بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(220)
تتمة فقه مناظرة زرارة مع الإمام الباقر (عليه السلام)
((فَقُلْتُ: قَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} لَا وَاللَّهِ لَا يَكُونُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ، قَالَ: فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): قَوْلُ اللَّهِ أَصْدَقُ مِنْ قَوْلِكَ يَا زُرَارَةُ أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} فَلَمَّا قَالَ: عَسَى، فَقُلْتُ: مَا هُمْ إِلَّا مُؤْمِنِينَ أَوْ كَافِرِينَ...))([1])
ولا بد هنا من التوقف لتحليل وجه قوله (عليه السلام): ((قَوْلُ اللَّهِ أَصْدَقُ مِنْ قَوْلِكَ)) أي تكييف ذلك أصولياً، لنعرف وجه توهم زرارة ووجه جواب الإمام (عليه السلام) وأن الجمع الذي قام به (عليه السلام) بين الآيتين هو أي نوع من الجمع، وبيان ذلك يعتمد على بيان مقدمة مهمة عن (الدلالة) فنقول: الدلالة إما وضعية – تصورية، وإما تصديقية وهي إما تصديقية أولى أو تصديقية ثانية:
الدلالة التصورية
أ- الدلالة التصورية أو الوضعية، وهي المعتمدة على الوضع وعلى علم السامع به، كدلالة جدار على معناه الموضوع لدى العالم بالوضع، وهي لا تعتمد على علم اللافظ أو قصده وإرادته أو غير ذلك، فلو صدر لفظ الجدار أو قائم أو حتى (زيد قائم) من النائم أو المخدَّر أو السكران المطبق أو المجنون، لأفاد تصور معناه([2]) الموضوع له.
الدلالة التصديقية الأولى
ب- الدلالة التصديقية الأولى، وقد تسمى بأسماء أخرى كالدلالة التفهيمية، والدلالة الاستعمالية، والإرادة الاستعمالية والدلالة الإخطارية، ويقصد بها: دلالة صدور الكلام من العاقل الملتفت([3]) إلى أنه يريد إخطار معناه في ذهن السامع، وانه يريد تفهيمه له وانه قد استعمله فيه، فتسمى تصديقية لأن قرينة الحال بحسب بناء العقلاء تفيد تصديق السامع بأن المتكلم أراد إخطار هذا المعنى في ذهنه وإفهامه به.
الدلالة التصديقية الثانية
ج- الدلالة التصديقية الثانية، وقد تسمى بالدلالة الجدية، أو الإرادة الجدية، أو الدلالة الحكائية والإخبارية، ويقصد بها دلالة صدور الكلام من العاقل الملتفت، على انه يريد الحكاية بكلامه عن الواقع والإخبار عنه، لا مجرد إخطار المعنى في ذهن السامع، وانه يريد بالإرادة الجدية لا التفهيمية الاستعمالية فقط وتسمى تصديقية ثانية لأنها تعتمد على الأولى فتأتي بعدها إذ تفيد تصديق السامع بأن المتكلم أراد الحكاية عن الخارج لا مجرد إخطار المعنى في ذهنه.
وبالتصديقية الثانية يخرج مثل (الهازل) فان لكلامه دلالة إخطارية – تفهيمية، لكن ليس لكلامه دلالة حكائية – جدية، فله الدلالة التصديقية الأولى دون الثانية، كما يخرج مثل (المعلّم) في طور تعليم تلامذته إعراب الجملة مثلاً إذ قال لهم: (اعربوا: لم يجئ زيد) فانه قصد إخطار المعنى ليفهموا من (لم) كونه نفياً مثلاً لا إثباتاً ولا نهياً وان متعلقه مضارع وان زيداً فاعل وهكذا ولكن لم يقصد الحكاية بذلك عن الخارج. وكذلك يخرج (المتمرّن) فان له الدلالة التصديقية الأول دون الثانية، إلا لو غفل عن المعاني بالمرة فانه يفقد الأولى حينئذٍ أيضاً.
ثمّ ان الدلالة التصديقية الأول ببركة أصالة التطابق بين الدلالتين التي يشهد بها الحال، وعليها استقر بناء العقلاء في مختلف الأحوال، تكون مرآة للدلالة التصديقية الثانية.
تطبيق البحث على الآيتين ووجه ردّ الإمام (عليه السلام) لزرارة
إذا اتضح ذلك فنقول: إنّ زرارة بنى على استفادة الحصر من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} وان الآية تفيد أمرين: إيجاباً وسلباً، فإذا أفاد الحصر وجب ملاحظة النسبة بين هذه الآية والآية التي استدل بها الإمام (عليه السلام) {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً} فانها إذا أفادت الحصر كان قول زرارة بالواسطة مستفاداً من الآية فلا يصح أن يقال: (قول الله، ويراد به آية خلطوا، أصدق من قولك) إذ قوله هو مفاد الآية، وإنما يصح إذا كان قول زرارة أجنبياً عن الآية بالمرة ولا يكون ذلك إلا إذا لم تفد الآية الحصر بالمرة فيكون الحصر هو قول زرارة لا غير، فيكون باطلاً إذ لا دليل عليه أولاً ولنفي آية {خَلَطُوا} له ثانياً، وأما إذا كان مستفاداً من الآية {فَمِنْكُمْ} فانه يكون قول الله حينئذٍ غاية الأمر ان قول الله الآخر {خَلَطُوا} متقدم عليه بالأظهرية مثلاً لتقدم المنطوق على المفهوم أو بالحكومة أو هو مفسّر له وشارح.
وأما الوجه في أن الحصر هو قول زرارة والآية أجنبية عنه، أي الحصر، بالمرة فهو ان الحصر إنما يستفاد من مفهوم اللقب فيها واللقب لا مفهوم له إذ (من) في {مِنْكُمْ} تبعيضية فتعني، كما سبق: بعضكم، ومفهوم اللقب هو ما صبّ الحكم فيه على الذات، مقابل الصفات، أو على الاسم الجامد الأعم من العَلَم والجنس والنوع والصنف([4]) و(بعض) يحل محلها أو قل هو مشير إليها، فلا يوجد مفهوم لها أصلاً ليفيد نفي القسم الثالث كي تكون الآية معارِضةً، ولو معارضةً بدوية، للآية الثانية.
بعبارة أخرى: التعارض إما بدوي أو مستقر، وفي كليهما يشترط وجود دلالةٍ ما كي تعارضها الدلالة الأخرى، ففي العام والخاص هنالك تعارض بدوي، وهو يعني أن العام له الدلالة التصديقية الثانية، لكن الخاص أقوى فيتقدم، أما في آية {فَمِنْكُمْ...} فانه لا تعارض حتى بدوياً إذ لا توجد فيها الدلالة التصديقية الأولى فكيف بالثانية، لتتعارض مع الآية الثانية؟
بعبارة ثالثة: لا تفيد الآية {فَمِنْكُمْ} انها بصدد تفهيم السامع وجود شق ثالث منفي، أي لا تفيد إرادة إخطاره في ذهنه، بل غاية دلالتها هو مفادها الإيجابي {فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} مع السكوت عما عدا ذلك، فلا دلالة تفهيمية – استعمالية – تصديقية، ولا إرادة جدية – حكائية – تصديقية ثانية، فالتعارض من السالبة بانتفاء الموضوع.
ولذا قال (عليه السلام)، فيما بدى لنا، ((قَوْلُ اللَّهِ أَصْدَقُ مِنْ قَوْلِكَ يَا زُرَارَةُ)) فتدبر، وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
* * *
- هل هناك وجه آخر غير مفهوم اللقب لاستفادة الحصر من آية {فَمِنْكُمْ...}؟
- هل يمكنك تفسير كلام الإمام (عليه السلام) ((قَوْلُ اللَّهِ أَصْدَقُ مِنْ قَوْلِكَ يَا زُرَارَةُ)) بوجه آخر غير ما ذكرناه؟
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
قال الإمام الصادق (عليه السلام) في وصيته لعبد الله بن جندب: ((قَديمًا عَمِرَ الجَهلُ وقَوِيَ أساسُهُ، وذلِكَ لاِتِّخاذِهِم دينَ اللّهِ لَعِبًا، حَتّى لَقَد كانَ المُتَقَرِّبُ مِنهُم إلَى اللّهِ بِعِلمِهِ يُريدُ سِواهُ، اُولئِكَ هُمُ الظّالِمونَ)) (تحف العقول: ص301).
------------------------
([1]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج2 ص402-403.
([2]) المفرد أو التركيبي.
([3]) غير الغافل، النائم، الغالط و...
([4]) كـ: أكرم زيداً، لا تؤذ الحيوان، احترم الإنسان، لا تُهِن المرأة...