بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(33)
النراقي: ظن المجتهد من حيث انه مجتهد، حجة
سبق كلام المحقق النراقي: (وأما ما يوجد في بعض كلماتهم من إطلاق حجية ظن المجتهد([1])، فمع أنّ هذا الإطلاق إنما هو في مقابل السلب الكلي، والغرض منه الرد عليه لا الإثبات الكلي؛ لا دلالة له على أصالة حجية الظن؛ لأنه كما أنهم يصرّحون به، ينبئ تعليق شيءٍ على وصفٍ عن عليته، فالمراد أن ظن المجتهد من حيث إنه مجتهد، أي ظنه المستند إلى اجتهاده حجة. ويعرّفون الاجتهاد بانه استفراغ الوسع في تحصيل الظن من الأدلة الشرعية، والدليل الشرعي عبارة عمّا ثبت شرعاً كونه دليلاً، فمعنى حجية ظن المجتهد: حجية ظنٍ حاصلٍ من دليل ثبتت حجيته شرعاً، وذلك غير حجية مطلق الظن، أو أصالة حجيته، فمرادهم هو حجية الظنون المخصوصة)([2]) وسبق تعليقنا (أقول: مع قطع النظر عن مدى صحة استظهاره بإسناد ما استظهره إلى كافة المجتهدين، ومع قطع النظر عن ان حيثية الاجتهاد وإن كانت حيثية تعليلية لكن ذلك لا يكفي إلا بعد إرجاع كل حيثية تعليلية إلى الحيثية التقييدية، كما ذهب إليه المحقق الاصفهاني في نهاية الدراية، وتحقيقه في محله فتأمل، فانه قد يقال:...)([3]).
الحيثية التقييدية لا تنفي صدق المجتهد وإن لم يجتهد بالفعل
ونضيف: بانه حتى مع إرجاع الحيثية التعليلية إلى التقييدية وان معنى (ظن المجتهد حجة) أي من حيث هو مجتهد أي بقيد كونه مجتهداً فان هذا الكلام لا ينفي حجية استنباطه المستند إلى الظنون المطلقة، وذلك لصدق المجتهد بالحمل الشائع الصناعي وفي متفاهم العرف قطعاً على واجد الملكة وعلى المجتهد في جملةٍ معتدٍّ بها من الفقه من غير توقف في صدق المجتهد عليه على اجتهاده بالفعل في كل مسائل الفقه فان ذلك متعذر عادةً ولا يوجد فقيه، إلا النادر، ممن هو مجتهد بالفعل في كافة مسائل الفقه فانها بعشرات الألوف بل قد تصل إلى مائة ألف أو أكثر([4]) وعليه فيصدق على من استنبط من الظنون المطلقة في مسألة، انه مجتهد قطعاً مادام ذا ملكة / أو مادام قد استنبط جملة معتداً بها، فيكون الحاصل: ان المجتهد المطلق (ذا الملكة) لو حصل له ظن مطلق بالحكم الشرعي فانه لا يمكن نفي صدق (ظن المجتهد، أي ذا الملكة وبقيد كونه مجتهداً، حجةٌ) إلا لو قيّد بكونه مجتهداً بالفعل في هذه المسألة، وليس ذلك مما تقتضيه تلك العبارة فتدبر.
ويوضّحه: انه لو قال: أكرم العالم صح إكرام هذا العالم أو ذاك وإن كان جاهلاً بهذه المسألة أو تلك إذ لا يشترط في صدق العالم علمه بكل شيء بل يكفي علمه بجملة يعتدّ بها. فتأمل([5]).
الانصراف غير منضبط
كما سبق: (الوجه الرابع: ان الفقهاء كثيراً ما يتمسكون بالانصراف، مع انه غير منضبط أصلاً ولذا يختلفون في انه بدوي أو مستقر، وكثيراً ما يرجعونه إلى مناسبات الحكم والموضوع وهي غير منضبطة على انها مجرد مؤيد ظني وليست دليلاً يرقى إلى مستوى الظهور.
وقد يجاب باندراج كل ما مضى في الظهور وإرجاعهم كل ذلك إلى تحقق الظاهر وعدمه، وفيه: ما سيأتي كما للكلام تتمات)([6])
استنباط الفقيه مستند إما إلى الظهور أو إلى نفيه
وتوضيحه: ان استنباط الفقيه للحكم الشرعي تارة يستند إلى الظهور وأخرى يستند إلى نفي الظهور، وكل منهما قد يحصل من الظنون المطلقة وقد يحصل من الظنون الخاصة، ومع ذلك بنى الأصوليون والفقهاء على حجية هذا الاجتهاد من دون توقيف حجيته على كونه مستنداً إلى ظن خاص وكون هذا الظن الخاص مستنداً إلى ظن خاص آخر بل يقولون بحجية اجتهاده سواء في صورة كونه ظناً مطلقاً أم صورة كونه ظناً خاصاً مستنداً إلى الظن المطلق.
1- استنباط الفقيه المستند إلى نفي الظهور
أما الثاني وهو نفي الظهور، فهو كثير وذلك في الكثير من موارد دعوى الانصراف إذ يرفعون اليد عن الظاهر بدعوى انصرافه إلى حصة منه مستندين إلى ظن مطلق، أي ظن لم يقم عليه دليل بالخصوص، وأمثلة ذلك كثيرة:
موارد الانصراف بمختلف مناشئه:
فمنها: موارد الانصراف نظراً لتشكيكية الماهية، كانصراف النهار عما بين الطلوعين، في الصدقة مثلاً، وانصراف الظن عن الاطمئنان إن لم يرجع ذلك إلى دعوى ظهوره عرفاً في غيره.
ومنها: موارد الانصراف نظراً للترديد في الماهية كالشك في صدق الماء على المياه الزاجية والكبريتية لا لمشككية الماء بل لاحتمال كونهما من ماهية أخرى، وقد يدرج هذا المثال في لاحقه.
ومنها: موارد الانصراف للشك في الصدق، كصدق غَسَق الليل في الآية الكريمة على ما بين المغربين، أو على مجرد الظلمة من دون اشتدادها([7]).
ومنها: موارد الانصراف لمناسبات الحكم والموضوع، وهي كثيرة الدوران في الفقه.
ومنها: موارد الانصراف نظراً لأكملية بعض الأفراد، كانصراف صيغة الأمر إلى الوجوب بناء على وضعها لمطلق الطلب.
ومنها: موارد الانصراف نظراً للغاية المرتكزة، كما سبق مثاله وبعض سوابقه.
ومنها: موارد الانصراف نظراً لمشككية الدلالة كما في موثقة ابن أبي بكير ((كُلُّ مَا شَكَكْتَ فِيهِ مِمَّا قَدْ مَضَى فَامْضِهِ كَمَا هُوَ))([8]) وموثقة ابن أبي يعفور ((إِنَّمَا الشَّكُّ إِذَا كُنْتَ فِي شَيْءٍ لَمْ تَجُزْهُ))([9]) إذ قيل بانصرافه عن مجرد الخروج عن جزء (كالركوع) واختصاصه بما إذا دخل في جزء آخر، فان الانصراف ههنا كأكثر سوابقه ولواحقه لا يرجع إلى ضابط منهجي نوعي بل إلى ظن مطلق.
أمثلة وشواهد أخرى على الانصراف
ومن الأمثلة لبعض ما مضى أو غيره: انصراف (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)([10]) إلى المسح ببطن الكف دون ظهره.
ومن الأمثلة: ما ارتأه السيد الوالد من انصراف (الرشوة) عن الرشوة الفعلية والقولية إلى الرشوة المالية، ومن الأُولى: أن يخدم القاضي بإيصال ولده إلى المدرسة أو بغسل ملابسه أو بحمايته من اللصوص مثلاً، ومن الثانية: ان يمدحه ويثني عليه على رؤوس الأشهاد فان الإنسان يميل عادةً إلى الحكم لصالح من مدحه أو خدمه إلا من عصمه الله تعالى، فهي رشوة واقعاً لكن أدلة الرشوة في رأيه (قدس سره) منصرفة عنها.
ومن الأمثلة: ما ذهب إليه الميرزا النائيني من انصراف البيع عن بيع المنافع، في مثل قوله تعالى: (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ)([11]) فلا يصح بيع منافع البستان مثلاً.
ومن الأمثلة: ما لو قال اشتر حيواناً فانه ينصرف عن الأسد ونحوه، أو العقرب والحية ونحوهما، لكن لا يوجد ضابط منهجي نوعي لذلك أو ما سبقه.
تنبيه: بعض مناشئ الانصراف السابقة يعود إلى بعضها الآخر كما يظهر بالتدبر، كما ان بعض الأمثلة السابقة مناقش فيها أو مناقش في كونها من دائرة مبحث الانصراف فمثلاً: مع الترديد في الماهية فإن التمسك بالعام يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، وإنما سردناها لتكون منشأ لتدبر الطلاب الأفاضل وتفكرهم وكنوع من التمرين أيضاً. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْفَقِيهِ حَقِّ الْفَقِيهِ؟ مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ، وَلَمْ يَتْرُكِ الْقُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، أَلَا لَا خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَهُّمٌ، أَلَا لَا خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ، أَلَا لَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَفَكُّرٌ)) (الكافي: ج1 ص36).
--------------
([1]) كما في مفاتيح الأصول: 491 و452.
([2]) المحقق أحمد النراقي، عوائد الأيام، مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، ص357-358.
([4]) قيل ان الجواهر يستوعب ربع مليون مسألة (أي بأصولها وتشقيقاتها).
([8]) الشيخ الطوسي، التهذيب، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج2 ص344.
([11]) سورة البقرة: الآية 275.
--------------
([1]) كما في مفاتيح الأصول: 491 و452.