بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كان الكلام في وجوه القول بجواز الاحتياط كقسيم للاجتهاد والتقليد، ووصل الكلام إلى الاستدلال بصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج وقلنا إن الاستدلال بها يتوقف على مقدمتين ونضيف مقدمة ثالثة وهي:
هل المراد من (مثل هذا) الأقل والأكثر؟
المراد من (مثل هذا) يحتمل أن يكون صورة دوران الأمر بين الأقل والأكثر لأن مورد الرواية هو ذلك فهما شخصان أصابا صيداً وكل واحد منهما يدور أمره بين الأقل والأكثر فهو لا يعلم أن عليه جزاء أو نصف جزاء وعلى أي فإن الاستدلال بهذه الروية على حسن وجواز الاحتياط بقول مطلق بعد رد كلام الاخباريين الذين اعتبروها دالة على الوجوب، يتوقف على رد تخصيص الرواية بالأقل والأكثر كما هو المورد إذ لو خصصناها بالأقل والأكثر ستكون دالة على جواز أو وجوب الاحتياط في هذه الصورة فقط.
فما الدليل على التعميم؟ تقدم أن الدليل هو مناسبة الحكم والموضوع، ونضيف أيضاً إلغاء الخصوصية حيث لا نجد خصوصية لحسن وجواز الاحتياط في خصوص صورة الدوران بين الأقل والأكثر بل الملاك موجود حتى في صورة الدوران بين المتباينين حتى في الشبهات البدوية.
وجوه الجمع بين روايات الاحتياط والبراءة
الكلام في وجوه الجمع بين هاتين الطائفتين (الروايات الدالة على البراءة والروايات الدالة على الاحتياط) ووجوه الجمع هي النافعة في المقام وتفيد أن الاحتياط جائز وحسن وليس بواجب، توضيح ذلك:
إن الروايات مبدئياً تبدو متعارضة فبعض روايات البراءة نحو (إن الناس في سعةٍ(سعةِ) ما لم يعلموا) أي ما دام لا يعلمون بحسب القراءة الثانية (سعةِ) فهذه الرواية كيف تجتمع مع رواية (أخوك دينك فاحتط لدينك) لأن الاحتياط لا سعة فيه أو رواية (إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط) ؟
وكذلك الرواية الأخرى في البراءة (رفع ما لا يعلمون) وحديث الحجب (ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم) أي مرفوع عنهم، لأن هذا المورد كان محجوباً عنهم، والحاصل: إن رواية (إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا) تصرح بـ(فعليكم بالاحتياط) لكن رواية (ما حجب علمه عنكم فهو موضوع عنكم) صريحة في أنه موضوع عنهم؟
إذن (ما حجب) ينافي ظاهراً احتط لدينك وكذلك الروايات الأخرى من الطائفتين وذكرنا منها ثلاثاً في البراءة واثنين في الاحتياط، والسؤال: كيف نجمع بينهما؟ فإنه إذا لم نصل إلى وجه جمع عرفي واستقر التعارض فلابد من القول بالتساقط أو بالتخيير بحسب اختلاف المباني.
هنا نذكر وجوهاً للجمع:الوجه الأول: روايات البراءة نصوص وروايات الاحتياط ظواهر
الوجه الأول وهو أفضل الوجوه وأسدها وأوضحها: أن يقال إنه لا تعارض مستقر بين الطائفتين، بل التعارض بدوي يرتفع بالتأمل والتدبر، إذ طائفة روايات البراءة نص وطائفة روايات الاحتياط ومنها هذه الرواية، ظاهرة في الوجوب، فيحمل الظاهر على النص أي نرفع اليد عن الظاهر بمعونة النص، وبعبارة أخرى النص يبقى على حاله ويتصرف في الظاهر ببركة النص وذلك كالعام والخاص، ففي المقام (أخوك دينك فاحتط لدينك) ظاهر في الوجوب وأما (رفع ما لا يعلمون) فنص أي نص في رفع الحرمة أو الوجوب أي أنه نص في الجواز فنقول: رفع ما لا يعمون بلا كلام، ولكن الأحوط استحباباً الاحتياط، فنحمل هذا الاحتياط على الندب أي مطلق الرجحان، وهذا جمع عرفي كما لا يخفى، وكذلك الحال في (ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم) أي ليس بواجب عليهم وهذا نص ولكن مع ذلك ورد (احتط) فيفيد أن الاحتياط حسن ولا مانعة جمع بين الكلامين، بل لو وصلنا بين الكلامين لرأيت أن بعضها يكمل بعض (ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ولكن احتط) فإن المعنى: الأفضل أن تحتاط.
وبتعبير آخر: لو أخذنا بظاهر روايات الاحتياط (وظاهرها الوجوب) للزم طرح كافة روايات البراءة، لكن لو أخذنا بروايات البراءة لما لزم طرح روايات الاحتياط، إذ تحمل على الاستحباب، ولا شك في بناء العقلاء أنه لو صدر كلامان من المولى يمكن أن يجمع بينهما لكان هو الأولى من أن نطرح أحدهما.
وهذا الوجه ينفعنا في المقام وعليه المدار في البحث وقد أشار إليه عدد من الأعلام منهم الآخوند في الكفاية، وإنما ينفعنا هذا الوجه في المقام لأنا كنا نبحث عن أدلة نقلية على جواز الاحتياط بقول مطلق، فعلى هذا الجمع فإن هذه الروايات ومنها تلك الرواية مع المقدمات الثلاث، تكون دليلاً على جواز وحسن الاحتياط بقول مطلق بعد رفع اليد عن ظاهرها في الوجوب.
الوجه الثاني: روايات الاحتياط إرشادية الوجه الثاني للجمع (وهذا الوجه ينفع على مسلك المشهور): وهو أن نحمل روايات الاحتياط على الإرشاد، كأمر الاطاعة (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) والتوبة (توبوا إلى الله) وكذلك (اعدلوا هو أقرب للتقوى) فهي على المشهور أوامر إرشادية - ولنا في ذلك مناقشة ذكرناها في كتاب الأوامر المولوية والإرشادية - والمقام من هذا القبيل فإن الأمر بالاحتياط إرشادي لأن الاحتياط مما استقل به العقل لأنه من الحسن عقلاً أن يتجنب الإنسان كلا الطرفين في الشبهة التحريمية ويفعل كلا الطرفين في الشبهة الوجوبية وأن يأتي بالأكثر عند الدوران بين الأقل والأكثر وهكذا.
إذن الاحتياط مما يستقل به العقل، والضابط العام الذي ذهب إليه البعض في الأوامر الإرشادية والمولوية هو أن كل ما استقل به العقل فالأمر فيه إرشاد لحكم العقل (ولنا نقاش فيه) فالعقل مثلاً حيث حكم بحسن العدل ووجوبه أو أدركه (على المسلكين) فقوله تعالى (اعدلوا) مرشد لحكم العقل وليس سبحانه وتعالى ههنا معملاً مقام مولويته للزوم اللغوية أو تحصيل الحاصل أو غيرها من المحاذير التي ذكروها.
وفي المقام (إذا أصبتم بمثل هذا ولم تدروا فعليكم بالاحتياط) يقال بناء على ذلك إن الإمام عليه السلام يشير ويرشد إلى حكم العقل بالاحتياط حتى يصل للإمام عليه السلام أو من يسأله، فإذا كان كلامه في هذه الرواية وفي سائر روايات الاحتياط، إرشادياً فإنه يرشد إلى ما استقل به العقل إن وجوباً فوجوباً أو ندباً فندباً، والعقل يقول: في أطراف العلم الاجمالي الاحتياط واجب، وفي أطراف الشبهات البدوية الاحتياط مستحب، وتلك الروايات تكون مرشدة للعقل وتابعة له في كلا شقيه وحكميه، فيتم الجمع بين روايات الاحتياط وروايات البراءة، وعلى هذا فروايات البراءة لا تتدخل في نطاق العلم الاجمالي فيكون مجالها الشبهات البدوية والشبهات البدوية تجري فيها البراءة.
وللكلام صلة تأتي إن شاء الله تعالى وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.