229- مباحث الاصول: (مقدمة الواجب) (1)
5 ربيع الآخر 1439هـ
مباحث الاصول
(مقدمة الواجب)
جمع واعداد: الشيخ عطاء شاهين*
الفائدة الأولى: مقدمة الواجب كما هي واجبة عقلاٌ هي واجبة شرعاً ؛ لأن إرادة المولى وإن كانت بالذات منصبة على ذي المقدمة ولكنها بالتبع منصبة أيضاً على المقدمة ؛ لذا عندما ينشئ طلباً يكون منبسطاً عليهما معاً .
ذهب في التنقيح إلى : (( أن مقدمة الواجب ليست بواجبة شرعاً وليس أمرها مولوياً بوجهٍ وإنما هي واجبة عقلاً لعدم حصول الواجب إلا بها)) [1] .
وبناءً على كلامه هذا فإن قوله تعالى:(وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ [2] ليس إلا إرشاداً لحكم العقل القاضي بإعداد القوة مقدمة لإرهابهم ودفع خطرهم وضررهم ، وكذا قوله تعالى : (فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ﴾ [3] وليس وجوبه شرعياً ؛ وكذا كل أمر تعلق بالمقدمات فهو ارشادي كالمشي لزيارة الإمام الحسين عليه السلام ؛ لأن التنقيح يرى أنه ليس مولوياً ، وأنه لا يوجد وجوب شرعي ولا استحباب شرعي لمثل المشي للزيارة [4].
وجوابه بإيجاز: يجب علينا أولاً أن نلاحظ الحال في عوالم ثلاثة: عالم اللحاظ ثم عالم الإرادة، ثم عالم الانشاء؛ ففي عالم اللحاظ أن المولى عندما يلاحظ ذا المقدمة - الحامل لغرضه - أنه متوقف على أمر فلابد أن تنقدح في عالم الإرادة إرادة منه منبسطة على ذي المقدمة والمقدمة معاً [5]،أي أن الإرادة أولاً وبالذات منصبة على ذي المقدمة وثانياً وبالتبع على المقدمة، وحيث إن عالم الإنشاء يتبع عالم الإرادة فإنه سينشئ طلباً منبسطاً على ذي المقدمة والمقدمة معاً [6]؛ فالفارق ليس في الطلب وأنه لا طلب شرعي ؛ بل الطلب الشرعي موجود ولكن الفرق في أن هذا مطلوب لذاته وهذا لغيره ، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى : فإن الضابط الذي اخترناه للمولوية [7] متحقق في المقدمة ؛ فالأمر بها مولوي .
نعم ، إذا قلنا بأن الضابط هو : ((ما كان محبوباً للمولى بذاته وصدر الأمر لمحبوبيته )) ؛ فلا يكون الأمر بالمقدمة مولوياً ؛ لأنه ليس محبوباً بذاته[8] [9].
الفائدة الثانية: قسمت المقدمة حسب : وجود ذيها ، ووجوبه، وصحته ، و العلم بامتثاله، والكشف عن واقعه، وتنجزه على مخاطبه ، ولا مانعة جمع بين بعضها مع البعض الأخر ، كما لا مانع من الطولية في بعضها في الجملة.
قسمت المقدمة إلى أربعة أقسام [10]، واضفنا إليها قسمين آخرين [11]، فأصبح لدينا ستة أقسام :
القسم الأول: المقدمة الوجودية
و هي ما يتوقف عليها وجود الواجب وتحققه خارجاً ، كطي المسافة للحج ، ونصب السلم للكون على السطح.
القسم الثاني: المقدمة الوجوبية
وهي ما يتوقف عليها وجوب الواجب لا وجوده ، كالاستطاعة للحج والزوال للصلاة ؛ فبدون هذه المقدمة لا وجوب ، ويوجد فرق واضح بين طي المسافة خارجاً والاستطاعة، حيث إن النسبة بينهما عموم من وجه ؛ فقد لا تكون استطاعة ولا وجوب لكنه يطوي المسافة ويحج متسكعاً ؛ وقد يكون العكس ، أي يجب الحج لكنه لا يطوي المسافة [12]، وقد يجتمعان وقد يرتفعان.
القسم الثالث: مقدمة الصحة
وهي ما يتوقف عليها صحة الشيء [13] لا وجوبه ولا وجوده ، كشرائط الصلاة من طهارة واستقبال وستر وغيرها ، وقد يتوهم أن الصلاة بلا شرائط ليست بصلاة، إذن هي مقدمة وجود؟
والجواب : ان المراد من مقدمة الصحة هي ما يتوقف عليها الواجب بوصف الصحة لا بما هو هو ؛ فإن الصلاة بأجزائها لا تتوقف على شرائط الصحة ، بل الصلاة الصحيحة هي المتوقفة على شرائط الصحة ، هذا على قول الأعمّي [14]، أما على القول الصحيحي [15] فمقدمات الصحة هي مقدمات وجود [16].
القسم الرابع: المقدمة العلمية
وهي ما يتوقف عليها العلم بامتثال التكليف ، كما في الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي بالصلاة إلى الجهات الأربع عند الاشتباه في القبلة على المشهور، وإن كان البعض كالسيد الوالد يرى كفاية الصلاة إلى جهة واحدة.
إن قلت : إن هذه المقدمة هي نفس المقدمة الوجودية ؛ فإنه لولا الصلاة إلى الجهات الأربع لما وجدت الصلاة المأمور بها؟
وأُجيب : بأن الاحتياط لا يعقل أن يوصف بكونه مقدمة الوجود ؛ لأن الاحتياط كلي ينطبق على أفراد الصلاة للجهات الأربع ، فإما أن تكون الصلاة لهذه الجهة هي الواقعية أو لا؟ فإن كانت هذه الجهة هي الواقعية فهي الواجب نفسه لا مقدمته ؛ حيث لا يُعقل أن يكون الشيء مقدمة لنفسه ؛ وإلا لزم تقدم الشيء على نفسه وجوداً ، فإن لم تكن هذه هي الجهة الواقعية فغيرها - من الجهات الأخرى المخالفة للقبلة - ليست مقدمة للوجود ؛ لأنها بذاتها أجنبية عن الواجب ، ولا جهة تسبيبية ثبوتية لها بالنسبة للواجب الواقعي .
إذن الاحتياط بالصلاة إلى الجهات الأربع ليس مقدمة وجود على كل التقادير فلذا سميت مقدمة علمية، وهذا جواب مشهور لكن يمكن النقاش فيه.
القسم الخامس: مقدمة الكشف
وهي التي ذُكرت بعنوان الواجب الطريقي ، وهي التي تكشف عن الأحكام الواقعية، ويمكن أن تسمى مقدمة العلم، أي العلم بالحكم [17]، وليس العلم بالامتثال للحكم المسمات بالمقدمة العلمية. ميته يأ
والفرق بين هذه المقدمة والمقدمة العلمية ؛ أن العلمية مقدمة للعلم بالامتثال، وهذه مقدمة للعلم بالتكليف ؛ والتكليف سابق رتبة على الامتثال ؛ والتكليف تارة يكون معلوماً وأخرى مجهولاً، ثم بعد معلو تي الكلام عن العلم بالامتثال وعدمه .
وهنا نسأل هل أن هذه المقدمة واجبة أم لا؟
وجوابه : أن المولى في مرحلة الثبوت يلاحظ أموراً ثلاثة فيوجبها معاً لأجل تحقيق غرضه الإلزامي :
الأمر الأول: أن يلاحظ ما فيه المصلحة الواقعية الملزمة ، كالصلاة ، أي المتعلَّق .
الأمر الثاني: أن يلاحظ الموصل لما فيه المصلحة ، أي المقدمة.
الأمر الثالث: أن يلاحظ الكاشف عن حكمه الإلزامي ، وهو : الاجتهاد ، والتقليد ، والعلم.
فإذا لم يوجب المولى أيّاً من هذه الثلاثة فقد أخل بغرضه ؛ لأنه لو لم يأمر بذلك لما أمكن الامتثال ، أو لما وقع غالباً ولما ساغ العتاب والعقاب .
نعم ، له أن يكتفي في الأخيرين بحكم العقل أو إدراكه [18].
والحاصل: أن مقدمة الكشف واجبة وجوباً شرعياً أو عقلياً.
القسم السادس: مقدمة التنجز
وهي ما توقف تنجز الواجب عليها لا أصل الوجوب ؛ حيث إن الحكم على ما ذهب إليه الآخوند ينقسم إلى أربع مراتب:
المرتبة الأولى: مرتبة الاقتضاء، ولا يخفى أن تسمية هذه المرتبة بالحكم مجاز.
المرتبة الثانية: مرتبة الانشاء ، وتسمية هذه المرتبة بالحكم حقيقة.
المرتبة الثالثة: مرتبة الفعلية.
المرتبة الرابعة: مرتبة التنجز ، بمعنى استحقاق العقاب بالمخالفة.
والمقصود من مقدمة التنجز هو ما لا يتوقف الحكم عليها بمراتبه الثلاثة الأولى ، وإنما يتوقف تنجزه فقط عليها، وقد ذهب البعض إلى أن الاجتهاد والتقليد من هذا القسم، وأنه بدون التعلم الاجتهادي أو التقليدي لا تنجز ؛ لأنه لو لم تصل إلى المكلف الأحكام فلا يستحق العقاب على المخالفة.
ثم ينبغي التنبيه إلى أمرين:
الأمر الأول: أنه لا مانعة جمع بين عدد من هذه المقدمات الست ؛ لأنه قد يكون الشيء مقدمة وجود وفي نفس الوقت يكون مقدمة كشف أيضاً ، كما سبق مثاله.
الأمر الثاني: أن هناك طولية بين المقدمة الخامسة [19] والمقدمة السادسة [20]؛ فإن الشيء قد يوجَب ليكشف عن الواقع، وقد يوجب لكي ينجز الأحكام الواقعية، والثاني متفرع على الأول فلو انكشفت الأحكام الواقعية لكانت منجَّزة.
ولكن نقول : إن هذا الكلام صحيح في الجملة لا بالجملة ؛لأن النسبة بين التنجز والكشف هي العموم والخصوص من وجه [21].
بحث تطبيقي :
مقدمية (الاجتهاد والتقليد ) من أي الأقسام الستة؟
والكلام بخصوص مقدمية الاجتهاد والتقليد فيتضح في ضمن ملاحظة هذه التساؤلات وأجوبتها :
السؤال الأول: هل يتوقف وجود الواجب على الاجتهاد والتقليد أو العلم؟
وجوابه :نعم ، لكن لا بنحو العلة المنحصرة ، وقد سبق بيانه والنقاش في ذلك مع التنقيح.
السؤال الثاني: هل أن الاجتهاد والتقليد مقدمة وجوب؟
وجوابه : أما في مراتب الحكم الثلاث الأولى [22] فلا، أي أن التعلم الاجتهادي والتقليدي لا يتوقف عليه الحكم بمراتبه الثلاث الأولى ، وأما في المرتبة الرابعة [23] فتتوقف على التعلم ، كما سيأتي ذلك في النقطة السادسة.
السؤال الثالث: هل أن الاجتهاد والتقليد مقدمة للصحة ، أي لو أتيت بالصلاة بلا اجتهاد أو تقليد، ولكنها كانت مطابقة للواقع – فرضاً - فهل هي صحيحة أم لا؟
وجوابه : نأتي به مما جاء في العروة بأن: ((عمل العامي بلا اجتهاد ولا تقليد باطل)) [24] فهذه العبارة توهم ذلك ؛ ولكن الحق أن الأمر ليس كذلك ؛ إذ ليس الاجتهاد والتقليد مقدمة للصحة الثبوتية للحكم.
نعم ، هما مقدمة الصحة إثباتاً ؛ فإذا صلى بلا اجتهاد وتقليد وكان عمله مطابقاً للواقع فصلاته صحيحة ثبوتاً ولكنها في مرحلة الإثبات لا يجتزئ بها ؛ للزوم إحراز المكلف براءة ذمته.
السؤال الرابع: هل أن الاجتهاد والتقليد مقدمة كشف ؟
وجوابه : نعم ؛ لأن كلاً منهما كاشف نوعي عن الواقع وعن الأحكام الشرعية الإلزامية وغيرها ؛ وذلك بحسب بناء العقلاء والروايات والآيات.
السؤال الخامس: هل أن الاجتهاد والتقليد مقدمة علمية؟
وجوابه : نعم ؛ لتوقف العلم بالامتثال عليهما، وإن لم يكونا بنحو المقدمة المنحصرة.
السؤال السادس: هل أن الاجتهاد والتقليد مقدمة تنجز؟
وجوابه : الظاهر أنهما كذلك ؛ إذ بهما تتنجز التكاليف، لكن من لم يقدر عليهما فهل يمكن القول بتنجز التكاليف الواقعية رغم عدم قدرته عليها؟ وسيأتي الكلام عن ذلك في محله [25].
----------------
* هذه المباحث الاصولية تجميع لما طرحه سماحة السيد في مختلف كتبه وبحوثه، قام باعدادها وجمعها و ترتيبها مشكوراً فضيلة الشيخ عطاء شاهين وفقه الله تعالى
[1] التنقيح كتاب التقليد: ص13.
[2] سورة الانفال الاية60
[3] سورة التوبة: 12.
[4] هذا وقد ذكرت الروايات ثواباً عظيماً للمشي لزيارة الإمام الحسين عليه السلام، نفل الكثير منها في كتاب وسائل الشيعة: ج14، ب41، و مستدرك الوسائل: ج10، ب30، وجامع أحاديث الشيعة: ج12، ب56، وهذه الروايات قد تفصى منها الآخوند الخراساني ببعض الوجوه المردودة كما حققناه في محله.
[5] إلا أن الفارق هو الطولية.
[6] مع حفظ الطولية.
[7] وهو: ما صدر من المولى بما هو مولى معملاً مقام مولويته.
[8] وقد فصلنا الكلام حول ذلك في كتاب: الأوامر المولوية والإرشادية : ص [8] ، فلا نطيل ههنا.
[9] الاجتهاد والتقليد: ص 95.
[10] هذه إحدى التقسيمات ، لأنها قد قسمت أيضاً إلى عقلية وشرعية وعادية ، وإلى مقدمة ومقارنة ومتأخرة، وإلى داخلية وخارجية ، انظر كفاية الأصول: ص 89 وما بعدها.
[11] أحدهما مذكور لكن باسم مختلف ، والآخر لم يذكر في مبحث المقدمة.
[12] عصياناً.
[13] أي المتعلق كالصلاة .
[14] والقائل بالأعمّي – أي الأعم - هو من يقول إن لفظ الصلاة - مثلا - قد وضع للأعم من الصلاة الصحيحة وغيرها.
[15] والقائل بالصحيح هو من يقول إن وضع لفظ الصلاة - مثلا - قد وضع للصلاة التامة من حيث الشرائط والأجزاء فقط.
[16] فلولا الصحة لا تتحقق عندنا صلاة ؛ لأن الصلاة غير الصحيحة لا تسمى صلاة .
[17] التكليف .
[18] بل حتى في الأول، لو كان من المستقلات العقلية.
[19] التي هي مقدمة الكشف.
[20] التي هي مقدمة التنجز.
[21] الجاهل المقصّر الأحكام متنجزة في حقه، ولا كشف والكشف قبل بعثة الرسل، غير منجز.
[22] وهي: مرتبة الاقتضاء ، ومرتبة الانشاء ، ومرتبة الفعلية.
[23] وهي :مرتبة التنجز.
[24] العروة الوثقى : ج1 ص 13 .
[25] الاجتهاد والتقليد: ص122.
ذهب في التنقيح إلى : (( أن مقدمة الواجب ليست بواجبة شرعاً وليس أمرها مولوياً بوجهٍ وإنما هي واجبة عقلاً لعدم حصول الواجب إلا بها)) [1] .
وبناءً على كلامه هذا فإن قوله تعالى:(وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ [2] ليس إلا إرشاداً لحكم العقل القاضي بإعداد القوة مقدمة لإرهابهم ودفع خطرهم وضررهم ، وكذا قوله تعالى : (فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ﴾ [3] وليس وجوبه شرعياً ؛ وكذا كل أمر تعلق بالمقدمات فهو ارشادي كالمشي لزيارة الإمام الحسين عليه السلام ؛ لأن التنقيح يرى أنه ليس مولوياً ، وأنه لا يوجد وجوب شرعي ولا استحباب شرعي لمثل المشي للزيارة [4].
وجوابه بإيجاز: يجب علينا أولاً أن نلاحظ الحال في عوالم ثلاثة: عالم اللحاظ ثم عالم الإرادة، ثم عالم الانشاء؛ ففي عالم اللحاظ أن المولى عندما يلاحظ ذا المقدمة - الحامل لغرضه - أنه متوقف على أمر فلابد أن تنقدح في عالم الإرادة إرادة منه منبسطة على ذي المقدمة والمقدمة معاً [5]،أي أن الإرادة أولاً وبالذات منصبة على ذي المقدمة وثانياً وبالتبع على المقدمة، وحيث إن عالم الإنشاء يتبع عالم الإرادة فإنه سينشئ طلباً منبسطاً على ذي المقدمة والمقدمة معاً [6]؛ فالفارق ليس في الطلب وأنه لا طلب شرعي ؛ بل الطلب الشرعي موجود ولكن الفرق في أن هذا مطلوب لذاته وهذا لغيره ، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى : فإن الضابط الذي اخترناه للمولوية [7] متحقق في المقدمة ؛ فالأمر بها مولوي .
نعم ، إذا قلنا بأن الضابط هو : ((ما كان محبوباً للمولى بذاته وصدر الأمر لمحبوبيته )) ؛ فلا يكون الأمر بالمقدمة مولوياً ؛ لأنه ليس محبوباً بذاته[8] [9].
قسمت المقدمة إلى أربعة أقسام [10]، واضفنا إليها قسمين آخرين [11]، فأصبح لدينا ستة أقسام :
و هي ما يتوقف عليها وجود الواجب وتحققه خارجاً ، كطي المسافة للحج ، ونصب السلم للكون على السطح.
وهي ما يتوقف عليها وجوب الواجب لا وجوده ، كالاستطاعة للحج والزوال للصلاة ؛ فبدون هذه المقدمة لا وجوب ، ويوجد فرق واضح بين طي المسافة خارجاً والاستطاعة، حيث إن النسبة بينهما عموم من وجه ؛ فقد لا تكون استطاعة ولا وجوب لكنه يطوي المسافة ويحج متسكعاً ؛ وقد يكون العكس ، أي يجب الحج لكنه لا يطوي المسافة [12]، وقد يجتمعان وقد يرتفعان.
وهي ما يتوقف عليها صحة الشيء [13] لا وجوبه ولا وجوده ، كشرائط الصلاة من طهارة واستقبال وستر وغيرها ، وقد يتوهم أن الصلاة بلا شرائط ليست بصلاة، إذن هي مقدمة وجود؟
والجواب : ان المراد من مقدمة الصحة هي ما يتوقف عليها الواجب بوصف الصحة لا بما هو هو ؛ فإن الصلاة بأجزائها لا تتوقف على شرائط الصحة ، بل الصلاة الصحيحة هي المتوقفة على شرائط الصحة ، هذا على قول الأعمّي [14]، أما على القول الصحيحي [15] فمقدمات الصحة هي مقدمات وجود [16].
وهي ما يتوقف عليها العلم بامتثال التكليف ، كما في الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي بالصلاة إلى الجهات الأربع عند الاشتباه في القبلة على المشهور، وإن كان البعض كالسيد الوالد يرى كفاية الصلاة إلى جهة واحدة.
إن قلت : إن هذه المقدمة هي نفس المقدمة الوجودية ؛ فإنه لولا الصلاة إلى الجهات الأربع لما وجدت الصلاة المأمور بها؟
وأُجيب : بأن الاحتياط لا يعقل أن يوصف بكونه مقدمة الوجود ؛ لأن الاحتياط كلي ينطبق على أفراد الصلاة للجهات الأربع ، فإما أن تكون الصلاة لهذه الجهة هي الواقعية أو لا؟ فإن كانت هذه الجهة هي الواقعية فهي الواجب نفسه لا مقدمته ؛ حيث لا يُعقل أن يكون الشيء مقدمة لنفسه ؛ وإلا لزم تقدم الشيء على نفسه وجوداً ، فإن لم تكن هذه هي الجهة الواقعية فغيرها - من الجهات الأخرى المخالفة للقبلة - ليست مقدمة للوجود ؛ لأنها بذاتها أجنبية عن الواجب ، ولا جهة تسبيبية ثبوتية لها بالنسبة للواجب الواقعي .
إذن الاحتياط بالصلاة إلى الجهات الأربع ليس مقدمة وجود على كل التقادير فلذا سميت مقدمة علمية، وهذا جواب مشهور لكن يمكن النقاش فيه.
وهي التي ذُكرت بعنوان الواجب الطريقي ، وهي التي تكشف عن الأحكام الواقعية، ويمكن أن تسمى مقدمة العلم، أي العلم بالحكم [17]، وليس العلم بالامتثال للحكم المسمات بالمقدمة العلمية. ميته يأ
والفرق بين هذه المقدمة والمقدمة العلمية ؛ أن العلمية مقدمة للعلم بالامتثال، وهذه مقدمة للعلم بالتكليف ؛ والتكليف سابق رتبة على الامتثال ؛ والتكليف تارة يكون معلوماً وأخرى مجهولاً، ثم بعد معلو تي الكلام عن العلم بالامتثال وعدمه .
وهنا نسأل هل أن هذه المقدمة واجبة أم لا؟
وجوابه : أن المولى في مرحلة الثبوت يلاحظ أموراً ثلاثة فيوجبها معاً لأجل تحقيق غرضه الإلزامي :
الأمر الأول: أن يلاحظ ما فيه المصلحة الواقعية الملزمة ، كالصلاة ، أي المتعلَّق .
الأمر الثاني: أن يلاحظ الموصل لما فيه المصلحة ، أي المقدمة.
الأمر الثالث: أن يلاحظ الكاشف عن حكمه الإلزامي ، وهو : الاجتهاد ، والتقليد ، والعلم.
فإذا لم يوجب المولى أيّاً من هذه الثلاثة فقد أخل بغرضه ؛ لأنه لو لم يأمر بذلك لما أمكن الامتثال ، أو لما وقع غالباً ولما ساغ العتاب والعقاب .
نعم ، له أن يكتفي في الأخيرين بحكم العقل أو إدراكه [18].
والحاصل: أن مقدمة الكشف واجبة وجوباً شرعياً أو عقلياً.
وهي ما توقف تنجز الواجب عليها لا أصل الوجوب ؛ حيث إن الحكم على ما ذهب إليه الآخوند ينقسم إلى أربع مراتب:
المرتبة الأولى: مرتبة الاقتضاء، ولا يخفى أن تسمية هذه المرتبة بالحكم مجاز.
المرتبة الثانية: مرتبة الانشاء ، وتسمية هذه المرتبة بالحكم حقيقة.
المرتبة الثالثة: مرتبة الفعلية.
المرتبة الرابعة: مرتبة التنجز ، بمعنى استحقاق العقاب بالمخالفة.
والمقصود من مقدمة التنجز هو ما لا يتوقف الحكم عليها بمراتبه الثلاثة الأولى ، وإنما يتوقف تنجزه فقط عليها، وقد ذهب البعض إلى أن الاجتهاد والتقليد من هذا القسم، وأنه بدون التعلم الاجتهادي أو التقليدي لا تنجز ؛ لأنه لو لم تصل إلى المكلف الأحكام فلا يستحق العقاب على المخالفة.
الأمر الأول: أنه لا مانعة جمع بين عدد من هذه المقدمات الست ؛ لأنه قد يكون الشيء مقدمة وجود وفي نفس الوقت يكون مقدمة كشف أيضاً ، كما سبق مثاله.
الأمر الثاني: أن هناك طولية بين المقدمة الخامسة [19] والمقدمة السادسة [20]؛ فإن الشيء قد يوجَب ليكشف عن الواقع، وقد يوجب لكي ينجز الأحكام الواقعية، والثاني متفرع على الأول فلو انكشفت الأحكام الواقعية لكانت منجَّزة.
ولكن نقول : إن هذا الكلام صحيح في الجملة لا بالجملة ؛لأن النسبة بين التنجز والكشف هي العموم والخصوص من وجه [21].
مقدمية (الاجتهاد والتقليد ) من أي الأقسام الستة؟
والكلام بخصوص مقدمية الاجتهاد والتقليد فيتضح في ضمن ملاحظة هذه التساؤلات وأجوبتها :
وجوابه :نعم ، لكن لا بنحو العلة المنحصرة ، وقد سبق بيانه والنقاش في ذلك مع التنقيح.
وجوابه : أما في مراتب الحكم الثلاث الأولى [22] فلا، أي أن التعلم الاجتهادي والتقليدي لا يتوقف عليه الحكم بمراتبه الثلاث الأولى ، وأما في المرتبة الرابعة [23] فتتوقف على التعلم ، كما سيأتي ذلك في النقطة السادسة.
وجوابه : نأتي به مما جاء في العروة بأن: ((عمل العامي بلا اجتهاد ولا تقليد باطل)) [24] فهذه العبارة توهم ذلك ؛ ولكن الحق أن الأمر ليس كذلك ؛ إذ ليس الاجتهاد والتقليد مقدمة للصحة الثبوتية للحكم.
نعم ، هما مقدمة الصحة إثباتاً ؛ فإذا صلى بلا اجتهاد وتقليد وكان عمله مطابقاً للواقع فصلاته صحيحة ثبوتاً ولكنها في مرحلة الإثبات لا يجتزئ بها ؛ للزوم إحراز المكلف براءة ذمته.
وجوابه : نعم ؛ لأن كلاً منهما كاشف نوعي عن الواقع وعن الأحكام الشرعية الإلزامية وغيرها ؛ وذلك بحسب بناء العقلاء والروايات والآيات.
وجوابه : نعم ؛ لتوقف العلم بالامتثال عليهما، وإن لم يكونا بنحو المقدمة المنحصرة.
وجوابه : الظاهر أنهما كذلك ؛ إذ بهما تتنجز التكاليف، لكن من لم يقدر عليهما فهل يمكن القول بتنجز التكاليف الواقعية رغم عدم قدرته عليها؟ وسيأتي الكلام عن ذلك في محله [25].
* هذه المباحث الاصولية تجميع لما طرحه سماحة السيد في مختلف كتبه وبحوثه، قام باعدادها وجمعها و ترتيبها مشكوراً فضيلة الشيخ عطاء شاهين وفقه الله تعالى
[1] التنقيح كتاب التقليد: ص13.
[2] سورة الانفال الاية60
[3] سورة التوبة: 12.
[4] هذا وقد ذكرت الروايات ثواباً عظيماً للمشي لزيارة الإمام الحسين عليه السلام، نفل الكثير منها في كتاب وسائل الشيعة: ج14، ب41، و مستدرك الوسائل: ج10، ب30، وجامع أحاديث الشيعة: ج12، ب56، وهذه الروايات قد تفصى منها الآخوند الخراساني ببعض الوجوه المردودة كما حققناه في محله.
[5] إلا أن الفارق هو الطولية.
[6] مع حفظ الطولية.
[7] وهو: ما صدر من المولى بما هو مولى معملاً مقام مولويته.
[8] وقد فصلنا الكلام حول ذلك في كتاب: الأوامر المولوية والإرشادية : ص [8] ، فلا نطيل ههنا.
[9] الاجتهاد والتقليد: ص 95.
[10] هذه إحدى التقسيمات ، لأنها قد قسمت أيضاً إلى عقلية وشرعية وعادية ، وإلى مقدمة ومقارنة ومتأخرة، وإلى داخلية وخارجية ، انظر كفاية الأصول: ص 89 وما بعدها.
[11] أحدهما مذكور لكن باسم مختلف ، والآخر لم يذكر في مبحث المقدمة.
[12] عصياناً.
[13] أي المتعلق كالصلاة .
[14] والقائل بالأعمّي – أي الأعم - هو من يقول إن لفظ الصلاة - مثلا - قد وضع للأعم من الصلاة الصحيحة وغيرها.
[15] والقائل بالصحيح هو من يقول إن وضع لفظ الصلاة - مثلا - قد وضع للصلاة التامة من حيث الشرائط والأجزاء فقط.
[16] فلولا الصحة لا تتحقق عندنا صلاة ؛ لأن الصلاة غير الصحيحة لا تسمى صلاة .
[17] التكليف .
[18] بل حتى في الأول، لو كان من المستقلات العقلية.
[19] التي هي مقدمة الكشف.
[20] التي هي مقدمة التنجز.
[21] الجاهل المقصّر الأحكام متنجزة في حقه، ولا كشف والكشف قبل بعثة الرسل، غير منجز.
[22] وهي: مرتبة الاقتضاء ، ومرتبة الانشاء ، ومرتبة الفعلية.
[23] وهي :مرتبة التنجز.
[24] العروة الوثقى : ج1 ص 13 .
[25] الاجتهاد والتقليد: ص122.