بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(573)
السياق دليل على عموم رفع القلم عن الصبي
سادساً: ما أشكل به السيد الوالد ((قدس سره)) على الشيخ ((قدس سره)) الذي خص رفع القلم بقلم المؤاخذة، بأنّ ذلك خلاف وحدة سياق الصبي مع المجنون والنائم، والأخيران مرفوع عنهما الأعم من قلم المؤاخذة فحال الصبي كذلك قال: (وثانياً: ان شفعه بالنائم والمجنون وهما مرفوع عنهما كل تلك الأربعة يقتضي أن يكون الصبي كذلك؛ للسياق)([1]).
ويقصد ((قدس سره)) من الأربعة: (قلم التكليف وقلم الوضع وقلم المؤاخذة وقلم التأديب) ونضيف: (وقلم كتابة الحسنات والسيئات وقلم الإستحقاق وهو السابق رتبة على المؤاخذة)، فإن النائم لم يوضع عليه قلم التكليف ولا قلم استحقاق العقوبة ولا قلم كتابة السيئات أو الحسنات ولا قلم التأديب كما لم يوضع عليه قلم المؤاخذة، فإذا ضرب النائم برجله أحداً فقتله فإنه لا يؤاخذ ولا يؤدّب كما أنه لم يفعل محرماً إذ ليس مكلفاً ولا غير ذلك، وكذا المجنون، فكذلك الصبي.
الحكم الوضعي على نوعين: منوط بالقصد وغيره
أقول: وأما قلم الوضع فالتحقيق أنه على نوعين:
الأول: الأحكام الوضعية التي لا يتوقف حصولها على القصد.
الثاني: الأحكام الوضعية التي تتوقف عليه.
والأول: كالملكية بالإرث فإنه إذا مات أبوه ورثه سواءً أقصد أم لا.
والثاني: كالملكية بالحيازة فإنها موقوفة على القصد.
والمعاملات، من عقود وإيقاعات، من قبيل الثاني إذ أن الإنشاء يتوقف على القصد.
فإن قصد ((قدس سره)) من (هما، أي المجنون والنائم، مرفوع عنهما كل تلك الأربعة ومنها الوضع) قلم الوضع مطلقاً أي حتى ما لا يتوقف على القصد وَرَدَ: عدم رفعها عن الثلاثة بداهة أن الزوجية لا ترتفع بالنوم أو بالجنون، ولذا يجوز له الإستمتاع بزوجته النائمة بل لا يقول أحد بأنها ترتفع بالنوم ثم تعود باليقظة، وأن الصغير لو أجرى وليّه عقد النكاح له صار زوجاً وأنه لو مات أبوه ورثه وملك حصته من الإرث، وكذا الملكية لا ترتفع بالنوم أو الجنون.
والحاصل: أن حديث رفع القلم عن الثلاثة لا شك في أنه لا يرفع الأحكام الوضعية التكوينية القهرية التي لا تتوقف على القصد، نعم يمكن القول إن حديث الرفع يرفع الأحكام الوضعية التي تتوقف على القصد كإنشاء البيع أو الطلاق، لكن الحق أن حديث الرفع ليس هو الرافع لصحة بيع المجنون أو النائم بل فقدانه القصد المعتبر في الإنشاء سبب لسلب عبارته فالمقتضي ليس موجوداً، لا أن مقتضي الصحة موجود لكن حديث الرفع صار مانعاً ورافعاً.
نعم لا يجري ذلك في الصبي المميز إذ أنه قاصد فالمقتضي موجود لصحة عقده، فيصلح حديث الرفع، لو أريد به رفع الحكم الوضعي أيضاً، أن يكون رافعاً لصحة عقده، لكن هذا خروج عن الإستدلال بالسياق، فتدبر.
ووحدة متعلق رُفع دليل آخر
ثم إنه يمكن أن نستدل له ((قدس سره)) إضافة إلى السياق بوحدة متعلق حديث الرفع وهو (ثَلَاثَةٍ) إذ ورد في الحديث ((َنَّ الْقَلَمَ رُفِعَ عَنْ ثَلَاثَةٍ))وحيث كان المتعلَّق والمصب (ثَلَاثَةٍ) وهو جامع اعتباري أو انتزاعي أو عنواني، فإنه يستبعد جداً أن يراد من الرفع عن بعضهم وهم المجنون والنائم المعنى الأعم من المؤاخذة والوضع والتكليف والتأديب، ومن بعضهم، أي الصبي، خصوص المؤاخذة فإنه أشبه باستعمال اللفظ في أكثر من معنى، بل يكفي أنه غير عرفي.
لا يقال: (ثلاثة) ليس جامعاً بل هو وجود إجمالي للثلاثة.
إذ يقال: سواء أكان ثلاثة جامعاً حقيقياً أم انتزاعياً أم اعتبارياً وحتى لو قلنا أنه أمر ينحل إلى مدلولاته الثلاثة، فإنه في كل الصور واحدٌ عنواناً، والعرف يرى أن الرفع المنصب عليه منصب عليه بما هو عنوان لمعنوناته بوِزان واحد. فتدبر. هذا.
الوالد ضمان الصبي حكم تكليفي تعليقي
ولكنّ الذي يبدو أن السيد الوالد في هذا المبحث ينفي الأحكام الوضعية كلها عن المجنون والنائم والصبي لا التي يتوقف منها على القصد فقط، وذلك لأنه يصرح بنفي الضمان على المجنون والصبي، ويصرح بإرجاع الوضع إلى التكليف، قال:
(إن قلت: الضمان ثابت عليهما؟.
قلت: هما كالجدار والبهيمة عقلاً وشرعاً فمعنى الضمان أنه إذا يقظ وعقل تعلق به لا أنه في حال النوم والجنون كذلك)([2])
أقول: هذا مبني على ما التزمه الشيخ من أن الأحكام الوضعية منتزعة من التكليفية بل هو مبني على أنه لا يوجد حكم وضعي بل إنه مجرد تعبير آخر عن الحكم التكليفي ولذا فسر الوالد الحكم الوضعي (الضمان) بالحكم التكليفي التعليقي إذ قال: (فمعنى الضمان أنه إذا يقظ وعقل تعلق به لا أنه في حال النوم والجنون كذلك).
الشيخ: مرجع الخطاب الوضعي إلى التكليفي
وهذا هو الرأي الذي طرحه الشيخ في الرسائل، قال: (ثم إنه لا بأس بصرف الكلام إلى بيان أن الحكم الوضعي حكم مستقل مجعول - كما اشتهر في ألسنة جماعة([3]) - أو لا، وإنما مرجعه إلى الحكم التكليفي؟ فنقول:
المشهور([4]) - كما في شرح الزبدة([5]) - بل الذي استقر عليه رأي المحققين - كما في شرح الوافية للسيد صدر الدين([6]) -: أن الخطاب الوضعي مرجعه إلى الخطاب الشرعي، وأن كون الشئ سببا لواجب هو الحكم بوجوب ذلك الواجب عند حصول ذلك الشئ، فمعنى قولنا: "إتلاف الصبي سبب لضمانه"، أنه يجب عليه غرامة المثل أو القيمة إذا اجتمع فيه شرائط التكليف من البلوغ والعقل واليسار وغيرها، فإذا خاطب الشارع البالغ العاقل الموسر بقوله: " أغرم ما أتلفته في حال صغرك "، انتزع من هذا الخطاب معنى يعبر عنه بسببية الإتلاف للضمان، ويقال: إنه ضامن، بمعنى أنه يجب عليه الغرامة عند اجتماع شرائط التكليف)([7]).
فهذا الكلام من الشيخ صريح في أن الحكم الوضعي ليس أمراً آخر بل هو عبارة أخرى عن الحكم التكليفي لكن الشيخ لم يلتزم بهذا الرأي دائماً كما أن الوالد بنى في عموم الفقه على غير ذلك إذ التزم بأن الحكم الوضعي أمر آخر بين مستقل بالجعل وبين ما كانت بعض أنواعه منتزعة. وسيأتي الكلام عن ذلك تفصيلاً.
مناقشة فنيّة مع الشيخ
تنبيه: قال الشيخ (وثانياً: أن المشهور على الألسنة أن الأحكام الوضعية ليست مختصة بالبالغين، فلا مانع من أن يكون عقده سبباً لوجوب الوفاء به بعد البلوغ أو على الولي إذا وقع بإذنه أو إجازته، كما تكون جنابته سبباً لوجوب غسله بعد البلوغ وحرمة تمكينه من مس المصحف)([8]).
أقول: كان الأولى للشيخ ((قدس سره)) أن يقول: (فلا مانع من أن يكون عقده سبباً لنقل الملكية ولوجوب الوفاء) لكنه اقتصر على (لا مانع من أن يكون عقده سبباً لوجوب الوفاء) مع أنه مادام بنى على أن المشهور كذا فكان الأولى جداً والأوفق بمرامه وما هو عمدة محل نقضه وإبرامه أن يضيف ما أضفناه إذ مورد البحث هو صحة معاملة الصبي وكون عقده سبباً لنقل الملك أو لا، فعلى المشهور الذي ذكره من عدم اختصاص الأحكام الوضعية بالبالغين فلا مانع من سببية عقده لتمليك الغير وكونه ناقلاً فإن هذا هو بيت القصيد في البحث لا سببية عقده لوجوب الوفاء بعد البلوغ فإنه وإن كان إذعاناً بالحكم الوضعي (السببية) لكنه استنتج منه حكماً تكليفياً (السببية لوجوب الوفاء) ولم يكن هذا محل الخلاف بل السببية للصحة هي محل الخلاف، فما دام بنى في الجواب الثاني على الرأي المشتهر في الألسنة من تحقق الحكم الوضعي في حق غير البالغ فليصرح بسببية عقده لناقلية ما باعه فإنه محل المناقشة في البحث من أوله إلى آخره لا وجوب الوفاء بعد البلوغ المسلّم لدى الكل سواء أكان العقد سبباً له أم غيره، فتدبر.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين ((عليه السلام)): ((قْبَلْ مِنَ الْحُكَمَاءِ مَوَاعِظَهُمْ وَتَدَبَّرْ أَحْكَامَهُمْ، وَكُنْ آخَذَ النَّاسِ بِمَا تَأْمُرُ بِهِ وَأَكَفَّ النَّاسِ عَمَّا تَنْهَى عَنْه)) (من لا يحضره الفقيه: ج4 ص387).
----------------------
([1]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الفقه / البيع، ج3 ص39.
([2]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الفقه / البيع، ج3 ص39.
([3]) منهم: العلامة في النهاية (مخطوط): 9، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد: 37، والشيخ البهائي في الزبدة: 30، والفاضل التوني في الوافية: 202، والوحيد البهبهاني في الفوائد الحائرية: 95، والسيد بحر العلوم في فوائده: 3، وكذا يظهر من القوانين 2: 54 و 1: 100، وهداية المسترشدين: 3، إشارات الأصول: 6، والفصول: 2.
([4]) من جملة المشهور: الشهيد الأول في الذكرى 1: 40، والقواعد والفوائد 1: 30، والمحقق الخوانساري في مشارق الشموس: 76 وستأتي عبارته، شريف العلماء في تقريرات درسه في ضوابط الأصول: 6، مضافا إلى شارحي الزبدة والوافية كما أشير إليهما، وغيرهم.
([5]) غاية المأمول في شرح زبدة الأصول، للفاضل الجواد (مخطوط): الورقة 59.
([6]) شرح الوافية (مخطوط): 350.
([7]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج3 ص125-126.
([8]) الشيخ مرتضى الأنصاري، المكاسب، دار الذخائر ـ قم: ج1 ص434.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(573)
السياق دليل على عموم رفع القلم عن الصبي
سادساً: ما أشكل به السيد الوالد ((قدس سره)) على الشيخ ((قدس سره)) الذي خص رفع القلم بقلم المؤاخذة، بأنّ ذلك خلاف وحدة سياق الصبي مع المجنون والنائم، والأخيران مرفوع عنهما الأعم من قلم المؤاخذة فحال الصبي كذلك قال: (وثانياً: ان شفعه بالنائم والمجنون وهما مرفوع عنهما كل تلك الأربعة يقتضي أن يكون الصبي كذلك؛ للسياق)([1]).
ويقصد ((قدس سره)) من الأربعة: (قلم التكليف وقلم الوضع وقلم المؤاخذة وقلم التأديب) ونضيف: (وقلم كتابة الحسنات والسيئات وقلم الإستحقاق وهو السابق رتبة على المؤاخذة)، فإن النائم لم يوضع عليه قلم التكليف ولا قلم استحقاق العقوبة ولا قلم كتابة السيئات أو الحسنات ولا قلم التأديب كما لم يوضع عليه قلم المؤاخذة، فإذا ضرب النائم برجله أحداً فقتله فإنه لا يؤاخذ ولا يؤدّب كما أنه لم يفعل محرماً إذ ليس مكلفاً ولا غير ذلك، وكذا المجنون، فكذلك الصبي.
الحكم الوضعي على نوعين: منوط بالقصد وغيره
أقول: وأما قلم الوضع فالتحقيق أنه على نوعين:
الأول: الأحكام الوضعية التي لا يتوقف حصولها على القصد.
الثاني: الأحكام الوضعية التي تتوقف عليه.
والأول: كالملكية بالإرث فإنه إذا مات أبوه ورثه سواءً أقصد أم لا.
والثاني: كالملكية بالحيازة فإنها موقوفة على القصد.
والمعاملات، من عقود وإيقاعات، من قبيل الثاني إذ أن الإنشاء يتوقف على القصد.
فإن قصد ((قدس سره)) من (هما، أي المجنون والنائم، مرفوع عنهما كل تلك الأربعة ومنها الوضع) قلم الوضع مطلقاً أي حتى ما لا يتوقف على القصد وَرَدَ: عدم رفعها عن الثلاثة بداهة أن الزوجية لا ترتفع بالنوم أو بالجنون، ولذا يجوز له الإستمتاع بزوجته النائمة بل لا يقول أحد بأنها ترتفع بالنوم ثم تعود باليقظة، وأن الصغير لو أجرى وليّه عقد النكاح له صار زوجاً وأنه لو مات أبوه ورثه وملك حصته من الإرث، وكذا الملكية لا ترتفع بالنوم أو الجنون.
والحاصل: أن حديث رفع القلم عن الثلاثة لا شك في أنه لا يرفع الأحكام الوضعية التكوينية القهرية التي لا تتوقف على القصد، نعم يمكن القول إن حديث الرفع يرفع الأحكام الوضعية التي تتوقف على القصد كإنشاء البيع أو الطلاق، لكن الحق أن حديث الرفع ليس هو الرافع لصحة بيع المجنون أو النائم بل فقدانه القصد المعتبر في الإنشاء سبب لسلب عبارته فالمقتضي ليس موجوداً، لا أن مقتضي الصحة موجود لكن حديث الرفع صار مانعاً ورافعاً.
نعم لا يجري ذلك في الصبي المميز إذ أنه قاصد فالمقتضي موجود لصحة عقده، فيصلح حديث الرفع، لو أريد به رفع الحكم الوضعي أيضاً، أن يكون رافعاً لصحة عقده، لكن هذا خروج عن الإستدلال بالسياق، فتدبر.
ووحدة متعلق رُفع دليل آخر
ثم إنه يمكن أن نستدل له ((قدس سره)) إضافة إلى السياق بوحدة متعلق حديث الرفع وهو (ثَلَاثَةٍ) إذ ورد في الحديث ((َنَّ الْقَلَمَ رُفِعَ عَنْ ثَلَاثَةٍ))وحيث كان المتعلَّق والمصب (ثَلَاثَةٍ) وهو جامع اعتباري أو انتزاعي أو عنواني، فإنه يستبعد جداً أن يراد من الرفع عن بعضهم وهم المجنون والنائم المعنى الأعم من المؤاخذة والوضع والتكليف والتأديب، ومن بعضهم، أي الصبي، خصوص المؤاخذة فإنه أشبه باستعمال اللفظ في أكثر من معنى، بل يكفي أنه غير عرفي.
لا يقال: (ثلاثة) ليس جامعاً بل هو وجود إجمالي للثلاثة.
إذ يقال: سواء أكان ثلاثة جامعاً حقيقياً أم انتزاعياً أم اعتبارياً وحتى لو قلنا أنه أمر ينحل إلى مدلولاته الثلاثة، فإنه في كل الصور واحدٌ عنواناً، والعرف يرى أن الرفع المنصب عليه منصب عليه بما هو عنوان لمعنوناته بوِزان واحد. فتدبر. هذا.
الوالد ضمان الصبي حكم تكليفي تعليقي
ولكنّ الذي يبدو أن السيد الوالد في هذا المبحث ينفي الأحكام الوضعية كلها عن المجنون والنائم والصبي لا التي يتوقف منها على القصد فقط، وذلك لأنه يصرح بنفي الضمان على المجنون والصبي، ويصرح بإرجاع الوضع إلى التكليف، قال:
(إن قلت: الضمان ثابت عليهما؟.
قلت: هما كالجدار والبهيمة عقلاً وشرعاً فمعنى الضمان أنه إذا يقظ وعقل تعلق به لا أنه في حال النوم والجنون كذلك)([2])
أقول: هذا مبني على ما التزمه الشيخ من أن الأحكام الوضعية منتزعة من التكليفية بل هو مبني على أنه لا يوجد حكم وضعي بل إنه مجرد تعبير آخر عن الحكم التكليفي ولذا فسر الوالد الحكم الوضعي (الضمان) بالحكم التكليفي التعليقي إذ قال: (فمعنى الضمان أنه إذا يقظ وعقل تعلق به لا أنه في حال النوم والجنون كذلك).
الشيخ: مرجع الخطاب الوضعي إلى التكليفي
وهذا هو الرأي الذي طرحه الشيخ في الرسائل، قال: (ثم إنه لا بأس بصرف الكلام إلى بيان أن الحكم الوضعي حكم مستقل مجعول - كما اشتهر في ألسنة جماعة([3]) - أو لا، وإنما مرجعه إلى الحكم التكليفي؟ فنقول:
المشهور([4]) - كما في شرح الزبدة([5]) - بل الذي استقر عليه رأي المحققين - كما في شرح الوافية للسيد صدر الدين([6]) -: أن الخطاب الوضعي مرجعه إلى الخطاب الشرعي، وأن كون الشئ سببا لواجب هو الحكم بوجوب ذلك الواجب عند حصول ذلك الشئ، فمعنى قولنا: "إتلاف الصبي سبب لضمانه"، أنه يجب عليه غرامة المثل أو القيمة إذا اجتمع فيه شرائط التكليف من البلوغ والعقل واليسار وغيرها، فإذا خاطب الشارع البالغ العاقل الموسر بقوله: " أغرم ما أتلفته في حال صغرك "، انتزع من هذا الخطاب معنى يعبر عنه بسببية الإتلاف للضمان، ويقال: إنه ضامن، بمعنى أنه يجب عليه الغرامة عند اجتماع شرائط التكليف)([7]).
فهذا الكلام من الشيخ صريح في أن الحكم الوضعي ليس أمراً آخر بل هو عبارة أخرى عن الحكم التكليفي لكن الشيخ لم يلتزم بهذا الرأي دائماً كما أن الوالد بنى في عموم الفقه على غير ذلك إذ التزم بأن الحكم الوضعي أمر آخر بين مستقل بالجعل وبين ما كانت بعض أنواعه منتزعة. وسيأتي الكلام عن ذلك تفصيلاً.
مناقشة فنيّة مع الشيخ
تنبيه: قال الشيخ (وثانياً: أن المشهور على الألسنة أن الأحكام الوضعية ليست مختصة بالبالغين، فلا مانع من أن يكون عقده سبباً لوجوب الوفاء به بعد البلوغ أو على الولي إذا وقع بإذنه أو إجازته، كما تكون جنابته سبباً لوجوب غسله بعد البلوغ وحرمة تمكينه من مس المصحف)([8]).
أقول: كان الأولى للشيخ ((قدس سره)) أن يقول: (فلا مانع من أن يكون عقده سبباً لنقل الملكية ولوجوب الوفاء) لكنه اقتصر على (لا مانع من أن يكون عقده سبباً لوجوب الوفاء) مع أنه مادام بنى على أن المشهور كذا فكان الأولى جداً والأوفق بمرامه وما هو عمدة محل نقضه وإبرامه أن يضيف ما أضفناه إذ مورد البحث هو صحة معاملة الصبي وكون عقده سبباً لنقل الملك أو لا، فعلى المشهور الذي ذكره من عدم اختصاص الأحكام الوضعية بالبالغين فلا مانع من سببية عقده لتمليك الغير وكونه ناقلاً فإن هذا هو بيت القصيد في البحث لا سببية عقده لوجوب الوفاء بعد البلوغ فإنه وإن كان إذعاناً بالحكم الوضعي (السببية) لكنه استنتج منه حكماً تكليفياً (السببية لوجوب الوفاء) ولم يكن هذا محل الخلاف بل السببية للصحة هي محل الخلاف، فما دام بنى في الجواب الثاني على الرأي المشتهر في الألسنة من تحقق الحكم الوضعي في حق غير البالغ فليصرح بسببية عقده لناقلية ما باعه فإنه محل المناقشة في البحث من أوله إلى آخره لا وجوب الوفاء بعد البلوغ المسلّم لدى الكل سواء أكان العقد سبباً له أم غيره، فتدبر.
قال أمير المؤمنين ((عليه السلام)): ((قْبَلْ مِنَ الْحُكَمَاءِ مَوَاعِظَهُمْ وَتَدَبَّرْ أَحْكَامَهُمْ، وَكُنْ آخَذَ النَّاسِ بِمَا تَأْمُرُ بِهِ وَأَكَفَّ النَّاسِ عَمَّا تَنْهَى عَنْه)) (من لا يحضره الفقيه: ج4 ص387).
([2]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الفقه / البيع، ج3 ص39.
([3]) منهم: العلامة في النهاية (مخطوط): 9، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد: 37، والشيخ البهائي في الزبدة: 30، والفاضل التوني في الوافية: 202، والوحيد البهبهاني في الفوائد الحائرية: 95، والسيد بحر العلوم في فوائده: 3، وكذا يظهر من القوانين 2: 54 و 1: 100، وهداية المسترشدين: 3، إشارات الأصول: 6، والفصول: 2.
([4]) من جملة المشهور: الشهيد الأول في الذكرى 1: 40، والقواعد والفوائد 1: 30، والمحقق الخوانساري في مشارق الشموس: 76 وستأتي عبارته، شريف العلماء في تقريرات درسه في ضوابط الأصول: 6، مضافا إلى شارحي الزبدة والوافية كما أشير إليهما، وغيرهم.
([5]) غاية المأمول في شرح زبدة الأصول، للفاضل الجواد (مخطوط): الورقة 59.
([6]) شرح الوافية (مخطوط): 350.
([7]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج3 ص125-126.
([8]) الشيخ مرتضى الأنصاري، المكاسب، دار الذخائر ـ قم: ج1 ص434.