بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(656)
إشكال اليزدي على الشيخ
وقد أورد المحقق اليزدي (قدس سره) على دعوى الشيخ (قدس سره) عدم اعتبار العجز عن التفصّي في مفهوم الإكراه مستنداً إلى رواية ابن سنان، بقوله: (70 – قوله (قدس سره): (وربما يستظهر من بعض الأخبار عدم اعتبار العجز عن التفصّي بوجهٍ آخر غير التورية أيضاً في صدق الإكراه، مثل رواية ابن سنان عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: ((لَا يَمِينَ فِي غَضَبٍ، وَلَا فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ، وَلَا فِي جَبْرٍ، وَلَا فِي إِكْرَاهٍ، قَالَ قُلْتُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ! فَمَا فَرْقٌ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ وَالْجَبْرِ؟ قَالَ: الْجَبْرُ مِنَ السُّلْطَانِ، وَيَكُونُ الْإِكْرَاهُ مِنَ الزَّوْجَةِ وَالْأُمِّ وَالْأَبِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ))([1]))([2]).
أقول: لا يخفى أنّ الظاهر من الرّواية المذكورة تحقق الإكراه بدون التوعيد بالضّرر أيضاً لأنّ([3]) التفصّي بغير التورية أيضاً غير لازم، فلا دخل لها بمسألة إمكان التفصّي وعدمه بل مقتضاه سعة دائرة الإكراه من حيث صدقها بمجرّد ميل النفس إلى مخالفة الأمر وإن لم يكن هناك إيعاد بالضّرر وهذا واضح جداً)([4]).
الرواية تدل على عدم مقومية الايعاد بالضرر
وبعبارة أخرى: ان الرواية أجنبية عن الدلالة على ذلك بل إنما تدل على عدم مقوّمية أمر آخر وهو ايعاد الضرر، للإكراه، وانه غير متحقق في الأب والأم والزوجة، ومع عدم تقدم الإكراه به وعدم تحققه لا يبقى مجال لطرح إمكان التفصّي وعدمه؛ لأنه من السالبة بانتفاء الموضوع.
وبعبارة ثالثة: أركان الإكراه ومقومات تحققه ثلاثة بل أربعة وهي حسبما ذكره الشيخ: (ثمّ إنّ حقيقة الإكراه لغةً وعرفاً: حمل الغير على ما يكرهه، ويعتبر في وقوع الفعل عن ذلك الحمل: اقترانه بوعيدٍ منه، مظنونِ الترتّب على ترك ذلك الفعل، مضرٍّ بحال الفاعل أو متعلّقه نفساً أو عِرضاً أو مالاً)([5]) فهذه ثلاثة أركان والركن الرابع هو المختلف فيه وهو إمكان التفصّي وعدمه قال: (ثمّ إنّه هل يعتبر في موضوع الإكراه أو حكمه عدم إمكان التفصّي عن الضرر المتوعّد به بما لا يوجب ضرراً آخر كما حكي عن جماعة أم لا؟)([6]) ثم قال: (لكنّ الإنصاف: أنّ وقوع الفعل عن الإكراه لا يتحقّق إلّا مع العجز عن التفصّي بغير التورية؛ لأنّه يعتبر فيه أن يكون الداعي عليه هو خوف ترتّب الضرر المتوعّد به على الترك، ومع القدرة على التفصّي لا يكون الضرر مترتّباً على ترك المكره عليه، بل على تركه وترك التفصّي معاً...)([7]) وبذلك يظهر ان هذا الرابع مضمّن في الثاني، ثم قال: (ثمّ إنّ ما ذكرنا من اعتبار العجز عن التفصّي إنّما هو في الإكراه المسوِّغ للمحرمات)([8]).
وأما المحقق اليزدي فانه ارتأى انّ رواية ابن سنان تفيد عدم مقومية الركن الأول، للإكراه وتوسعة معناه في الزوجة وشبهها إلى ما لم يكن فيه وعيد بالضرر، ومع عدم مقوميته لا معنى للكلام عن الركن الثاني وعدم شرطيته ولا للكلام عن إمكان التفصّي (المضمّن فيه) وعدمه.
وبعبارة أخرى: بالمعنى الاسم مصدري يوافق السّيد والشيخَ، إذ مع التوسعة ونفي الركن الأول لا يبقى مجال لمقومية الركن الثالث فالمرء في سَعةٍ من جهته، لا بالمعنى المصدري فانه لا موضوع له.
مناقشة إشكال السيد اليزدي
ولكنْ قد يورد على السيد (قدس سره) أن ما ذكره غير ظاهر من الرواية فان التوعيد بالضرر وإن لم تصرح به الأم أو الزوجة، لكن قرينة الحال دالة عليه، فإن الإكراه يكون من الزوجة مثلاً مع علمه، بقرائن الحال وما سبقه معها من الأحوال، انّه لو لم يطعها لهجرته أو آذته بفعل أو مقال.
والحاصل: ان الايعاد بالضرر لا يشترط في صدقه اللفظ بل تكفي دلالة حالة الشخص عليه، أو فقل: الايعاد بالضرر تارة يكون بقرينة مقالية وأخرى بقرينة حالية.
وبوجه آخر: يكفي في اشتراط الركن الأول، استعمال الإمام (عليه السلام) مفردة الإكراه إذ يقول: (( وَيَكُونُ الْإِكْرَاهُ مِنَ الزَّوْجَةِ وَالْأُمِّ وَالْأَبِ)) فإن الألفاظ مرائي المعاني، ومع تعبيره (عليه السلام) بـ ((وَيَكُونُ الْإِكْرَاهُ مِنَ الزَّوْجَةِ)) وإطلاقه (عليه السلام) عنوان الإكراه عليه يفهم منه انها اوعدت زوجها بنحوٍ ما أي اقترن أمرها له بوعيد منها له (بقول أو فعل أو سياق) فإذا تمّ ذلك كان لاستنباط الشيخ من الرواية عدم شرطية العجز عن التفصّي مجال، وإن لم نقبله منه إذ سبق انّ الإكراه من الزوجة كغيرها يشترط فيه العجز عن التفصّي وإلا لما كان إكراهاً، وانّ سبب مقابلة الإمام (عليه السلام) لإكراه الزوجة بجبر السلطان ليس عدم اعتباره احد الأركان الثلاثة في إكراهها للزوج (وتوسعة معنى الإكراه فيها) بل ما سبق فراجع([9]).
إشكال النائيني على الشيخ
وأما المحقق النائيني (قدس سره) فقد أشكل على توسعة الشيخ (قدس سره) واستناده إلى رواية ابن سنان لإلغاء مقوّمية العجز عن التفصي للإكراه، في الإكراه بقوله: (كما أن رواية ابن سنان عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: ((لَا يَمِينَ فِي غَضَبٍ، وَلَا فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ، وَلَا فِي جَبْرٍ، وَلَا فِي إِكْرَاهٍ، قَالَ قُلْتُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ! فَمَا فَرْقٌ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ وَالْجَبْرِ؟ قَالَ: الْجَبْرُ مِنَ السُّلْطَانِ، وَيَكُونُ الْإِكْرَاهُ مِنَ الزَّوْجَةِ وَالْأُمِّ وَالْأَبِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ))([10]) الدالّة على دخول إكراه الزّوجة والأبوين في عنوان الإكراه، لا بد أن تحمل على خصوص الإكراه في اليمين؛ لأنّها حيث تكون مرجوحةً فلا أثر للإكراه عليها ولو كان من قبل الأبوين والزّوجة، وعلى هذا فالاستدلال بها للمقام غير مستقيم؛ لأنّ البيع ليس مرجوحاً، فإذا لم يخف البائع من تركه وصدر منه فهو مستقلّ في التصرّف)([11]).
الرواية عن اليمين لا عن المعاملات
أقول: وإيضاح مقصوده وبرهنته ببيان آخر([12]): ان رواية ابن سنان موضوعها اليمين وانها لا تنعقد مع الإكراه والجبر أي في حالة الجبر عليها، وأين ذاك من الإكراه في المعاملات؟
بعبارة أخرى: كلام الشيخ (قدس سره) عن الإكراه على البيع أو الإجارة أو الهبة أو الصلح أو المزارعة.. إلخ وان الإكراه فيها يرفع أثر المعاملة حتى مع إمكان التفصّي وانّ العجز عنه ليس ركناً للإكراه في المعاملات، فكيف يستدل على ذلك برواية ابن سنان مع ان موضوعها اليمين وهي خاصة به؟ بعبارة أخرى: ذلك تنقيح مناط ظني لا وجه له بالمرة.
فلاحظ الرواية مرة أخرى إذ يقول (عليه السلام): ((لَا يَمِينَ فِي غَضَبٍ، وَلَا فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ، وَلَا فِي جَبْرٍ، وَلَا فِي إِكْرَاهٍ)) فاليمين لا تنعقد على المحرم كقطيعة الرحم ولا تنعقد في حالة الجبر والإكراه ولم يقل (عليه السلام) (لا يمينَ في قطيعة رحم، ولا معاملةَ في جبر ولا في إكراه).
نعم، يمكن التعميم استناداً إلى عموم كلامه (عليه السلام) في جواب السائل ((قُلْتُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ! فَمَا فَرْقٌ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ وَالْجَبْرِ؟ قَالَ: الْجَبْرُ مِنَ السُّلْطَانِ، وَيَكُونُ الْإِكْرَاهُ مِنَ الزَّوْجَةِ وَالْأُمِّ وَالْأَبِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ)) فلو لاحظنا هذا الجواب وحده لكان ظاهراً في العموم لكل معاملة أي (ويكون الإكراه على أية معاملة بالمعنى الأعم، ومنها اليمين، من الزوجة) لكن سؤال السائل كان معتمداً على كلام الإمام (عليه السلام) وكلام الإمام (عليه السلام) كان في خصوص اليمين فالجواب لا بد أن يكون في خصوصه، أي (ويكون الإكره، على اليمين، من الزوجة).
والحاصل: ان سياق الكلام شاهد قوي على الاختصاص باليمين وانها ليست كبرى كلية شاملة لكل المعاملات.
سلّمنا، لكن صدر الرواية ((لَا يَمِينَ...)) من محتمل القرينية المتصل ومعه لا ينعقد للجملة اللاحقة ((الْجَبْرُ مِنَ السُّلْطَانِ، وَيَكُونُ الْإِكْرَاهُ مِنَ الزَّوْجَةِ وَالْأُمِّ وَالْأَبِ)) إطلاق؛ إذ لا يحرز مع سبق ما سبق انه (عليه السلام) في مقام البيان من هذه الجهة ولا يحرز عدم القرينة على الخلاف كما يكون هناك قدر متيقن هو (اليمين). فتأمل
فهذا ما نوجّه به كلام المحقق النائيني، وأما ما وجّه به هو (قدس سره) كلامه واستدل به على أن الرواية خاصة باليمين فهو كونها مرجوحة وعدم كون البيع مرجوحاً، فلا يصح قياسه عليها، قال: (لا بد أن تحمل على خصوص الإكراه في اليمين؛ لأنّها حيث تكون مرجوحةً فلا أثر للإكراه عليها ولو كان من قبل الأبوين والزّوجة، وعلى هذا فالاستدلال بها للمقام غير مستقيم؛ لأنّ البيع ليس مرجوحاً، فإذا لم يخف البائع من تركه وصدر منه فهو مستقلّ في التصرّف) لكن هذا الوجه غير تام فانه من الخلط بين المتعلِّق والمتعلَّق وسيأتي بيانه فانتظر.
* * *
- اعد صياغة إشكال المحقق اليزدي بعباراتك.
- اعد صياغة إشكال المحقق النائيني بألفاظك.
- بيّن الفرق بين توجيه النائيني لاختصاص الرواية باليمين وتوجيهنا له دفاعاً عنه.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الباقر (عليه السلام): ((ثَلَاثٌ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِأَحَدٍ فِيهِنَّ رُخْصَةً: أَدَاءُ الْأَمَانَةِ إِلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ بَرَّيْنِ كَانَا أَوْ فَاجِرَيْنِ)) (الكافي: ج2 ص162).
---------------------------------
([1]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج7 ص442.
([2]) كتاب المكاسب: 3/313.
([3]) الظاهر أن الصحيح: لا أنّ (وليس: لأنّ) وإن صح هذا الأخير بوجهٍ.
([4]) السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، حاشية كتاب المكاسب، مؤسسة طيبة لإحياء التراث ـ قم: ج2 ص55.
([5]) الشيخ مرتضى الانصاري، كتاب المكاسب، الناشر: تراث الشيخ الأعظم، ج3 ص311.
([6]) المصدر: 311-312.
([7]) المصدر: 314.
([8]) المصدر: 317.
([9]) الدرس السابق (655) ص3 عنوان (المناقشة في وجه التوسعة).
([10]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج7 ص442.
([11]) الشيخ موسى النجفي الخوانساري، تقرير بحث الميرزا النائيني، منية الطالب في شرح المكاسب، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة: ج1 ص399.
([12]) مغاير لبيانه والذي سيأتي لاحقاً.