بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(24)
المحتملات في (لا يُغْني) سبعة
وقد يعترض على الاستدلال بقوله تعالى: (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْني مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) ان المحتملات في المراد من قوله تعالى (لا يُغْني) كثيرة تبلغ سبعة احتمالات، لا يتم الاستدلال بأغلبها، وما تمّ الاستدلال به، غير ظاهر أو لا دليل عليه، ولو تردد المعنى بينها فهي مجملة، والمحتملات هي:
1- (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْني مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) أي لا يكفي بديلاً عن الحق، أي لا يغني ولا ينفع كبديل عن الحق، فالمراد الظن الموضوعي، كما سبق مفصلاً، فلو ثبت هذا كان أجنبياً عن محل البحث، وكذا لو ثبت بعض الآتي من المعاني.
2- (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْني مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) أي لا يوصل إليه بالفعل أي لا يعدّ طريقاً إلى الحق والواقع، أي لا يكفي كطريق إلى الحق، وهذا يحتمل فيه وجوه:
أ- انه لا يوصل إلى الحق أصلاً.
ب- انه لا يوصل إلى الحق غالباً.
ج- انه لا يوصل إلى الحق أحياناً أي في أقل الأحيان لا يوصل وفي أكثرها يوصل.
والأول: غير صحيح قطعاً؛ لبداهة ان كثيراً من الظنون يوصل إلى الواقع في أغلب الأحيان كالظنون المنهجية (العقلائية) مما ثبت اعتباره بالدليل الخاص كخبر الثقة والظواهر، كما ان كثيراً منها يوصل إلى الواقع في كثير من الأحيان إن لم يكن في أكثرها كما فيما لم يثبت اعتباره كالشهرة والإجماع المنقول وأما غيرها مما ثبت عدم اعتباره كالكف والفنجان فانها أحياناً، تطابق الواقع ولهذا يتبعها كثير من الناس وينقادون لها ولو خالفت الواقع دائماً لما لهث وراءها أحد.
وعلى أي فهذا المعنى غير مراد من الآية قطعاً كما اذعن به القزويني صاحب الضوابط كما سيجيء حيث احتمل هذا المعنى وقسيماً آخر له فقط، فأضفنا المعاني الأخرى لكونها محتملة حقيقة وتتميماً لما قاله.
والثاني: غير صحيح كسابقه، إضافة إلى انه خلاف ظاهر الآية إذ ظاهرها النفي الكامل؛ وذلك لوقوع (شَيْئاً) في سياق النفي.
والثالث: غير صحيح في الجملة، كما انه خلاف ظاهر الآية جداً.
3- (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْني مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) أي انه لا يوصل نوعاً أي لا يعد طريقاً عقلائياً وهو متطابق من حيث المآل والمعنى الاسم مصدري مع ثاني الوجوه من ثاني المحتملات لكنه مغاير له دقةً فتدبر([1])، ولكن يرد عليه: ان الظن أنواع وبعض أنواعه موصل نوعاً لدى النوع، وظاهر الآية([2]) انه ليس طريقاً عقلائياً أبداً، وإرادة الاستغراق من الظن لا يدفع الإشكال بل وكذا إرادة الجنس فتأمل([3]).
4- (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْني مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) أي لدى المعتقد، وهذا هو ما استظهره صاحب الضوابط وأصرّ عليه، لكنه خلاف الظاهر جداً، لما سبق من ان الأسماء موضوعة لمسمياتها الثبوتية فالمراد لا يغني واقعاً، ثبوتاً، حقيقة، لا انه لا يغني بحسب اعتقاد المعتقد، إضافة إلى ان هذه الدعوى هي خلاف اعتقاد المعتقد! فان الظان بحسب معتقده ظنُّه مغنٍ وإلا لم يتبعه، فلاحظ ظنون الناس سواء التي ردع الشارع عنها كالقياس أم التي لم يردع عنها أو التي لم يعلم ردعه عنها كالشهرة بل وحتى الظنون غير العقلائية كالظن الحاصل من قراءة الكف والفنجان ونحوهما فانه يظن به ويراه بحسب معتقَدِه مُغنياً.
5- (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْني مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) أي لدى الشارع، أي انه لا يعدّه مغنياً، بان يكون عدم الإغناء تنزيلياً، بنحو الحكومة بالتضييق كما في (لا شك لكثير الشك) لكنه أولاً خلاف الظاهر فانه قيد زائد، وثانياً: يردّه انه لا يتناسب مع مقام الاحتجاج أو الذم والتقريع، والآية الكريمة في مقام ذم الكفار وتقريعهم أو الاحتجاج عليهم بانهم (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْني مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)([4])([5]) و(وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْني مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)([6])([7]) وكيف يُحتج عليهم ويقرعون بالتعبد والتنزيل؟.
والحاصل: ان الذين نستظهره الاحتمال الأول، ولكن مع قطع النظر عنه فان المعنى الأول من المحتمل الثاني هو المعنى الحقيقي له لكنه حيث تعذر تردد الأمر بين المحتملات الأخرى التي هي مجازات، وحيث لا مرجح فالآية مجملة.
الضوابط: الآية مجملة بعد تعذر المعنى الحقيقي
وقد اعترض السيد محمد إبراهيم القزويني في ضوابطه ببعض ما ذكرناه ببيان آخر إذ قال: (فإن قلت: انّ الإغناء يستعمل في معنيين: أحدهما رفع الاحتياج والآخر الرفع مجرداً عن الاحتياج، كقوله تعالى: (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْني مِنْ جُوعٍ)([8]) فان المراد من عدم الغنى عن الجوع عدم رفع الجوع؛ إذ لا معنى لعدم رفع الاحتياج عن الجوع، لكن غالب استعماله في المعنى الأوّل، فقولك (فلاح محتاج إلى الشيء الفلاني) يكون معناه انه فاقد ذلك الشيء، وإلا لزم تحصيل الحاصل وقولك (أنّه غني عنه غير محتاج إليه) معناه أنّه واجد.
وإذا حملنا الآية الشريفة على الغالب كما هو ظاهرها، يكون معناها ان الظنّ لا يرفع الاحتياج من الواقع، أي لا يكون عامله أصلاً([9]) به في شيء من الأشياء قط، ولا ريب أنّ هذا الذي هو ظاهر الآية كذب جداً وغير مراد قطعاً؛ إذ ربما يحصل([10]) الظان إلى الواقع، فانّ الظنّ قد يختلف عن المظنون الواقع وقد يصيب، فإذا لم يكن ظاهر الآية مراداً يصير مجملة لتعدّد المعنى المجازي، فيصير الآية الشريفة مجملة، ويسقط الاستدلال.
قلنا: انّ الآية إنّما تدلّ على أنّ العامل بالظن لا يكون غنياً عن الواقع بحسب اعتقاده قط، وأنّ العمل بالظن لا يكون مغنياً عن الواقع بحسب الاعتقاد قط، فاذاً لا يلزم كذب فان الظاهر مطابق للواقع)([11]).
أقول: توضيحه أولاً ثم مناقشته في ضمن نقاط:
الأول: ان الغِنى يقع مقابل الحاجة والغنيّ يقع مقابل المحتاج، فالغنى عدم الحاجة والغنيّ غير المحتاج، فهذا عن المجرد وأما المزيد فيه من باب الأفعال كما هو في الآية الكريمة (لا يُغْني) فيراد به: انه لا يرفع الحاجة([12]) فهذا هو معناها الأصلي، لكنه ممتنع في الآية الشريفة لما قاله (قدس سره)، ولما بينّاه أعلاه. وللبحث صلة بإذن الله تعالى. وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((وَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يَعْلَمَ كَيْفَ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ مَنْزِلَةُ اللَّهِ مِنْهُ عِنْدَ الذُّنُوبِ)) (تحف العقول: ص107).
-------------------
([1]) إذ مدار ذاك الواقع ومدار هذا العقلاء.
([3]) إلا على رأي صاحب الفصول الآنف الذكر (حجية خبر الواحد لا من حيث انه ظن).
([9]) الظاهر ان الصحيح (واصلاً).
([10]) الظاهر ان الصحيح (يصل).
([12]) ويغني يعني يرفع الحاجة، يغنيه أي يرفع حاجته.
([1]) إذ مدار ذاك الواقع ومدار هذا العقلاء.