي معروف قد ذكر في المنطق - فهو (ان الالفاظ موضوعة للمعاني بما هي موجودة في الذهن)، والامر هو كذلك فان لا موطن للمعاني إلا الذهن، وعملية الوضع هي عملية ذهنية، وهذه قضية واضحة فهي صحيحة وصادقة إذن.
ولكن ينشأ من ذلك مشكلة وهو ان هذه القضية الواضحة يترتب عليها ان اللفظ الموضوع لمعنى معين لو استعمل في الحقائق الخارجية فان ذلك يكون من المجاز لا الحقيقة لأن لفظ ماء – على حسب تلك القاعدة - قد وضع للماء والمعنى الذهني ولو استعمل كما في (جئني بماء) فان المراد منه ليس الصورة الذهنية وانما السائل المتحقق خارجا أي الماء الخارجي لأنه الذي يترتب عليه الاثر فيكون مجازاً لأنه من قبيل استعمال اللفظ الموضوع للكل في الجزء([3])، وكما هو بديهي فان الاعم الاغلب من استعمالات الالفاظ انما هو بلحاظ دلالتها على الخارج
وعليه: فلن يكون لدينا حقيقة بالمرة فيرتفع تقسيم اللفظ واستعماله في معناه وانه اما على نحو الحقيقة أو على نحو المجاز
كشف وجه المغالطة :التفريق بيين القيدية والظرفية
ولكن توجد فيما ذكر وجه مغالطة دقيق وبه يكشف وجه صدق القضية أو كذبها وهو ان عبارة (بما هي في الذهن) تحتمل معنين القيدية والظرفية أي: ان هذه العبارة هي اما قيد او ظرف؟- وهذا هو منشأ الكثير من اللبس -، أي: هل الالفاظ موضوعة للمعاني في ظرف الذهن([4])؟ او هي موضوعة للمعاني بقيد انها موجودة في الذهن؟
فلو قلنا بالقيدية للزم من ذلك المجاز والكذب، ولكن لو قلنا بالظرفية والمرآتية فان الاستعمال حقيقة وهو صادق.
اذن: المغالطة تنشأ من ايهام لبس القيد بالظرف، وعليه فلابد من التدقيق كثيرا لكشف هكذا مغالطة للوصول الى الحق. هذا هو المثال الاول و قد ذكرناه لجهة تمهيده وثمرته العلمية.
المثال الثاني: تاريخية القضايا التشريعية
واما في المثال الثاني فنذكر ما قاله احد الفلاسفة الغربين من علمانيي الفكر – حيث يقول (ان الله تعالى في قرانه الكريم – وايضا في التوراة والانجيل – قد كلم الانسان في التاريخ)، ومن هنا فهو يستنتج تاريخية القضايا التشريعية([5])
وعليه: فكل من حكم الصوم والصلاة والارث وغيرها هذه مرتبطة بالإنسان المُكلّم بها والموجود فقط في مكة في عصر النبي الاكرم ( صل الله عليه وآله وسلم )، وفي عصر التنزيل لا غير.
كشف المغالطة (في التاريخ) ظرف لا قيد
وهذا الكلام فيه نوع مغالطة وذلك لأن الانسان محاط بالزمان والمكان والحدث والتاريخ وليس هو بمجرد عنها، كما هو واضح.
ولكن المغالطة في المقام هي من نوع مغالطة القيد والظرف وايهام اللبس؛ اذ ان الله تعالى قد كلم الانسان وهو في تاريخه المعين ولكن هذه التاريخية هي على نحو الظرف لا القيد، وقيدية التاريخية المدعاة من قبله لا دليل عليها([6]) بل الدليل قائم على العدم في عامة تشريعات الشارع الأقدس إلا النادر منها.
توضيح ذلك: ان القضايا التي توجه (للإنسان في التاريخ) هي على نحوين:
اما النحو الاول منها فهي التي توجه له بما هو انسان، إلا انها لا بشرط من حيث الزمان والمكان والتاريخ؛ إذ ان التاريخ ليس شرطا او شطرا او مانعا او قاطعا في تأثير الحكم، كما هو الحال في قوله تعالى: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) فهذه اية مباركة قد وجهت إلى الانسان بما هو إنسان أي أمرته بالعدل المقرب للتقوى ولكن لا بقيدية التاريخ, بل الحال في كل زمان كذلك.
واما النحو الثاني من الخطاب – وهو الاقل الاندر – فهو الذي قد أخذ التاريخ الموجود فيه الانسان كجزء لموضوع الحكم، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) فالقضية هنا تاريخية([7]) وهو - أي الزمان والظروف الخاصة - قيد فيها لوجود قرينة خاصة في المقام([8]).
والاعم الاغلب والقاعدة في الخطاب والتشريع الإلهي ان التاريخ لم يؤخذ فيها كقيد، بل هو ظرف([9])
والمتحصل: ان منشأ المغالطة هو ايهام لبس الظرف وكونه هو القيد، أي انه استند إلى صحة (الإنسان في التاريخ) لإثبات ان (في التاريخ) قيد لا ظرف مع انه أعم منهما فلا يصلح دليلاً على احدهما. فتدبر هذا هو الاطار الاول
الاطار الثاني: فتاوى المجتهدين
وفي الاطار الثاني نذكر فتاوى المجتهدين ([10]) حيث نوضح البعد الثاني في معادلة المجتهد ونسميها بمغالطة النسبية والانتسابية، وهذه هي المغالطة الثانية التي تندرج فقهياً في اطار الصدق والكذب، فلو قال احدهم: ان الاربعة فرد بنظري, او قال: ان اجتماع النقيضين ممكن بنظري, فهنا المغالطة في المقام ناشئة من قوله بنظري واعتقادي، فان هذا الكلام منه إما ان يكون على نحو الحكاية عن الخارج او ان يكون على نحو صِرف الحكاية عن نظره مع قطع النظر عن مطابقته للخارج وعدمه؟ والأمثلة السابقة تختلف عن تخالف اجتهادات المجتهدين، كما هو الحال في رأي الرضعات المحرمة فلو قال احدهم انها 15 رضعة بنظري, وقال الاخر هي 10 بنظري، فهل كلاهما صادق؟ او كلاهما كاذب؟ او احدهما صادق والاخر كاذب؟
الاخبار عن الخارج والإخبار عن الرأي والنظر
وجوابه: ان الاخبار يُتصور بنحوين: فتارة يكون الاخبار عن الخارج واخرى يكون اخباراً عن المعتقد والضمير - وهو ما عبرنا عنه بالانتسابية - فعندما يذكر الفقيه ان 15 رضعة هي المحرمة فان كان مقصوده صرف الحكاية عما في ذهنه واعتقاده فهو صادق؛ اذ ان هذا هو رأيه الذي اعتمده بما اقامه عليه من دليل، والحال نفسه في الفقيه الاخر ايضا، وعليه: فكلاهما صادق من هذه الجهة.
ولكن لو قصدا الحكاية عن الخارج فلابد ان يكون احدهما صادقا والاخر كاذبا ([11])
مزيد توضيح:
ان الفقيه اذا قال جملة ( 15 رضعة محرمة بنظري ) فان كان مراده ان ما ذكره هو الحكم الظاهري الذي هو في حقه، فان هذا صدق منه، ولا مشكلة فيه؛ ذلك ان مؤديات الادلة - أي الحجج والبراهين - هي احكام ظاهرية.
ولو قال ان 15 رضعة محرمة بنظري وكان مراده انها حجة – تنجيزا و تعذيرا – فهذا مما لا اشكال فيه ايضا، وكذلك الحال بالنسبة للفقيه الاخر وقوله في المسألة، وسيكون كل منهما صادقاً في مقالته.
واما لو كان الاخبار من كل منهما على انه حكم الله الواقعي بنظره فهو صدق ان طابق الواقع والا فكذب([12]) ولا يشفع قوله (بنظره) لتحويله إلى صدق لو كان مخالفاً للواقع في ذاته. وللحديث صلة وصلى الله على محمد واله الطاهرين
([1]) وادراجنا وتجسيرنا للتشابك بين البحثين يفتح افقاً جديداً للتصدي للكثير من الشبهات المطروحة كما سيتضح ذلك
([2]) ايهام انتسابية الحقائق المطلقة والتشكيكية والنسبية والإضافية.
([3]) كاستعمال الإنسان في رقبة أو الرأس إذ رأى رأساً فقال رأيت إنساناً أو عكسه كـ(اعتق رقبة) المراد به الإنسان.
([4]) أي المعاني الموجودة في ظرف الذهن، وقد وضعت لها الألفاظ لمرآتيتها وطريقيتها للخارج لا لموضوعية وجودها في الذهن وكونه جزء الموضوع له.
([5]) بل وغيرها أيضاً.
([6]) بل تاريخية التشريع هي خلاف تقنين العقلاء وسيرتهم
([7]) وهي التي نعبر عنها بالخارجية.
([8]) بل ويرد على هذا الفيلسوف ايضا ان كلامه ونقده هو أيضاً تاريخي فهو مقيد بزمانه وظرفه! فلا يسري الى ما بعده من الوقت!
([9]) قد فصلنا ذلك في كتاب (نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة واللغة) فراجع.
([10]) فقد أوضحنا في الاطار الاول معادلة المغالطات التي يطلقها الكثيرون وخاصة في الفلسفة والعرفان والكلام والآن لا بد من حل معادلة اختلاف المجتهدين وكونها صدقاً معاً أو كذباً معاً أو بالتفريق؟
([11]) هذا اذا كانت المسألة محصورة بين هذين القولين كما هو واضح
([12]) وهنا يأتي تفريقنا السابق بين المصدر والفعل فالمصدر اي (الكذب) مداره الواقع من حيث المطابقة وعدمه وهو لا بشرط من حيث علم الشخص وجهله أي سواء علم أم جهل فانه إن كان غير مطابق فهو كذب واما الفعل فانه حيث تضمن القصد فلا يقال له لأي من الفقيهين انه (كذب) في قوله وهو ايضا ما فصلناه من كذب الحكاية والحاكي فمن حيث الحكاية فان إحدى الحكايتين صادقة والأخرى كاذبة ولكن من حيث الحاكي فليس أي منهما كاذباً.
السبت 1 ربيع الثاني 1435هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |