156- الجواب عن الوجه الرابع : أولا : اختلافا الإطلاق عرفاً حسب محط اهتمام الطرفين ومصب الكلام بحسب نوع القرينة وقوتها ثانياً : أـ ( اتقوا الكذب ) مطلق فيعم ( كذب الحكاية ) إضافة إلى (كذب الحاكي ) ب ـ ظهور العنوان المتعلَّق في كونه في حد ذاته مورد النهي والأمر والأثر ، لابلحاظ نسبته للفاعل
الاثنين 28 محرم 1435هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
كان البحث حول الكذب هزلا وهل انه حرام أو لا؟ وذكرنا الوجه الرابع لنفي الحرمة وهو عدم الصدق العرفي على هذا المورد والمصداق، فانه لو قال احدهم لآخر( أنت بطل ضرغام ) مستهزئا به ولم يكن ببطل شجاع فهنا لا يقال له عرفا انه كاذب؛ اذ المتكلم تارة يريد الحكاية الجادة عن الواقع صدقاً او كذباً، وتارة أخرى يكون كالهازل والمستهزئ لا يريد ذلك، وأوضحنا ان الظهور الأولي معرض عنه ببركة القرينة المقامية المتصلة فيكون المحط والمدار على الظهور الثانوي
أجوبة ثلاثة على الوجه الرابع([1]):
الجواب الأول: القول بالتفصيل وملاكه الظهور الأقوى
وهذا الجواب مفاده التفصيل وهو:
انه قد يكون الظهور الأول أقوى من الظهور الثاني([2]) يكون محط اهتمام المتكلم، أولا، ومحط الاهتمام في متلقَّى السامع ثانيا([3])، وقد يكون الأمر بالعكس, وعليه فلابد من التفصيل لا المصير([4]) الى إطلاق القول بان إقامة القرينة تلحق الظهور الأول بالعدم فيثبت الظهور الثاني ويكون عليه مدار الصدق والكذب لا غير.
تحليل: قوله تعالى (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)
ونمثل لهذا الجواب بمثال مهم وافٍ ببيان المطلب وهو قوله تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)، فهنا موطن التخالف([5]) بين ظهورين: اما الظهور الاول فهو ظهور الشهادة فانها من عالم الإنشاء ولذا فلا مجال لان يقال لهم، أي للمنافقين، انتم كاذبون([6])، هذا من جهة ومن جهة اخرى فإن الشهادة اللفظية هي مدار الأحكام الشرعية فالمهم ان يشهد الشخص بلسانه الشهادتين حتى يدخل في دائرة الإسلام فتترتب عليه الأحكام الظاهرية من الطهارة وجواز المناكحة وإرثه من والده وما شابه
ولكن مع ذلك فان الله تعالى يقول: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) وهذا الكلام منه تعالى إنما هو بلحاظ الظهور الثاني([7]) فان وجه نسبته تعالى الكذب لهم هو الظهور الثاني لكلامهم أي إخبارهم([8]) عن مطابقة قولهم وشهادتم لمعتقدهم فان المنافق يريد ان يخدع الآخرين ويكسب ودهم، هذا وجه وبيان للآية الكريمة([9]).
والحاصل: انه حيث كان الظهور الثاني في الآية المباركة هو محط اهتمام الله تعالى ومحط اهتمام الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) (فان الشهادة وان كانت مهمة لكن الاهم في المقام هو الظهور الثاني) لذا صب الصدق والكذب عليه فوصفوه بالكذب فلا يَرِد أن الانشاء لا يوصف به.
وبعبارة جامعة: ان الظهور الاول والثاني قد يكونان متعارضين او متخالفين، وقد يكون الظهور الأول للانشاء هو محط الاهتمام فلا يصح وصفه بالصدق والكذب، وقد يكون الظهور الثاني له هو موطن الاهتمام فبلحاظه يوصف المورد بالصدق والكذب حقيقة لا مجازا ومنه المقام: إن الله تعالى يشهد إنهم لكاذبون حقيقة أي في دعواهم المستبطنة في كلامهم وإنهم يكشفون ويخبرون بالشهادة عن دخائل أنفسهم, هذه هي كبرى الموضوع
واما صغرى المقام : فتتضح بالمثال الاتي: لو ان شخصا قال لقيّم على أموال اليتامى (ليتك كنت متقيا في أموال اليتامى)([10])، فقد يقال انه تمني والتمني إنشاء لا يقبل الوصف بالصدق والكذب ولكن نقول: هنا توجد حالتان:
الحالة الأولى: المصب هو الإنشاء
ان يكون المتكلم في مقام التمني حقا ولكن ضمنا يوجد اخبار خفي([11]) بانه ليس متقياً وفي هذه الحالة لا يوصف بالصدق والكذب عرفا؛ وذلك ان مصب كلامه ومحط اهتمامه هو إبراز التمني – على رأي – او إنشاؤه – على رأي آخر مشهور واصح – وان كان يكشف عن ملزوم هو انه ليس بتقي ولكن ذلك ليس بالمدار والمصب المهم فلا يوصف بالكذب اذن
الحالة الثانية: المصب هو الإخبار
وهي بعكس الحالة الأولى بان يكون الظهور الثاني أقوى من الظهور الأول؛ وذلك اذ لم يكن المتكلم في مقام التمني، بل كان واقعه انه يريد ان يطعن بالطرف الاخر أي كان، المصب النهائي والمآل هو الإخبار وهنا يمكن ان يوصف بالصدق او الكذب
والخلاصة: ان التفصيل هو بحسب المصب والظهور الأقوى تبعاً للقرينة الاقوى([12])
الجواب الثاني([13]):
ذكرنا ان الشخص هنالك نوعان من الكذب، الأول عبرنا عنه بكذب اللافظ والثاني بكذب اللفظ، وبتعبير اخر كذب الحكاية وكذب الحاكي، وبيناه و اوضحناه بما سلف، ونبني على ذلك الآن ونقول:
انه عندما يقول احدهم لآخر (أنت بطل) مستهزئا به فان الإشكال الرابع كان هو انه ليس بكذب عرفا، ولكن نجيب: بــان الكذب يصدق بلحاظ احد أصنافه وأقسامه إذ يمكن ان ينفى عرفا (كذب الحاكي)؛ إذ الحاكي ليس في مقام الجدّ والحكاية الواقعية فلا كذب للافظ، ولكن كذب اللفظ متحقق اذا لوحظ اللفظ بما هوهو
اذن :عرفا وان لم يصدق عنوان كذب اللافظ ولكن كذب اللفظ ثابت ومتحقق، هذا هو مبنى البحث هنا فلو ـثبت ذلك فنأتي إلى الروايات ونقول انه في قوله عليه السلام: (اتقوا الكذب...) فانه اما ان يتمسك لحرمة الكذب هزلاً او مزاحاً بإطلاق النهي وشموله للنوعين وإما ان يتمسك بالظهور في المعنى الثاني([14]) وهذا هو بيت القصيد
توضيح ذلك: وجهان في المقام
الوجه الأول: الإطلاق شامل للصنفين
أما الوجه الأول في الجواب الثاني فهو التمسك بالإطلاق، أي اتقوا الكذب مطلقا فتشمل كذب اللفظ والحكاية وكذب اللافظ والحاكي ولا فرق بينهما اذ لا تخصيص في الرواية بقسم دون آخر حتى يكون الكذب المنهي عنه هو ذلك الذي أُشرِب النسبةَ للمتكلم فيكون كذب الحاكي هو المراد فقط.
الوجه الثاني: هل مدار النهي هو الشيء بما هو او بلحاظ نسبته الى فاعله
وقبل الاستظهار الاثباتي نقول انه ثبوتا كلتا الحالتين موجودة في الشرع والأمثلة كثيرة، فان النهي الشارعي يكون تارة عن الشيء بما هو هو، وتارة أخرى بلحاظ نسبته الى فاعله، كما هو الحال في الشرك والفسق، فان المشرك مشرك وان كان لا يدري انه به يكون مشركا([15]) فلا دخل للحيثية هنا؛ فالمدار في الشرك على الواقع وليس الالتفات والقصد، نعم العقوبة مدارها ذلك.
وأما الفسق فانه قد اشرب في هذا العنوان النسبة الى الفاعل فلو فعل المجتهد فعلا فسقيا وهو ليس بملتفت لما فعله او انه كان يعتقد انه كان ليس بحرام ولا بفسق فانه يجوز تقليده، كما لو اغتاب احدا وقد تصور المورد محللا،
وهنا نقول: عندما يقع عنوان ما محطا للنهي فهل ان ظاهر النهي هو النهي عنه بما هو؟ هو وعليه يكون كذب الحكاية محرما، او ان ظاهر النهي هو النهي عنه بما هو منسوب الى فاعله فيكون المحرم هو كذب الحاكي فقط
وعليه: فهل الكذب في الرواية من قبيل الشرك او الفسق؟ وللكلام تتمة
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
([1]) وبعض هذه الأجوبة أقوى من فتدبر
([2]) عدلنا عن التعبير بالظهور الاولي والثانوي الى الاول والثاني لنكتة دقيقة اذ الظهور الاول قد يكون هو الاولي وقد يكون هو الثانوي وقد يكون الظهور الأول أقوى من الثاني ولو قلنا أولي لأفاد كونه مندكا ومعرضا عنه فتدبر
([3]) كما تختلف القرينة قوة وضعفاً في الصرف عن الظهور الأولي وعدمه أو الإجمال.
([4]) كما تختلف القرينة قوة و ضعفاً في الصرف عن الظهور الاولي عدمه او الاجمال
([5]) عبّرنا بالتخالف لا التعارض لنكتة دقيقة فتدبر
([6]) فمن يقول اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمدا رسول الله فانه لا يقصد الخبر بذلك وإنما ينشأ المعنى أي الشهادة الآن
([7]) بعض علماء البلاغة ذهبوا الى ان المقياس في الصدق والكذب هو مطابقة الاعتقاد للواقع وعدمه استنادا لهذه الآية الكريمة وهذا ليس بصحيح بل المقياس عدم مطابقة قولهم للواقع اذ لم يطابق قول المنافقين واقع اعتقادهم فنعتهم الله بانهم كاذبون فان الواقع اعم من الخارج ومن صقع النفس.
([8]) الضمني او ما هو ملزوم كلامهم
([9]) وهناك وجهان آخران لا نطيل الكلام بذكرهما
([10]) مستهزئا به، ليكون صغرى الكذب استهزاء، او مطلقاً.
([11]) أو هامشي.
([12]) ذكرنا في البحث الماضي ان الإعراض هو المقياس وهنا الجواب وهو ان المدار كما ظهر هو قوة القرينة وظهورها في أي مصب ومنها ظهور الحال.
([13]) وهذا جواب دقيق ويحتاج الى تدبّر وهو سيال جدا ويفتح بحثا مبنائيا
([14]) اي كذب الحكاية
([15]) كالمجسمة والجبرية، وككل من اشرك وهو يظن او يقطع انه موحّد، فان الشرك عنوان ثبوتي
الاثنين 28 محرم 1435هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |