75- روايات الإلزام وهل الامتنان حكمة أو علة ؟ -تحقيق الضابط العام في العلة والحكمة اولاً- منصوص العلة ثانياً-قياس الاولوية ثالثاً- تنقيح المناط
الاثنين 18 ربيع الثاني 1433هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم اجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كان البحث حول استظهار ان قاعدة الالزام واردة مورد الامتنان وانه غير تام , ووصلنا الى الروايات التي تتضمن كلمة الالزام بنفسها كقوله عليه السلام "الزموهم من ذلك ما الزموه انفسهم " او "الزموهم بما الزموا به انفسهم ",وذكرنا ان تمامية الاستدلال بالرواية يتوقف على امور : الاول :ان ظاهر كلمة الالزام هو تحديد العلاقة بيننا وبين الغير لا غير ذلك ,واجبنا عن ذلك بان هناك غفلة عن ركن ثالث في المقام, حيث ان العموم والاطلاق يستفاد منه، وهذا الركن هو (الملزم به ),أي : القضية الملزم بها ,فانها مطلقة من حيث كون متعلًّقها فيما كان بيننا وبينهم او ان المتعلق هو الاعم فيشمل ما كان بينهم انفسهم، اضافة الى ما كان في اطار علاقتهم معنا ,حيث ان ذلك الاطلاق يستفاد من كلمة (ما )الواردة في الرواية (بما الزموا به انفسهم )وهذه ال (ما ) مطلقة فتشمل الاعم مما بيننا وبينهم فتمتد الى مورد العلاقة فيما بينهم انفسهم ,ولو تم هذا الجواب فالأمر واضح في عموم وشمول القاعدة وسعة مصاديقها.
واما مبحثنا الان: فهو انه لو لم يكن ما سقناه من دليل على عمومية القاعدة مقنعاً، نضيف جوابا اخر , وهو جواب تنزلي وتوضيحه: لو سلمنا ان ظاهر كلمة الزموهم هو الركنين فقط أي الملزم والملزم وبنحو الحيثية التقييدية , وبالتالي ينبغي ان تكون القضية كذلك أي بينهما فقط , فهنا جواب اخر وهو :ان المثبتين لا يقيد احدهما الاخر وهذه قاعدة اصولية معروفة وعليها المشهور من القوم في مبحث الخاص والعام والمطلق والمقيد ,فالعام والخاص وكذا المطلق والمقيد لو كانا مثبتين فلا يقيد الثاني الاول, بل يحمل الثاني الاضيق على الفرد الافضل ,ففي مثال اكرم عالما واكرم العالم العادل، فان الثاني لا يقيد الاول بل العالم العادل تمام ملاك وجوب اكرامه هو العالمية، واما العدالة فهي قيد لبيان الفرد الافضل والاكمل ذلك, ومقامنا من هذا القبيل ,حيث ان الزموهم – على فرض كونها ظاهرة في العلاقة بين طرفين ومذهبين-، ولكن هناك روايات اخرى ظاهرة الدلالة في العموم لشمول العلاقة فيما بين المخالفين ايضا , ومثاله روايتنا المعهودة "من دان بدين قوم لزمته احكامهم " والدالة على عموم اللزوم في الاحكام وهذه لاتنافي تلك الظاهرة في علاقة الطرفين فقط ,أي بيننا وبينهم ,حيث ان ( لزمته احكامهم ) اعم من الاحكام البينية بيننا او التي بينهم، والعام المثبت لايخصص بالرواية المثبتة الاخرى.
وكذلك الحال في الرواية الاخرى "يجوز على كل ذوي دين ما يستحلون " ,وهنا "يستحلون " مطلقة وشاملة كذلك، وحيث ان الجهة واحدة وهي الاثبات فلا تقييد, ومعه فلا يبقى مجال للإشكال بان قاعدة الالزام خاصة بالعلاقة التي بيننا وبينهم فقط وفقط , هذه هي المقدمة الاولى والجواب عنها .
المقدمة الثانية : وهي ان روايات الالزام ظاهرة في الامتنان1. المقدمة الثالثة :ان ورود هذه الروايات مورد الامتنان انما هو على نحو العلة لا الحكمة ,وهنا لو اننا قبلنا المقدمة الثانية ولكن لم تتم الثالثة عندنا , أي :ان الامتنان ورد مورد الحكمة لا العلة وفان مورد الرواية سيكون خاصا ؛لان الحكمة لاتخصص ولا تعمم، ولابد من الاشارة الى اننا لو قبلنا المقدمة الاولى فسيكون الالزام خاصاً باطار ما بيننا وبينهم ,ومنه يستنتج انه لا الزام بحدودهم وعباداتهم 2وبالتالي فان احكامهم وعباداتهم تخرج خروجا موضوعيا تخصصيا من قاعدة الالزام ,وهذا ببركة المقدمة الاولى ,ولكننا لو رفضنا المقدمة الاولى - ونحن قد رفضناها كما بينا – لاحتجنا الى المقدمتين الاخيرتين، واما المقدمة الثانية وهي: هل ان قاعدة الالزام قد وردت مورد الامتنان او لا ؟ والجواب : اننا رفضنا هذه المقدمة وبينا سابقا بطلانها , وذلك من خلال استقراء الروايات واحدة تلو الاخرى ,واثبتنا ان لسانها لا يدل على الامتنان بحال من الاحوال.
واما في بحثنا اليوم ,فسنتنزل فيه عن رفضنا للمقدمة الثانية, ونسلم بها ونجيب بناء على ذلك جوابا مفتاحيا يفتح افاقا واسعة في البحث والنتائج ,فلو سلمنا بذلك وان روايات الالزام واردة مورد الامتنان كرواية جعفر بن سماعة او غير ذلك , فنقول : انه حتى مع قبول ان مورد الروايات هو مورد الامتنان – لو سلمنا بذلك – فمن اين نعرف ان (الامتنان) كان علة تشريع الحكم لا حكمته؟ خاصة ان اكثر العلل المذكورة ظاهرا في الشريعة هي حكم وليست بعلل واقعية للاحكام ,ولا تصريح في الروايات ان الامتنان هو علة تشريع قاعدة الالزام , وهذا الكلام هو بيان اولي ومبسط ,
واما البيان العلمي المحقق فسياتي بعد قليل، ولا بد من الاشارة الى ان الباب الذي سنبحثه الان وبصورة موجزة - والذي ارجو من الله تعالى ان يقوم بعض الافاضل بعد استحكام ملكة التدبر والعلم والتحقيق فيهم بالتوسع والتعمق في هذه المباحث -؛ و العناوين التي سنشيرلها ذات اهمية كبيرة في مجال الفقه والاستنباط , حيث اننا نرى ان هذه العناوين لم تعطَ ولم تولَ حقها من البحث في علمي الفقه والاصول ,مما نجم عن ذلك ان بعض الفقهاء قد حصل لهم نوع من التخبط عند تناولهم تطبيقات وفروع العناوين الخمسة الاتية وهذه العناوين هي 3: 1-منصوص العلة 2- قياس الاولوية 3-تنقيح المناط 4-تخريج المناط 5-القياس
وهناك عناوين اخرى نتركها لوقت اخر 4, وهنا نذكر ان بعض اعاظم الفقهاء رغم كونه اقرب الى كونه محدثا من كونه اصوليا ,فانه قد وقع في هذا المطب أي مطب القياس او الاستحسان ومقامنا من هذا القبيل .
توضيحه : ان الذي نريد ان نقوله في المقام انه لو فرض قبولنا بان روايات الالزام واردة مورد الامتنان لكنه ليس بمنصوص العلة هذا اولا , وليس من قبيل قياس الاولوية ثانيا , بل هو اما من قبيل تنقيح المناط الظني ,واما من قبيل تخريج المناط واما من قبيل القياس بقسمه الثاني المذكور سابقا 5.
العنوان الاول : منصوص العلة : ان من الواضح لدى مشهور الاصوليين ان منصوص العلة يكون معمما ومخصصا لذلك الحكم ولن نتوقف الان عند هذا العنوان ,ولكنه يحتاج الى بحث عميق.... لماذا ؟ لان الاخباريين يقولون ان منصوص العلة فبرغم ذلك لا يخصص ولا يعمم بل يختص بمورده ,بل ان بعض اعاظم الاصوليين كالسيد المرتضى (قدس سره ) قد ناصر رأيهم ؛ فهو يقول: ان منصوص العلة ليس بعلة في نصه ولكنها حكمة في المقام، و نورد كلام السيد المرتضى حسب نقل الحدائق له في ذلك حيث يقول 6 : (( وجرى النص على العلة مجرى النص على الحكم في قصره على موضعه )) , وهذه من السيد المرتضى عبارة واضحة وصريحة على اننا لابد ان نقتصر على مورد العلة كما اننا نقتصر على موضع الحكم في ذلك ، وللسيد قدس سره استدلاله على ذلك، كما ان صاحب الحدائق يستشهد بروايات على ذلك، ولسنا الان في مقام المحاكمة بين الرايين، بل للاشارة فقط الى هذا الخلاف. وعلى أي حال, فان مقامنا ليس بصغرى لكبرى منصوص العلة حتى لو التزمنا بها ككبرى؛ وذلك لعدم وجود ولو رواية واحدة تدل على ان الامتنان علة لتشريع الحكم لقاعدة الالزام من قبل الشارع .
العنوان الثاني : قياس الاولوية . وهنا نذكر ايضا ان مورد روايتنا ليس بصغرى لقياس الاولوية ,هذا من جهة ومن جهة اخرى ان نفس قياس الاولوية مناقش فيه وبعض فحول الاصوليين- كالمحقق رحمه الله تعالى- رفضوه كحال عامة الاخبارين في ذلك ,وبحث هذا الكلام يترك لمحله . ومبدئيا فان استدلال الاخبارين لا يخلو من قوة ,فهم يذكرون ان كل الروايات الواردة في باب النهي عن القياس هي ضد قياس الاولوية بالذات , ولكن كثيرا من الفقهاء ومن الاصوليين يسيرون في استدلالتهم اعتمادا على الاولوية, ونحن هنا لسنا بصدد ضم صوتنا الى صوت الاخباريين في ذلك , بل ان ذلك يحتاج الى مزيد من التأمل والتنقيح ,ويوجد كلام تفصيلي في المقام نتركه لمورده . والمهم ان رأي الاخبارين يعتمد على وجود ردع قوي عن قياس الاولوية ,كما في الاحتجاج الذي اقامه الامام الصادق عليه السلام على ابي حنيفة عندما سأله عن الاقذر هل هو البول او المني ؟ فاجاب :ان البول اقذر , وبحسب قياس الاولوية فيجب ان يغتسل منه كما في المني لكن الشارع اوجب الغسل من المني دونه , و كذلك في رواية اخرى عندما سأله ايهما اعظم القتل او الزنا؟ فأجاب: القتل اعظم، ولكن الامام عليه السلام اشكل عليه وقال له: لماذا لم يقبل الشارع الا اربعة شهود على الزنا وقبل شاهدين في القتل ؟ وفي مثال اخر عن امير المؤمنين عليه السلام يقول : لو كان القياس صحيحا لكان مسح باطن القدم اولى من ظاهرها في الوضوء, وكذلك الامر في مسألة الحائض التي عليها ان تقضي الصوم دون الصلاة بالرغم ان الصلاة هي عمود الدين ومادام الصوم يقضى فكان لابد من قضاء الصلاة من باب الاولوية ,وتوجد موارد مختلفة في هذه المسألة . و لكن وبرغم كل ذلك فلم يقول الاصوليون بان قياس الاولوية حجة ؟!
والجواب : ان مما استدلوا به اية ( ولا تقل لهما افٍ)، إلا ان الاخبارين يناقشون حتى في هذه الآية اي في صحة الاستناد اليها لحجية قياس الاولوية 7, اذن هذا العنوان يحتاج الى تأمل وتعمق وتنقيح وبحث وكل ذلك يترك الى محله , .وعلى أي حال فاننا حتى لو قبلنا بقياس الاولوية فان موردنا ليس بصغرى لقياس الاولوية.
العنوان الثالث : تنقيح المناط ، ان الاصوليين يقبلون بهذا العنوان ويعتمدون عليه في بعض استدلالتهم، إلا ان الاخباريين يرفضون هذا العنوان تبعا لرفض العنوانين الماضيين ,ومن باب الاولوية, و يمكن ان نمثل على تنقيح مناط الحكم بقاعدة الالزام وان ملاكها هو الامتنان، ولنتوقف اولا عند تعريف تنقيح المناط , فتنقيح المناط هو : فرز العلة الحقيقية عن الخصوصيات المكتنفة بها في ظاهر الخطاب وقيد ( ظاهر الخطاب )هو قيد مهم واساسي لتفريق المورد عن تخريج المناط , اي: بالتدبر والتأمل نقوم بعزل الخصوصيات التي ليس لها علاقة بالحكم الثابت للموضوع عن تلك التي لها هكذا علاقة أي العلة , وبتعبير اخر: ان تنقيح المناط يعتمد على نفي واثبات ,ففيه نفي لمدخلية الخصوصيات التي ليست لها علاقة بالحكم من جهة واثبات لعلته من جهة اخرى, ولنمثل بقاعدة الالزام بتنقيح المناط فيها بان نقوم بعملية تحليل لكلمة (الزموهم )؛ ماهو الدخيل في ثبوت الحكم وماهو ليس بدخيل في ذلك ؟ فنقول مثلاُ: بان الدخيل هو نفس الالزام في دائرة الاختلاف، أي ان هناك اختلافا وعلى ضوئه ينبغي ان تكون هناك قاعدة قاهرة اسمها الالزام فينقح المناط فيها وانه (الالزام نفسه )واما كلمة ( هم ) فلا مدخلية لها في ذلك ,ولذلك نستطيع ان نجري قاعدة الالزام على أي اختلاف وان كان بين مجتهدين من الفرقة الحقة –والمشهور لا يقبل ذلك طبعا – والحاصل: ان (الزموهم) فيها ركنان هما "االالزام "و "هم " فننفي مدخلية الثاني ونثبت محورية الاول في ثبوت ذلك الحكم ؛لانه تمام الملاك، وهذا مثال لتوضيح المطلب وان كان مرفوضاً كصغرى –اي من حيث الاستدلال-
والاشكال هو :ان تنقيح المناط لو كان ظنيا فهو قياس بلا اشكال، ولكن الفقيه له الحق في صورة واحدة فقط وهو ان يكون قاطعا عند تنقيح مناط حكمه، فيتيقن بدخالة الخصوصية الاولى وبعدم الاخرى فيه ,كما في "ولاتقل لهما اف "فانه يقطع بان الخصوصية الملغاة هي شكل كلمة "اف", واما المثبت والذي يدور الحكم فمداره هو الايذاء وهو الجامع وللكلام تتمة وصلى الله على محمد واله الطاهرين .....
الهوامش ..............................................
1.هذه المقدمات الثلاثة يحتاج اليها لتنتج عدم الزامنا اياهم بعباداتهم وحدودهم وتعزيراتهم، بمعنى ان المقدمة الاولى كافية لعدم الزامهم بها لكن لو نفينا المقدمة الاولى احتجنا للاخيرتين لنفي الزامهم بها كما سيأتي في المتن.
2.لان احكامهم وعباداتهم هي من شؤونهم فيما بين بعضهم
3.وهو بحث مبنائي مهم يبين الفارق الجوهري بيننا وبين العامة
4.مثل الاستحسان والمصالح المرسلة وغيرها
5.وهو قياس ابي حنيفة
6.الفائدة الثالثة من فوائد الحدائق7
7.يراجع الحدائق الناضرة الفائدة الثالثة ج 1 ص 92
الاثنين 18 ربيع الثاني 1433هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |