بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(640)
سبق: (تتمة: سبق ان المحتملات في المقصود من البيع في {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} عديدة تبلغ سبعة محتملاً أو أكثر، وهي: أن المراد بالبيع: إنشاؤه وصيغته، أو التسبيب به إلى المبادلة، أو المبادلة، أو الملكية الحاصلة به، أو الاعتبار النفساني المبرز، ونضيف:
الاحتمال السادس: ما ذكره المحقق النائيني من أن المراد المعنى الأول والثالث معاً، بمعنى انهما حيث كانا متحدين وجوداً فالمراد من {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} كلاهما؛ لأنهما وإن كانا متعددين مفهوماً لكنهما متحدان وجوداً، فامضاء أحدهما إمضاء للآخر وذلك لاتحاد الآلة بذيها والإنشاء آلة لوجود ذيه، وصيغة البيع آلة لوجود البيع بمعنى المبادلة فوجودها بوجودها فهي هي)[1].
النائيني: صيغة العقد مع المعاملة أمر واحد
ولننقل أولاً عبارة المحقق النائيني (قدس سره) كما نقلها عنه في مصباح الأصول، مع بعض المناقشات فيها، ثم ننقل عبارته حسب أجود التقريرات، مع مناقشة إضافية:
قال في مصباح الأول: (وقد يستشكل في ذلك بأنّ الاطلاق الوارد في مقام البيان إن كان ناظراً إلى إمضاء الأسباب صحّ التمسك به، لإلغاء كلّ ما يحتمل دخله في السببية، وأمّا إن كان ناظراً إلى إمضاء المسببات، كالزوجية والملكية مثلاً مع قطع النظر عن الأسباب، فلا يدلّ على إمضاء الأسباب كي يتمسّك به في نفي ما يحتمل دخله في السببية، إذ لا ملازمة بين امضاء المسبّب وامضاء السبب، فانّ الشارع قد أمضى الزوجية ولم يمض المعاطاة فيها، بل لم يمض العقد بالفارسي فيها)[2] (وأجاب المحقق النائيني رحمه اللّه عن هذا الاشكال، بأنّ نسبة صيغ العقود الى المعاملات ليست نسبة الأسباب إلى مسبّباتها حتّى يكونا موجودين خارجيّين يترتّب أحدهما على الآخر، نظير الإلقاء في النار والإحراق، بل نسبتها إليها نسبة الآلة إلى ذيها، باعتبار أنّ البيع المنشأ باللفظ قسم والمنشأ بالمعاطاة قسم آخر، وبالإشارة قسم ثالث، وهكذا، فلا يكون هناك موجودان خارجيّان كي لا يكون امضاء أحدهما إمضاءً للآخر، بل الموجود واحد، وهو حقيقة المعاملة، غاية الامر أنّه ينقسم باعتبار الآلة الى أقسام، فاذا كان دليل الامضاء وارداً في مقام البيان ولم يقيّده بنوع دون نوع يستكشف منه العموم، كما هو الحال في سائر الاطلاقات)[3].
الجواب: هما أمران، بأدلة عديدة
أقول: قد يورد عليه: بوضوح ان الإنشاء (وصيغة العقد) موجود بوجود آخر مغاير للمعاملة الموجودة به (بالإنشاء) أي للمنشأ وهو حقيقة المعاملة[4]، وذلك لأن الإنشاء من مقولة الفعل، وهي احدى المقولات العشر، وأما المنشأ وهو المعاملة فهو إعتبار عقلائي فان مبادلة مال بمال اعتبار، فهو من عالم الاعتبار، وعالم الاعتبار خارج عن المقولات العشر وهي:
كَمٌ وكيفٌ وضعٌ أينٌ له متى فِعلٌ مضافٌ وانفعالٌ ثبتا
أجناسه القصوى لدى المعلم وبالثلاث أو بالأربع نمي[5]
فكيف يكون ما هو من مقولة الفعل عين هو خارج عن المقولات كلها؟
بوجه آخر: الإنشاء قائم بالمنشِأ وأما المنشَأ وهو مبادلة مال بمال فهو قائم بأنفس العقلاء، وقيل بالعقل الفعّال، فلا يعقل كونهما موجوداً واحداً.
لا يقال: بل هو قائم بنفس المنشِأ؟
إذ يقال: كلا، فإن قيام الاعتبار بنفس المنشأ ليس المصحح لتحقق المبادلة ومطلق الاعتباريات وليس هو ما يرتب عليه العقلاء الأثر؛ ألا ترى أن زيداً لو اعتبر هذه الورقة التي في جيبه، ذات قيمة معينة بأن اعتبر لها قيمة مليون دينار، لرفضه العقلاء ولما رتبوا عليه الأثر بل إنما يعتبرون العملة الورقية ذات قيمة ويرتبون عليها الأثر إذا صدر الاعتبار من شخص خاص كالملك أو المصرف المركزي مثلاً؛ وألا ترى أن زيداً لو اعتبر هنداً زوجته، دون أن يعتبر ذلك الشرع والعرف لما كانت زوجته، والحاصل: أن مدار الأثر لدى العقلاء هو اعتبارهم لا اعتبار الشخص الخاص القائم بنفسه، فإنشاؤه للبيع واعتباره تحقق المبادلة دون اعتبارهم لها، أي لتحقق المبادلة حينئذٍ (كما لو ارتأى أن البيع يتحقق بالطلاق أو بالنوم أو ببيع ما لا يملك أو ببيع السمك في الماء مع كونه غير مقدور على تسليمه وتسلّمه بالمرة) لا قيمة له أبداً ولا تترتب عليه الآثار إذ الآثار إنما تترتب على الاعتبارات العقلائية أو على من بيده الاعتبار ولا يرون آحاد الناس ممن بيدهم اعتبار العقود والإيقاعات. ومنه يظهر وضوح مباينة الإنشاء القائم بالمنشِأ للاعتبار العقلائي (المبادلة) القائم بأنفس العقلاء.
فهذا أولاً، وثانياً: سلّمنا ان الاعتبار قائم بالمنشِأ، لكنه غير الإنشاء، ويدل عليه انفكاكه عنه، ألا ترى انه قد يعتبر في نفسه نقل ماله إلى زيد وزوجية بنت عمه (الخلية، أو المزوجة من غيره) له، لكنه لا ينشؤه بالصيغة؟ فالإنشاء غير المنشَأ وجوداً وإلا لما أمكن انفكاكه عنه، بل وربما أمكن القول بالعكس إذ قد ينشِأ من غير أن يتحقق اعتباره هو، كما لو انشأ متمرناً على الإنشاء[6] أو معلّماً أو ممتحناً. فتأمل
وبعبارة أخرى: القول بأن مبادلة مال بمال توجد بوجود الإنشاء فهما موجود واحد، ليس بصحيح إذ الباء سببية وليست ظرفية أو للمصاحبة.
بعبارة ثالثة: ذلك من الخلط بين الانتزاعي القائم بمنشأ الانتزاع، كزوجية الأربعة القائمة بها فإن وجودها وجودها، وبين الإنشاء والمنشأ، فإن المنشَأ ليس منتزعاً من الإنشاء ليكون وجوده بوجوده أي عين وجوده، بل هو اعتبار مترتب عليه، فالفرق بينهما هو الفرق بين الاعتباري والانتزاعي. فتدبر.
النائيني: الموجِد للملكية هو الإرادة المتعلقة بإيجادها إنشاءً
وفي أجود التقريرات: (قال المحقق النائيني (قدس سره): (أنّ نسبة صيغ العقود إلى المعاملات ليست نسبة الأسباب إلى مسبباتها حتى يكونا موجودين خارجيين يترتب أحدهما على الآخر ترتباً قهرياً و الإرادة تكون متعلقة بالمسبب بتبع تعلقها بالسبب حيث ان اختياريته باختياريته كما هو الحال في جميع الأفعال التوليدية، بل نسبتها إليها نسبة الآلة إلى ذيها، والإرادة متعلقة بنفس المعاملة ابتداء كما في سائر الإنشاءات (بداهة) ان قول بعت أو اضرب ليس بنفسه موجِداً للملكية أو الطلب في الخارج نظير الإلقاء الموجد للإحراق (بل) الموجِد هو الإرادة المتعلقة بإيجاده إنشاءً (فإذا) لم يكن من قبيل الأسباب و المسببات (فليس) هناك موجودان خارجيان حتى لا يكون إمضاء أحدهما إمضاء للآخر بل الموجود واحد (غاية الأمر) انه باختلاف الآلة ينقسم إلى أقسام عديدة (فالبيع) المنشأ باللفظ العربي (قسم) و بغير العربي (قسم آخر) فإذا كان المتكلم في مقام البيان و لم يقيده بنوع دون نوع فيستكشف منه عمومه لجميع الأنواع و الأصناف كما في سائر المطلقات طبق النعل بالنعل)[7].
الجواب: الموجِد الإرادة المتعلقة بإيجادها بالإنشاء
أقول: إضافة إلى ما سبق يرد عليه: ان ما ذكره (قدس سره) هنا عليه، لا له، بل زاد الإشكال عليه قوة إذ انه بصدد نفي تحقق وجودين، فأثبت ثلاثة وجودات! والوجودات الثلاثة هي (الإرادة، الإنشاء، المعاملة) بعبارة أخرى: ان تعبيره (بل الموجِد هو الإرادة المتعلقة بإيجاده إنشاءً) هو منشأ الخلط، والصحيح هو أن يقول: (بل الموجِد هو الإرادة المتعلقة بإيجاده بواسطة الإنشاء) أو (بإيجاده بالإنشاء) إذ الإيجاد يتمّ عبر الإنشاء وبواسطته، فحيث انه (قدس سره) حذف الباء أو كلمة بواسطة وجعل الإنشاء حالاً إذ قال (بإيجاده إنشاءً) أوهم ذلك الوحدة!
بوجه آخر قوله: (بداهة ان قول بعت أو اضرب ليس بنفسه موجداً للملكية أو الطلب في الخارج) صحيح، لكنذ عكسه صحيح أيضاً فان الإرادة ليست بنفسها موجِدة للملكية أو الطلب في الخارج، بل الموجِد هو مجموعهما (الإرادة فالإنشاء).
والحاصل: انه يدلّ عدم وجود الملكية والطلب، بوجود الإرادة وحدها، وعدم وجود الملكية والطلب بوجود الإنشاء وحده، على انهما (الإرادة والإنشاء) أمران مقومان لتحقق الملكية والطلب والمبادلة التي هي الأمر الثالث، الاعتباري القائم بأنفس العقلاء، الـمُنشأ بـ(بعت) و(اضرب)!
* * *
- قرّر الفرق بين السبب والمسبّب والآلة وذيها، على حسب ما عناه المحقق النائيني، وأجب عنه بما ذكرناه لكن بعباراتك، أو بجواب آخر.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الصادق (عليه السلام): ((ثَلَاثَةٌ دَعْوَتُهُمْ مُسْتَجَابَةٌ: الْحَاجُّ فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونَهُ[8]، وَالْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونَهُ، وَالْمَرِيضُ فَلَا تَغِيظُوهُ وَلَا تُضْجِرُوهُ)) (الكافي: ج2 ص509).
-------------------------------------
([2]) السيد أبو القاسم الخوئي، مصباح الأصول، مكتبة الداوري ـ قم، ج1 ص166.
([5]) الملا هادي السبزواري، منظومة ملا هادي سبزواري، ج2 ص467.
([6]) مع القصد، أي متمرناً عليهما جميعاً.
([8]) « تخلفونه» أي تقومون مقامه في غيبته، من الخلافة.
قال الإمام الصادق (عليه السلام): ((ثَلَاثَةٌ دَعْوَتُهُمْ مُسْتَجَابَةٌ: الْحَاجُّ فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونَهُ[8]، وَالْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونَهُ، وَالْمَرِيضُ فَلَا تَغِيظُوهُ وَلَا تُضْجِرُوهُ)) (الكافي: ج2 ص509).