بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(657)
جواب النائيني: اليمين مرجوحة لذا تبطل بتعلق الإكراه بها
وقد أجاب المحقق النائيني عن تفصيل الشيخ (قدس سره) بين الإكراه على المعاملات والإكراه على مخالفة الأحكام بقوله: (كما أن رواية ابن سنان عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: ((لَا يَمِينَ فِي غَضَبٍ، وَلَا فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ، وَلَا فِي جَبْرٍ، وَلَا فِي إِكْرَاهٍ، قَالَ قُلْتُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ! فَمَا فَرْقٌ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ وَالْجَبْرِ؟ قَالَ: الْجَبْرُ مِنَ السُّلْطَانِ، وَيَكُونُ الْإِكْرَاهُ مِنَ الزَّوْجَةِ وَالْأُمِّ وَالْأَبِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ))([1]) الدالّة على دخول إكراه الزّوجة والأبوين في عنوان الإكراه، لا بد أن تحمل على خصوص الإكراه في اليمين؛ لأنّها حيث تكون مرجوحةً فلا أثر للإكراه عليها ولو كان من قبل الأبوين والزّوجة، وعلى هذا فالاستدلال بها للمقام غير مستقيم؛ لأنّ البيع ليس مرجوحاً، فإذا لم يخف البائع من تركه وصدر منه فهو مستقلّ في التصرّف)([2]).
المناقشات
وقد سبق ما هو الأولى في الجواب على كلام الشيخ، وأما جوابه هذا فالظاهر انه ليس بتام لوجوه:
1- إنّ وجهَ لابدّية حمل الرواية على خصوص الإكراه في اليمين لا الإكراه على البيع والمزارعة وسائر المعاملات، هو كون موضوعها خاصاً باليمين، والتعدية تنقيح مناط ظني.
ليس وجه بطلانها مرجوحيتها بل مرجوحية متعلّقها
2- إنّ الوجه الذي ذكره لحمل الرواية على الإكراه في اليمين وهو: (لأنّها حيث تكون مرجوحةً فلا أثر للإكراه عليها ولو كان من قبل الأبوين والزّوجة) من الخلط بين المتعلِّق والمتعلَّق؛ فإن وجه عدم انعقاد اليمين كون متعلَّقها مرجوحاً، لا كونها هي مرجوحة وإلا للزم عدم انعقاد اليمين مطلقاً، بعبارة أخرى: اليمين مرجوحة لقوله تعالى {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ} (سورة البقرة: الآية 224) وأما انعقادها فمنوط بكون متعلقها راجحاً أو متساوي الطرفين فإن كان مرجوحاً لم تنعقد، لا انها لكونها مرجوحة لا تنعقد.
بعبارة أخرى: ليس وجه عدم الأثر للإكراه عليها كونها مرجوحة (وكون الإكراه على البيع ذا أثر، لعدم كونه مرجوحاً) وذلك لأن الإكراه على المرجوح كالإكراه على الراجح وعلى المتساوي تماماً، أي أن متعلق الإكراه مهما كان فانه لا أثر له مادام مكرهاً عليه فلو أكرهه على معاملة مستحبة، كالزواج، أو مكروهة كبيع الصرف والأكفان والطعام والرقيق والحياكة والحجامة وشبهها([3])، أو مباحة كبيع ما عدا المكروهات، فان هذه المعاملة باطلة، وإنما اليمين هي التي لو كان متعلقها مرجوحاً فانها لا تنعقد سواءً أكان مكرهاً عليها أم لا.
وعليه: فالنسبة هي من وجه فلا يصح تعليل أحدهما بالآخر.
بوجه ثالث ههنا ثلاثة أمور هي الإكراه على اليمين على أمر مرجوح، واليمين لا تنعقد لا لكونها مرجوحة قد وقعت متعلقاً للإكراه (إذ لا ينعقد شيء إن وقع متعلقاً للإكراه سواء أكان راجحاً أم مرجوحاً) بل لكون متعلقها مرجوحاً وإن لم يكن، ثَمّتَ، إكراهٌ عليها، فقد جرى الخلط بين كون اليمين مرجوحة وبين كون متعلقها مرجوحاً، وحيث توهم، حسب التقريرات، انّ وجه عدم الأثر على الإكراه على اليمين كونها مرجوحة قال بالأثر على الإكراه على البيع لأنه ليس بمرجوح (فدل ذلك على انه توهم أن الملاك في البطلان كون نفس اليمين مرجوحة، لا متعلقها).
بعبارة رابعة: لا بد أن يكون متعلَّق اليمين مرجوحاً لتبطل، لا ان تكون هي أمراً مرجوحاً متعلَّقاً للإكراه بما هي أمر مرجوح؛ فإن الإكراه على اليمين لا يجعلها مرجوحة في ذاتها إذا الإكراه لا يقلب ذاتيات الأشياء المكره عليها، بل فلتكن مرجوحة في ذاتها إذ إنما المهم متعلَّقها.
بوجه خامس: الصحيح أن يقال: ان متعلَّق اليمين إذا كان مرجوحاً فانها لا تنعقد، فلا أثر لليمين حينئذٍ (لكونها باطلة حينئذٍ) وهذا أجنبي عن الرواية وعن عنوان الإكراه الوارد فيها وعن التوسعة المدعاة في مفهومه.
ويظهر وجه ما ذكرناه أكثر بملاحظة الآيات والروايات وكلام الفقهاء عن اليمين، قال في الجواهر: (( الأيمان الصادقة كلها مكروهة ) لقول الله تعالى {وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ} وقول الصادق (عليه السلام) في خبر أبي أيوب الخزاز([4]): «لا تحلفوا بالله صادقين ولا كاذبين، فإنه يقول عز وجل: {وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ}».
وفي حسن ابن سنان([5]) «اجتمع الحواريون إلى عيسى فقالوا له: يا معلم الخير أرشدنا، فقال لهم: إن موسى نبي الله أمركم أن لا تحلفوا بالله كاذبين، وأنا آمركم ولا صادقين» ولسدير «من حلف بالله كاذباً فقد كفر، ومن حلف بالله صادقا أثم، إن الله عز وجل يقول {وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ}».
وخبر علي بن مهزيار قال: «كتب رجل إلى أبي جعفر (عليه السلام) يحكي له شيئاً، فكتب: والله ما كان ذلك وإني لأكره أن أقول: «والله» على حال من الأحوال، ولكنه غمني أن يقال ما لم يكن»)([6]) فلاحظ قوله (عليه السلام): (( وإني لأكره أن أقول: والله على حال من الأحوال)) فهي مرجوحة في كل الأحوال سواء أتعلق بها إكراه أم كان طيب النفس بها، وانما أقسم (عليه السلام) على أمر راجح وهو دفع التهمة أو الكذب ودفع الغمّ من تصديق الطرف للباطل فالمتعلَّق إذاً ههنا راجح والمسبَّب (وهو رفع الغم) أيضاً راجح.
والحاصل: ان يمينه (عليه السلام) انعقدت رغم مرجوحيتها بطبعها، وسبب انعقادها كون متعلَّقها راجحاً وهو إبطال الكذب والباطل وكون المسبّب عنها وهو دفع الغم راجحاً أيضاً.
وسراية الرجحان من المتعلِّق إلى المتعلَّق؛ نظراً لأن الحيثية تعليلية لا تقييدية، غير مجدٍ في تصحيح ربط مرجوحية اليمين وبطلانها بالإكراه، فتدبر.
التنقيح: إكراه الأم لا يمكن التفصّي عنه وضرره شديد
كما أشكل في التنقيح على الشيخ بـ(وأمّا ما ورد في رواية ابن سنان عن الصادق (عليه السلام): "لا يمين في قطيعة رحم ولا في جبر ولا في إكراه، قلت: أصلحك الله، وما الفرق بين الجبر والاكراه؟ قال: الجبر من السلطان ويكون الإكراه من الزوجة والاُمّ والأب وليس ذلك بشيء" فلا يستفاد منه عدم اعتبار عدم التمكّن من التفصّي في صدق الإكراه فانّ الإكراه من الأب والاُمّ والزوجة لا يمكن التفصّي عنه ويترتّب على مخالفتهم اختلال اُمور معائش الإنسان وأيّ ضرر أعظم منه)([7]).
الجواب: قرينة المقابلة تدفع إرادة ذلك
فانه وإن صح في الجملة صحيح لكنه لا يصح بالجملة، بل نقول: ظاهر قرينة المقابلة في الرواية بين جبر السلطان وإكراه الزوجة أو الأم أو الأب، ان جبر السلطان ضرره شديد، وليس كذلك الأم والأب والزوجة؛ وإلا لسمّاه جبراً أيضاً، بل هو ضرر خفيف أو حرج من المخالفة، فقرينة المقابلة تدفع احتمال إرادته (عليه السلام) ما ذكره التنقيح من (انّ الإكراه من الأب والاُمّ والزوجة لا يمكن التفصّي عنه ويترتّب على مخالفتهم اختلال اُمور معائش الإنسان وأيّ ضرر أعظم منه)، هذا إضافة إلى أن الإكراه من الزوجة والأب والأم كثيراً ما يمكن التفصّي عنه بالاستعطاف والاسترحام، أو بالوعد والتسويف، كما ورد الترخيص بالكذب معها في بعض الروايات فتأمل، فلا يصح إطلاق كلامه.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام علي بن الحسين (عليه السلام): ((إِنَّ الدُّنْيَا قَدِ ارْتَحَلَتْ مُدْبِرَةً وَإِنَّ الْآخِرَةَ قَدِ ارْتَحَلَتْ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا)) (الكافي: ج2 ص131).
-----------------------------------
([1]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج7 ص442.
([3]) إذا اتخذها حِرفة، أو مطلقاً في بعضها. فتأمل
([4]) الوسائل الباب ـ ١ ـ من كتاب الايمان الحديث ٥.
([5]) الوسائل الباب ـ ١ ـ من كتاب الايمان الحديث ٢.
([6]) الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، جواهر الكلام، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت: ج35 ص340-341.
قال الإمام علي بن الحسين (عليه السلام): ((إِنَّ الدُّنْيَا قَدِ ارْتَحَلَتْ مُدْبِرَةً وَإِنَّ الْآخِرَةَ قَدِ ارْتَحَلَتْ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا)) (الكافي: ج2 ص131).