316- مزيد تحقيق عن رواية ( فان النمّام شاهد زور ) والاستدلال بوجوه ثلاثة وتحقيق معنى الزور
الثلاثاء 10 جمادي الآخر 1436هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
النميمة
(19)
سبق الاستدلال بقوله ( عليه السلام ) ((فَإِنَّ النَّمَّامَ شَاهِدُ زُورٍ وَشَرِيكُ إِبْلِيسَ فِي الْإِغْرَاءِ بَيْنَ النَّاسِ)) على حرمة النميمة بقول مطلق، بما سبق بيانه من دلالتها على كون الحكم – الحرمان من الجنة – دائراً مدار أصل النميمة دون تكررها فالمصدر المجرد من (النمّام) هو ملاك الحرمة ومدارها لا الهيئة وصيغة المبالغة.
الإشكال بان الزور هو الكذب فلا إطلاق للرواية
ولكن قد يورد على الاستدلال بها على حرمة النميمة بقول مطلق([1]) بان الزور يراد به الكذب فتدل على حرمة النميمة بالكذب بان ينمّ كاذباً فيما نقله دون النميمة بالصدق بان ينقل إلى الغير ما رآه وسمعه من الآخر كما رآه أو سمعه فلا تفيد تحريم النميمة بقول مطلق.
الجواب: الزور الميل والعدول فهو أعم مطلقا
والجواب: إضافة إلى اختصاص هذا الإشكال بهذه الرواية التي وردت فيها كلمة (الزور) دون سائر الروايات التي كان موضوعُها أو متعلَّقُها النميمة فانها أعم من النقل الكاذب والصادق، ان الزور أعم من الكذب، واما تفسيره به أو بالصنم أو بالشرك أو الباطل أو الغناء أو بعض أعياد أهل الذمة كعيد الشعانين وعيد المهرجان، فليس إلا تفسيراً بالمصداق.
توضيحه: ان المفسرين اختلفوا في تفسير قوله تعالى: (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) وكذا قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) فذهب كل إلى بعض ما نقلناه من المعاني في هذه الآية أو تلك، لكن الحق انها مصاديق وان الزور موضوع للجامع وهو الميل والعدول وهو الساري في تلك المعاني بأكملها أي انه الكلي وهي الجزئيات([2]).
ويرشد إلى ذلك ما ذكره بعض أئمة اللغة إضافة إلى التدبر في كل واحد واحد من تلك المفردات إذ انها ناطقة بوجود ذلك الجامع فيها وانها قد أطلق عليها الزور بلحاظ ذلك الجامع.
قال في مجمع البحرين ((زور) قوله تعالى: (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) الزُّور: الكذب والباطل والتهمة. وروي أنه يدخل في الزُّور الغناء وسائر الأقوال الملهية لأن صدق القول من أعظم الحرمات([3]). قوله: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) قيل يعني الشرك([4])، وقيل أعياد اليهود والنصارى. قوله: (تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ) أي تمايل عنه، ولذا قيل للكذب زُور لأنه يميل عن الحق، ويقال تَزَاوَرَ عنه تَزَاوُراً: عدل عنه وانحرف، وقرئ تَزَّاوَرُ وهو مدغم تَتَزَاوَرُ)
وقال: (والزَّوْرُ: وسط الصدر أو ما ارتفع إلى الكتفين أو ملتقى عظام الصدر حيث اجتمعت ـ قاله في القاموس. والزَّوْرَاءُ بالفتح والمد: بغداد)([5])
وقال: (وازْوَرَّ عنه ازْوِيرَاراً : عدل عنه وانحرف. والتَّزْوِيرُ : تزيين الكذب. وزَوَّرْتُ الشيءَ : حسنته وقومته)([6])
وقال في معجم مقاييس اللغة (زور) الزاء والواو والراء أصل واحد يدل على الميل والعدول، من ذلك الزور الكذب لأنه مائل عن طريقة الحق ويقال زوّر فلان الشيء تزويرا حتى يقولون زوّر الشيء في نفسه: هيّأه لأنه يعدل به عن طريقة تكون أقرب إلى قبول السامع، فأما قولهم للصنم زور فهو القياس الصحيح قال جاءوا بزوريهم وجئنا بالأصم
والزَّور الميل يقال أزورَّ عن كذا أي مال عنه، ومن الباب الزائر لأنه إذ زارك فقد عدل عن غيرك ثم يحمل على هذا فيقال لرئيس القوم وصاحب أمرهم الزُّوَير)([7])
فظهر بذلك صدق (شاهد الزور) على النمّام سواء أنقل فعل أو قول الغير إلى عدوه أو صديقه أو مطلق الآخر، صادقاً كان فيما نقله عنه أم كاذباً، والوجه ما ذكرناه من ان النمّام أزورّ أي مال وعدل عن طريق الهدى والرشاد إلى طريق الضلال والفساد فان الأصل في الإنسان ان يكون مصلحاً بين الناس إذ الناس صنفان ((إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْق...))([8]) لا ان يكون مفسداً، والنمام مفسد فقد مال وانحرف وعدل عن مقتضى الإنسانية ومقتضى العقل والشرع إلى ما يريد الشيطان قال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) و(وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا)([9]) و(قَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)([10])
الاستدلال على حرمة النميمة مطلقا باستقلال العقل بقبحها
ثم انه يمكن ان يستدل على حرمة النميمة بقول مطلق وعلى اعتبار هذه الرواية – إضافة إلى ما سبق من حجية مراسيل الثقات وشهادة مضمونها بما احتف بها([11]) على صدقها – بدعوى ان قبح شهادة الزور والشركة مع إبليس في الإغراء بين الناس هما من المستقلات العقلية، فيكون – لو تمّ هذا – مضمونها شاهداً على صدقها بل لو تم لاستغنينا عن الحاجة إلى إثبات اعتبار الرواية فان الرواية على هذا تكون منبهة إلى مستقل عقلي ولا تتوقف حجية المنبه على ثبوت سندٍ أو غيره، بل ان قيمته بانه منبه ومرشد إلى حكم عقلي أو شبهه([12])، والمقام من هذا القبيل إذ العقل يستقل بان النميمة بين اثنين سواء بنقل كلام صادق أم كاذب بقصد الإيقاع بينهما أو مع العلم به وان لم يقصده قبيح مطلقاً، وبضميمة قاعدة الملازمة – على المشهور – يتم المقصود من القول بالحرمة، واما على المنصور فلا يستلزم القبحُ العقلي الحرمةَ الشرعية، نعم الظاهر استقلال العقل بحرمة النميمة في الجملة وذلك فيما ادى إلى الفساد والإفساد لكنه اخص من المدعى([13]).
وعلى أي فان ما استقل به العقل يصلح للاستدلال به على المدعى في المقام وهو عدم منوطية حرمة النميمة بتكررها لاستقلاله بحرمتها ولو للمرة الواحدة فيما ادى إلى الفساد والإفساد أو كان كذبا أو إيذاءً. فتأمل([14])
2- قوله ( عليه السلام ) (تكلفني ان أكون نماماً)!!
(الْحُسَيْنُ بْنُ سَعِيدٍ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى مُوسَى أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِكَ يَنُمُّ عَلَيْكَ فَاحْذَرْهُ فَقَالَ يَا رَبِّ لَا أَعْرِفُهُ فَأَخْبِرْنِي بِهِ حَتَّى أَعْرِفَهُ فَقَالَ يَا مُوسَى عِبْتُ عَلَيْهِ النَّمِيمَةَ وَ تُكَلِّفُنِي أَنْ أَكُونَ نَمَّاماً! فَقَالَ يَا رَبِّ وَ كَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ يَا مُوسَى فَرِّقْ أَصْحَابَكَ عَشَرَةً عَشَرَةً ثُمَّ أَقْرِعْ بَيْنَهُمْ فَإِنَّ السَّهْمَ يَقَعُ عَلَى الْعَشَرَةِ الَّتِي هُوَ فِيهِمْ ثُمَّ تُفَرِّقُهُمْ وَ تُقْرِعُ بَيْنَهُمْ فَإِنَّ السَّهْمَ يَقَعُ عَلَيْهِ قَالَ فَلَمَّا رَأَى الرَّجُلُ أَنَّ السِّهَامَ تُقْرَعُ قَامَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا صَاحِبُكَ لَا وَ اللَّهِ لَا أَعُودُ أَبَداً)([15])
وسيأتي وجه الاستدلال بها على ان المراد من النمام هو المجرد من المبالغة.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
============================
الثلاثاء 10 جمادي الآخر 1436هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |