203- الصدر: لا يعقل كون المصلحة في الحكم نفسه- الجواب / بعضٌ: المصلحة السلوكية غير معقولة. -الجواب
السبت 18 شعبان 1444هــ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(203)
الملخص
قال في القوانين: (والقول: بأنّ المطلوب إذا كان واحداً في الأصول فيجب على اللّه نصب الدّليل عليه وإلّا لزم الظّلم واللّغو والعبث فمن لم يصبه فقد قصّر، إنّما يتمّ إذا ثبت وجوب إصابة الحقّ والواقع في نفس الأمر، بل المسلّم إنّما هو إصابة الحقّ في نظره مع عدم التّقصير والتفريط)([1]).
المشهور: يجب معرفة الحق الثبوتي، فكل مخالف مقصّر
وبعبارة أشمل وأكثر تفصيلاً: انّ مدّعى المشهور يتلخص في النقاط الثلاث التالية وما ينتج عنها:
أولاً: ان الحقيقة في الأصول واحدة، خلافاً للقول بتعدد القراءات المستحدث وللقول بالتصويب الأشعري، بمعنى السببية.
ثانياً: ان الواجب عقلاً هو معرفة تلك الحقيقة الواحدة والوصول إليها، بعبارة أخرى: الواجب إصابة الحقيقة النفس أمرية.
لو لم ينصب الله الدليل الموصل للزم الظلم وغيره
ثالثاً: وحيث وجبت علينا معرفة الحقيقة النفس أمرية وجب على الله تعالى نصب الدليل عليها أي الدليل الواضح الواصل إلى كل مكلف مكلف؛ وإلا لزم عليه تعالى الظلم واللغو والعبث:
أما الظلم، فلأنه لو لم ينصب الدليل ومع ذلك كلفنا بالمعرفة، فقد كلفنا بما لا يطاق أي بغير المقدور لنا إذ لا طريق لنا إلى معرفته جل اسمه وسائر أصول الدين إلا بدلالته أي إقامته الدليل، ولو عبر غرسه في الفطرة والعقل بأن يكشفه له فيجعله له مدركاً أو به حاكماً.
وأما العبث، فهو على ما قاله بعض المحققين من فقهاء اللغة: ما خلا من الإرادات إلا إرادة حدوثه فقط([2]) وفرقه عن اللعب أن الأخير ما انضم إليه إرادة اللهو وقيل إرادة اللذة لا لداعي الحكمة، كعمل الصبي، وعلى اي فالتكليف بالمعرفة مع عدم نصب الدليل عليها، عبث إذ يخلو حينئذٍ، لفرض كونه غير مقدور، من كل إرادة إلا إرادة الحدوث.
وأما اللغو، فهو الباطل من القول والزائد منه أو ما لا يعتد به منه([3])، والأمر بغير المقدور كذلك.
وقد فرّع المشهور على ذلك كله عدم وجود القاصر في أصول الدين وقد سبق (وقد ارتأى المشهور أنه مادام الواجب عقلاً على كل إنسان معرفة الحق والواقع كما هو، فانه يجب، عقلاً، على الله تعالى أن ينصب عليه الدليل الواضح وإلا لكان تكليفه بالمعرفة تكليفاً بما لا يطاق وكان ظلماً قبيحاً إذ كيف يصل المكلَّف إلى الحق من دون دليل واضح؟
وعليه: فإذا لم يصل شخص ما إلى الحق، اكتشفنا بالبرهان الإنّي كونه مقصراً لا قاصراً (لأن الله نصب الدليل الواضح فلا يكون عدم وصوله إلى الحق إلا لتقصيره) وينتج منه ان جميع الضالين مقصرون يستحقون النار)([4]).
الحل بإنكار المقدمة الثانية أو الثالثة
وحيث ارتأى صاحب القوانين، كما ارتأى غير المشهور ممن لحقه كالسيد الوالد وهو المختار أيضاً، وجود القاصرين بل كثرتهم، لذلك انكر المقدمة الثانية، ولكننا حيث ارتأينا صحتها أنكرنا المقدمة الثالثة، فلنقدم ما اخترناه فنقول:
المختار: الواجب نصب الطريق الموصل للنوع
يمكننا الالتزام بوجود القاصرين مع الالتزام بالمقدمة الأولى والثانية وذلك بالتصرف في المقدمة الثالثة بأن يقال: أن الواجب على الله تعالى عقلاً بما ألزم به نفسه، نصب الدليل الواصل شأناً أي الواصل للنوع ولا يجب عليه نصب الطريق الواصل إلى كل مكلف مكلف، وبذلك تندفع اللغوية والعبث إذ يكفي وجود المصلحة للنوع في التشريع لخروجه عنهما، وأما اندفاع الظلم فبالقول بأن المكلف الذي لم يصله الدليل بشخصه غير معاقب فلا يلزم الظلم حينئذٍ فانه إنما يلزم الظلم لو قلنا بانه معاقب على عدم المعرفة رغم عدم وصول الدليل إليه بشخصه لا بتقصير منه، سيأتي مزيد إيضاح وتحقيق في ضمن الجواب عن مختار القوانين.
القوانين: الواجب معرفة الحق بنظره لا الحق الثبوتي
وأما صاحب القوانين فقد التزم بنفي المقدمة الثانية فقال: ليس الواجب إصابة الواقع النفس أمري ومعرفة الحقيقة الواقعية بل الواجب إصابة الواقع بنظره، اي بنظر المجتهد (أي الباذل جهده والمستفرغ وسعه) إذ انهم فعلوا ما كلفوا به (وهو إصابة الحق بنظرهم) والفرض ان كل المشركين والكفار والبوذيين وحتى الملاحدة ومنكري الإله، قد أصابوا الحق بنظرهم أي ممن اعتقد بما وصل إليه حقاً لا من عرف الحق وجحده، وبذلك يسقط عنهم التكليف.
المناقشة: المصلحة قائمة بالثبوت لا بالأَنظار
ولكنّ مختاره غير تام؛ وذلك لأن الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في المتعلقات على المشهور (أو فيها وفي الجعل أو فيها وفي السلوك – كما فصلناه في بحث البيع) والمصلحة قائمة بإصابة الواقع النفس أمري لا بإصابة الواقع بنظره؛ ألا ترى أن المصلحة قائمة بشرب الماء الواقعي لا شرب الماء بنظره فانه، لو خالف، هو الماء المتوهم أو المتخيل؟ وهل في الماء المتوهم، كالسراب، مصلحة الإرواء مثلاً؟ وكذا المصلحة في الصوم والحج والزكاة فانها قائمة بها لا بما اعتقده منها، ولم تكن، وكذلك المفسدة قائمة بشرب السم الواقعي لا السم بنظره وإن لم يكن واقعاً سماً بل كان عسلاً أو ماءً فان فيه المصلحة على عكس نظره وما توهمّه.
وفي المقام: فإن المصلحة قائمة بمعرفة وجود الله تعالى وانه واحد أحد، لا في ما هو الواقع بنظره إذ أية مصلحة في الاعتقاد بأن الله ليس بواحد بل ثلاثة؟ بعبارة أخرى: نظره لا يقلب الواقع عما هو عليه فإذا كان في الشرك بالله مفسدة وظلم {لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (سورة لقمان: الآية 13) فانه لا ينقلب إلى مصلحة لمجرد كونه بنظره هو الحق.
وفي مراتب الحكم الأربعة تحقيق الجواب
وبوجه آخر أكثر تفصيلاً بما يدفع قول القوانين ويدفع قول المشهور أيضاً: ان مراتب الحكم، حسبما فصّله المحقق الخراساني، أربعة: - مرتبة الاقتضاء، مرتبة الإنشاء، مرتبة العقلية ومرتبة التنجز.
فمرتبة الاقتضاء هي مرتبة ثبوت المصالح الواقعية في المتعلقات التي تقتضي صدور الحكم على طبقها.
ومرتبة الإنشاء هي المرتبة التي يجعل فيها الحكم على الموضوع المستجمع، افتراضاً، لكافة الشرائط والقيود والفاقد افتراضاً، لكافة الموانع والقواطع.
ومرحلة الفعلية هي فيما لو تحققت الشرائط بالفعل (إلا العلم) في المكلف وانتفت الموانع.
ومرحلة التنجز تتحقق فيما لو علم بالتكليف فانه حينئذٍ يستحق العقاب بالمخالفة دون ما لو لم يعلم.
وحينئذٍ نقول: معرفة الواقع في أصول الدين بما هو هو واجدة للمصلحة الثبوتية التي تقتضي تشريع وجوبها، ثم ينشأ الشارع الحكم بوجوبها على المكلف الجامع للشرائط افتراضاً أي في عالم الجعل، والشرائط هي أي البلوغ والعقل.. إلخ، ثم إذا توفرت، خارجاً هذه القيود (من دون العلم) في مكلف بلغ الحكم مرتبة الفعلية، فإذا علم تنجز.
فبتحقق المراتب الأولى إلى الثالثة ينتفي كلام القوانين([5])، وبعدم تحقق الرابعة ينتفي كلام المشهور فانه وإن كلّف الله تعالى العبد بالمعرفة ونصب سبحانه عليه الدليل (فتحققت المراتب الثلاث الأول) لكن العبد إذا لم يعلم لسبب خارج عن اختياره فانه لا يستحق العقاب بالمخالفة (وصيرورته مشركاً مثلاً أو كافراً) فلا يلزم الظلم في حقه، كما انه مع الإذعان بأن الواجب على الله تعالى إراءة الطريق للنوع، لا إيصال كل شخص إلى المقصود، يتحقق وجود القاصر حينئذٍ..
وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
* * *
في قولنا (اصب الحق بنظرك) هل القيد قيد للحق أي متعلق الحكم أو القيد قيد للحكم أي أصب؟ أو هو ظرف؟ ما هو مختار القوانين منها؟ وبرهن ما تختاره.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((إِنَّ مَعْصِيَةَ النَّاصِحِ الشَّفِيقِ الْعَالِمِ الْمُجَرِّبِ تُورِثُ الْحَسْرَةَ وَتُعْقِبُ النَّدَامَةَ)) (نهج البلاغة: الخطبة 35).
------------------------
([1]) الميرزا أبو القاسم القمّي، القوانين المحكمة في الأصول، إحياء الكتب الإسلامية ـ قم، ج4 ص353.
([2]) أبو هلال العسكري، الفروق اللغوية، دار العلم والثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة – مصر: ص254..
([3]) كما في معجم مقاييس اللغة.
([5]) أنّ الواجب المعرفة بنظره لا النفس أمرية.
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((إِنَّ مَعْصِيَةَ النَّاصِحِ الشَّفِيقِ الْعَالِمِ الْمُجَرِّبِ تُورِثُ الْحَسْرَةَ وَتُعْقِبُ النَّدَامَةَ)) (نهج البلاغة: الخطبة 35).