182- تعريفان آخران للكذب ــ تعريف الشيخ للكذب ( عدم مطابقة المراد ــ لاظاهر الكلام ــ للواقع ) ومناقشته
الاحد 9 ربيع الثاني 1435هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
لا زال الكلام حول التورية وانها هل هي كذب موضوعا او لا ؟ وذلك لتأسيس الاصل فيها من حيث الحرمة وعدمها كما سبق، وذكرنا ان ذلك متوقف على تحقيق معنى (الكذب):
الآراء في حقيقه الصدق و الكذب([1]):
الراي الاول: هو ان الصدق عباره عن مطابقة القول، أي: ظاهر القول([2])، للواقع ونفس الامر، وهذا هو راي المشهور.
الراي الثاني: هو ان الصدق والكذب عباره عن مطابقة – او عدم مطابقة - القول للاعتقاد أي لاعتقاد المخبر، وهذا ما ذهب اليه النظام([3]) مستدلاً بآية ( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) وحيث اشتهر استدلاله وجوابه فلا داعي للإطالة.
الرأي الثالث: وهو ان الصدق عباره عن مطابقه القول للاعتقاد والواقع معا، فان طابقهما فصدق وان خالفهما فكذب وان لم يطابق احدهما فقط فهو أمر آخر، وهذا القول قد ذهب اليه الجاحظ، واستدل على ذلك بقوله تعالى: (أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ).
بيان الاستدلال:
ان المعهود هو انهما (الصدق والكذب - ضدان لا ثالث لهما كما هو الحال في الظلمة والنور، ولكن الجاحظ ذهب الى انهما ضدان لهما ثالث كالسواد والبياض حيث انهما يرتفعان في الحمر ه او الخضرة او غيرها، ووجه استدلاله بالآية هو: ان الكفار او المشركين قالوا: ان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد افترى على الله الكذب وهذا اتهام اول، واما قسيمه والقسم الثاني فهو ان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) به (جنة) - وحاشاه - وهذا هو الطرف الاخر للقضية فحيث ذكروا (به جنة) كقسيم للكذب دلّ على انه ليس بكذب واما ان الجنة قسيم للصدق فلأن الكفار كانوا يعتقدون بان النبي الاكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليس بصادق
والخلاصة: ان جعل به جنة قسيماً للكذب من جهة مع اعتقادهم بعدم صدقة من جهة أخرى دليل على ان جعل الاقسام ثلاثة، وهي الصدق والكذب وكلام من به جنة.
جواب الاشكال:
أولاً([4]): ان القسيم قد تكون نسبته مع الآخر (من وجه)
اما الجواب الاول فهو: انه لا يشترط في القسيم ان يكون مباينا، بل يمكن ان تكون نسبته مع القسيم الاخر هي العموم والخصوص من وجه، ومعه فان كونه قسيما لا يدل على مضادته ومباينته للقسيم الاخر كي يكون قسماً ثالثاً بل- في صغرى الاستدلال- نقول انه يمكن ان يكون المتكلم به جنه وكاذبا – وحاشاه- فيجتمعان.
اذن: القسيم اما ان يكون مباينا او يكون من وجه .
الأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها ما لو باع احدهم بيته ثم سأله الاخر: ابعت بيتك ام انك اضطررت للبيع؟ وهذا السؤال هو سؤال صحيح, أي: هل انك بعت البيت باختيارك ام اضطررت الى ذلك ؟ والنسبة بينما، اي: بين البيع والاضطرار هي من وجه([5])
ونمثل لذلك ايضا بمن غاب في سفر عن صديقه، فاحتمل انه قد تزوج او انه حصل على عمل ما، فعند رجوعه من سفره يقال له: أ تزوجت ام انشغلت بعمل ما ؟ وهذا السؤال كذلك هو سؤال صحيح؛ والقضية ليست بمانعة للجمع، فيمكن ان يكون الرجل قد تزوج و قد حصل على عمل ما ايضا، فيمكن اجتماع القسيمين
اذن: جعل شيء قسيما لآخر لا يدل على تطاردهما, بل الامر كذلك لو ثبت من الخارج ان القضية منفصله حقيقية, واما لو كانت مانعة خلو فان ذلك لا يدل على التطارد والتضاد المطلق .
و المتحصل: ان الجاحظ لا يستطيع ان يستدل بالاية على ان الجنة هي مباين للكذب بدليل جعلها قسيماً له([6]).
ثانياً: مرادهم ان دعوة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اما عن قصد ووعي او لا([7]).
وفي الجواب الثاني نقول:
ان الكفار يريدون ان يقولوا: اما ان النبي ص قد قال ما قال في دعوته عن قصد، وهذا هو مرادهم من الشطر الاول من القضية أي: افترى على الله كذبا فهو كاذب-وحاشاه- ,او انه ص قال ما قال لا عن قصد؛ بل لأنه لا وعي له لوجود اختلال في ادراكه وانه مجنون – وحاشاه - ، فيكون كلامهم هو حول المنشأ وان كلام النبي غير المطابق للواقع هو اما بسبب قصده الكذب او بسبب جنونه- وحاشاه-
وعليه: فان الكلام حول المنشأ لا حول صدق الكذب على قول المجنون وعدمه والمناط فيها .
رأي الشيخ في الصدق والكذب: المدار على الإرادة الجدية لا ظهور اللفظ.
و اما راي الشيخ الانصاري فهو: ان المدار و الملاك في الصدق والكذب ليس ما ذكر في الآراء الثلاثة التي جامعها ان المدار على ظهور اللفظ والقول، بل المدار في نظره هو على الإرادة الجدية للمتكلم([8])، وبناء عليه فان التورية لا تكون كذبا إذ ان إراديته الجدية مطابقة للواقع ومنه يظهر: انه توجد ثمره كبيره ومهمه وجوهريه لمن تبنى هذا الرأي، و دليل الشيخ على ما ذهب اليه هو ان معنى الخبر هو ذلك أي هو ان يخبر الانسان عن مراده الجدي فان طابق المراد الجدي الواقع فصدق وإلا فكذب.
وعبارته:
" ووجه ذلك – اي التورية ليست كذبا- ان الخبر باعتبار معناه([9]) وهو المستعمل فيه كلامه ليس مخالفا للواقع، وانما فهم المخاطب من كلامه امرا مخالفا للواقع لم يقصده المتكلم من اللفظ " .
ثم بعد ذلك ينقل الشيخ كلام بعض الافاضل - وهو نفس راي المشهور - ويناقشه فيقول:
"وذكر بعض الافاضل ان المعتبر في اتصاف الخبر بالصدق والكذب هو ما يفهم من ظاهر الكلام لا ما هو المراد منه، فلو قال رأيت حمارا واراد منه البليد من دون نصب القرينة فهو متصف بالكذب وان لم يكن المراد مخالفا للواقع "انتهى.
ثم أخذ الشيخ في مناقشة قول هذا الفاضل عبر تركيزه على كلمة (الاتصاف) وانه ما هو المراد من كلمه الاتصاف؟ فهل المراد هو الاتصاف في الواقع او الاتصاف عند الواصف والسامع؟ وعلى كلا التقديرين فالكلام ليس بتام أ- فلو كان المراد الاتصاف ثبوتا وفي الواقع فنقول ان هذا الاتصاف مرهون بالإرادة فان هذا هو معنى الخبر؛ اذ كما بينا ان الخبر هو ان تخبر عن شيء ومداره هو الإرادة الجدية([10])
وعباره الشيخ هي: " فان اراد اتصاف الخبر في الواقع([11]) فقد تقدم انه دائر مدار موافقه مراد المخبر ومخالفته للواقع لأنه معنى الخبر والمقصود منه دون ظاهره الذي لم يقصد".
مناقشه كلام الشيخ: لابد من التفريق بين الخبر والاخبار
والجواب على ما ذكره الشيخ هو كلمة واحدة، وهي التأمل في كلمة ( الخبر ) حيث بينا سابقا ان منشأ الاشتباه هو الخلط بين الخبر والاخبار – اي الحاكي والمحكي - وما ذكره واعتمد عليه الشيخ هو معنى الاخبار لا الخبر؛ اذ الاخبار –الحاكي- متضمَّن فيه القصد فان ظاهر باب الأفعال – ككل الأفعال - القصدية,
واما الخبر –الحكاية- والمصدر فلا يتضمن القصد، و يؤكد ذلك انه لو كتب طفل غير واع على الحائط: (زيد كاتب) فهذا خبر دون شك لكنه ليس بإخبار([12]) ويؤكده مقابلته مع الإنشاء إذ تعرف الأشياء بأضدادها. وللكلام تتمه
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
([1]) وهذ البحث في حد ذاته سيال وذو تطبيقات مهمه
([2]) ظهوراً أولياً أو ثانياً كما سيأتي.
([3]) وهذا القول هو قول معروف والنقض عليه في محله
([4]) وهذا بحث سيال في حد ذاته
([5]) فقد يبيع مضطراً وقد يبيع مختاراً، وقد يكون المضطر بائعاً وقد يكون مشترياً.
([6]) وهذا الجواب هو مما خطر في البال وهو تحقيق للمقام، ويتضح ذلك اكثر في القضايا الشخصية فتدبر
([7]) وهذا الوجه والجواب قد اشار له البعض
([8]) وهذا راي مبتكر للشيخ ومن جاء بعده اخذ عنه في ذلك
([9]) اي المراد منه.
([10]) وسيأتي الشق الثاني غداً بإذن الله تعالى.
([11]) أي ثبوتاً وفي نفس الأمر.
([12]) وكذا لو فرض ان الكمبيوتر لخطأ فني بدأ يكتب جملاً خبرية فانه خبر وليس إخباراً أو لو فرض ان الرياح رسمت على الرمال جملةً (زيد قائم).
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |