بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كان الكلام في وجوه القول بجواز الاحتياط كقسيم للاجتهاد والتقليد.
3- دليل الامتثال القطعي
الدليل الثالث: وهو برهان الامتثال القطعي فإن سالك سبيل الاحتياط ممتثل قطعاً لأنه قد أتى بالمأمور به على كل التقادير، وبتعبير آخر:
هو ممتثل اجمالاً قطعاً وإن لم يكن ممتثلاً بنحو العلم التفصيلي فإنه قاطع بأنه أتى بالمأمور به وإن 1- شك في أن المأمور به كان واجباً أو مندوباً، أي شك في وجهه، كما في جلسة الاستراحة أو الدعاء عند رؤية الهلال فإنه لو أتى بجلسة الاستراحة ودعا عند رؤية الهلال فإنه قاطع بأنه أتى بمطلوب المولى وامتثل طلبه، لكنه لا يعلم أنه كان على نحو الوجوب أو الاستحباب، 2- أو شك أن هذا واجب أو ذاك، كما لو صلى قصراً وتماماً أو ظهراً وجمعة.
المحقق القزويني له عبارة في تعليقته على المعالم: أنه (الاحتياط) طريق موصل عملا للواقع يتضمن ادراك الواقع في العمل فهو ادراك عملي قطعي وان لم يوجب ادراكه في العلم قبل العمل أي العلم بوجه المكلف به أو العلم بشخص المكلف به في الدوران بين المتباينين فكان أولى بالاجزاء بالقياس إلى الطريقين - بتصرف وإضافة. (عذراً لقد بحثت ولم أجده)
وهذه كلمة أكّد عليها عدد من الفقهاء في مبحث أنه هل الأفضل أن يكون الإنسان مجتهداً أو مقلداً أم يكون محتاطاً؟ فإن مجموعة من الفقهاء ذكروا أولوية الاحتياط، لأن الموضوعية للواقع فإنه الحامل للغرض، والاحتياط موصل له قطعاً، أما الاجتهاد والتقليد فهما موصلان ظنيان فالاحتياط أولى فلذا سلوك سبيل الاحتياط هو الأولى لأنه قطعاً مجزي، ولنا نقاش في ذلك سيأتي بإذن الله تعالى.
ثم استطرد المحقق القزويني: إذا كان الاحتياط موجباً للبراءة قطعاً وموصلاً للواقع قطعاً ولم يكن الاجتهاد والتقليد موصلين إلا ظناً، فكيف أوجبهما الشارع بنحو الوجوب التخييري إلى جوار الاحتياط، أي كيف يشرع ما ليس بطريق قطعي، كقسيم؟
وأجاب اجمالاً بالمصلحة السلوكية، وفي تصورنا أن الجواب ليس بتام على اطلاقه، وإن كان صحيحاً في الجملة وسيأتي، هذا هو البرهان الثالث على جواز ورجحان الاحتياط.
4- الأخبار
الوجه الرابع: هو الأخبار الدالة على جواز أو وجوب الاحتياط، ونكتفي برواية واحدة صحيحة مع إجابات كلية تعطينا ضابطة كلية وتنفي دلالة روايات الاحتياط على الوجوب في الشبهات البدوية التحريمية كالوجوبية، فتبقى دلالتها على الاستحباب والجواز وهو المقصود، والروايات الدالة على الاحتياط كثيرة بين صحاح وبين موثقات ومراسيل معتضدة بالشهرة، ولكن الخلاف أن الإخباري يدعي دلالتها على الوجوب في الشبهات التحريمية أما الأصولي فيقول بدلالة بعضها على الاستحباب والرجحان المطلق ودلالة بعضها على التوقف حتى يفحص ويصل للدليل.
صحيحة عبد الرحمن: عليكم بالاحتياط حتى تسألوا
والرواية هي صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج: (سألت أبا الحسن عن رجلين أصابا صيداً وهما محرمان، الجزاء بينهما؟ أو على كل واحد منهما جزاء؟) أي يسأل هل تجري قاعدة العدل والانصاف هنا، فإنها تجري في الأمور المالية أما في غيرها فهل تجري أم لا؟
الإمام عليه السلام أجاب وقال: (لا)، والجواب نفي للشق الأول، ثم إنه صلوات الله عليه يثبت الشق الثاني (بل عليهما أن يفدي كل منهما الصيد. قلت: إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه. فقال: إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا فتعلموا).
والاستدلال بالرواية يتوقف على بيان مقدمتين لتوضيح كلام الإمام عليه السلام:
أ- الاحتمالات الأربع في (إذا أصبتم بمثل هذا)
المقدمة الأولى: تحديد المقصود من قوله عليه السلام (إذا أصبتم بمثل هذا) فما المقصود بهذه الكلمة؟ الاحتمالات هنا أربع (تتمحور حول إرادة الجنس أو النوع أو الصنف أو الأخص من الصنف):
الاحتمال الأول: إن المراد من (بمثل هذا) جنس المسؤول عنه أي الشبهات الحكمية مطلقاً الوجوبية والتحريمية، أي في أية شبهة حكمية، وهذا سيشكل رداً للاخباري، لأنه خصص الاحتياط بالشبهة التحريمية.
الاحتمال الثاني: أن يكون المراد بالعبارة خصوص الشبهة الوجوبية فيكون هذا أيضاً رداً على الاخباري لأن مورد الرواية هو وجوب كفارة واحدة أم كفارتين، إذن الشبهة وجوبية.فالرواية على الاحتمال الأول والثاني لابد للاخباري أن يجيب عنها، كالأصولي لأنها على خلاف مبناه.الاحتمال الثالث: المراد خصوص الشبهات الوجوبية في الأمور المالية (أي هذا الصنف الخاص).الاحتمال الرابع: المراد خصوص باب الكفارات فقط.أقول: لعل ظاهر الرواية هو الاحتمال الأول (إرادة الجنس) بقرينة مناسبة الحكم والموضوع فالرواية تقول (إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا) فالمدار هو الجهل والعلم، والجهل والعلم لا فرق فيه بين مطلق الأمور المالية أو الكفارات أو مطلق الشبهات الوجوبية أو التحريمية، والحاصل: أنه بقرينة مناسبة الحكم والموضوع ومعنى كلمة تدروا نكتشف أن (فعليكم بالاحتياط) يراد به مطلقاً في كل الشبهات، فتأمل.
فإذا بنينا على أن الرواية عامة لجميع الشبهات فتكون دليلاً على وجوب الاحتياط بقول مطلق وإذا قلنا باختصاصها بالشبهات الوجوبية فلا تكون دليلاً على وجوبه بقول مطلق، وحيث دل الدليل على عدم وجوب الاحتياط في الشبهات بعد الفحص واليأس عن العثور على دليل، تبقى دلالة هذه الصحيحة ونظائرها على استحباب الاحتياط عندئذٍ على فرض القول بشمولها لما بعد الفحص واليأس لتعليقها الاحتياط بـ(حتى تسألوا فتعلموا) فإذا سأل وعلم فلا احتياط، وإذا سأل ولم يعلم فالاحتياط باقٍ، فتأمل.
ب- الاحتمالات الثلاث في (عليكم بالاحتياط)
المقدمة الثانية: عندما يقول الإمام عليه السلام (عليكم بالاحتياط) فما هو مقصوده من الاحتياط؟ الاحتمالات ثلاث:
الاحتمال الأول: الاحتياط بالعمل فلو كانت الشبهة تحريمية فعليك التجنب فلو ارتضعَتْ معه 12 رضعة وشك أن المحرِّم هو 12 أو 15 رضعة فعليه أن لا يتزوج بها حتى يسأل، ولو كانت الشبهة وجوبية فعليك بالجمع كما لو دار الأمر بين المتباينين وهل يصلي الظهر أم الجمعة، أو الاتيان بالشيء فيما لو دار الأمر بين الوجوب والاستحباب، كما لو دار أمر الدعاء عند رؤية الهلال بين الوجوب أو الاستحباب فيحتاط بالدعاء حتى يسأل.
الاحتمال الثاني: واختاره البعض ونفى الاحتمال الأول، إن المراد الاحتياط بالفتوى لا بالعمل أي لا تفت فوراً بل احتط حتى تسأل فتعلم فتفتي على طبق ذلك أو تبني على طبقه.
ولكن المستظهر إرادة الأعم من الاثنين وهذا احتمال ثالث أي إذا أصبتم بمثل هذا فعليكم بالاحتياط، عملاً وفتوى ، ففي الفتوى لا يجوز أن تسند لله ما لم تعلم أنه منه، وفي العمل أيضاً عليك أن تحتاط، فالواجب أن تجمع بين الظهر والجمعة مثلاً، حتى حين إمكان السؤال والعلم بالواجب منهما، نظراً لفوات وقتهما لو لم تفعل حتى تسأل، وكذا الدعاء عند رؤية الهلال، فإذا تم ذلك تكون الرواية دليلاً على الوجوب مطلقاً، لكننا صرنا إلى استحباب الاحتياط رغم أننا نرى تمامية دلالتها على الأمرين، لأن لنا منها المخرج من سائر الروايات فإننا لو خلينا والرواية لأفادت الوجوب لكن هناك روايات متقدمة عليها وعلى كل روايات الاحتياط ويتحصّل منها أن روايات الاحتياط مطلقاً خاصة بأطراف العلم الاجمالي، وأنها تحمل على الندب في غيرها، وللكلام تفصيل وصلة تأتي إن شاء الله تعالى وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.