54- وجوه الجمع الثلاثة بين روايات البراءة وروايات الاحتياط (بما ينفع في المقام )
السبت 13 صفر 1433هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كان الكلام في وجوه القول بجواز الاحتياط كقسيم للاجتهاد والتقليد ووصل الكلام إلى الاستدلال بالأدلة النقلية ثم إلى وجوه الجمع بين الطائفتين من الروايات وتقدم الوجه الأول والثاني.
الوجه الثالث: روايات البراءة أخص مطلقاً
الوجه الثالث من وجوه الجمع: وهو أن يقال إن روايات البراءة أخص من روايات الاحتياط، فتتقدم عليها نظراً إلى أن روايات الاحتياط تشمل صوراً ثلاثاً:
الأولى: الاحتياط في الشبهة البدوية قبل الفحص.
الثانية: الاحتياط في الشبهة البدوية بعد الفحص.
الثالثة: الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي.
أما روايات البراءة فخاصة بصورة الشبهات البدوية بعد الفحص ، ولو ذهبنا إلى هذا الوجه في الجمع فلا يتم الاستدلال بها على المقام ، إذ سوف تدل على وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية وفي الشبهات البدوية قبل الفحص وما عدا ذلك فلا وجوب ولا رجحان.
اللهم إلا أن يقال: بأن أدلة البراءة دلت على انتفاء الوجوب أي وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية بعد الفحص فرفعت الوجوب فيبقى الاستحباب فإن (السعة) في قوله عليه السلام (الناس في سعة ما لا يعلمون) تتحقق برفع الوجوب وإن بقي الندب والحسن فنقتصر في رفع اليد على مقدار التعارض لا أكثر ؛ إذ لا تعارض بين أصل رجحان الاحتياط وأدلة البراءة حتى إذا قدمنا أدلة البراءة في البدوية بعد الفحص، يرتفع أصل الرجحان، وذلك لأنه لو ارتفع وجوب الاحتياط في الشبهة البدوية بعد الفحص فأنت في سعة، والمنة موجودة بـ(رفع ما لا يعلمون).
لكن قد يقال: إن هذا الوجه يعاني من مشكلة تمنع من القبول، لأنه يستلزم أن تكون أدلة الاحتياط دالة على الوجوب والاستحباب في وقت واحد، لأن الفرض أن أدلة البراءة أخرجت مواردها عن وجوب الاحتياط فبقي رجحان الاحتياط المدلول عليه بقوله (أخوك دينك فاحتط لدينك) فتكون النتيجة: احتط وجوباً في أطراف العلم الاجمالي وفي الشبهات البدوية قبل الفحص واحتط استحباباً في الشبهات البدوية بعد الفحص، فيلزم دلالة اللفظ الواحد على معنيين متغايرين في وقت واحد، ونحن لا نقول باستحالة ذلك كما ذهب إليه البعض (من أن اللفظ الواحد لا يمكن أن يستعمل في أكثر من معنى واحد على أن يكون كل منهما تمام المراد) أي ننكر دلالة (احتط) على الوجوب في موارده وعلى الاستحباب في موارده، لا للاستحالة بل لأنه خلاف الظهور العرفي المنساق من الكلام، لأنه (بلسان قومه) والعرف لا يفهم من هذا اللفظ الواحد معنيين كالوجوب والندب فتأمل.
نعم لو أن فقيهاً رأى هذا الاستعمال عرفياً، فإن هذا الوجه أيضاً يكون دليلاً على المقام.
تتمة: دعوى اختصاص صحيحة عبد الرحمن بالاحتياط في الفتوى
ولابد من أن نذكر تتمة مهمة قبل أن نعود إلى باقي الأدلة: والتتمة تتعلق بصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج حيث اعتبرناها المنطلق للبحث ثم عممناه لسائر أدلة الاحتياط، إذ قد يقال: إن هذا الكلام كله الذي جرى في وجوه الجمع إنما يتم في الصحيحة بعد تمامية تلك المقدمات الثلاث وأهمها في المقام:
إن تلك الرواية أعم من الاحتياط في الفتوى والاحتياط في العمل فلو تمت دلالة الرواية على العموم يجري الكلام المتقدم، لكن قد يقال كما ذهب إليه البعض: أن هذه الرواية ظاهرة في الاحتياط في الفتوى فقط وعلى ذلك تكون نسبتها إلى أدلة البراءة هي التباين فتكون الرواية أجنبية عن المقام، لكن كيف تكون النسبة هي التباين؟
والجواب: إن موضوع الصحيحة سيكون الفتوى وأما موضوع أدلة البراءة وسيكون العمل أي في مقام العمل ماذا تفعل فالإمام عليه السلام يقول (رفع ما لا يعلمون) إذن ههنا موضوعان مختلفان فلا تعارض لنحتاج لوجوه الجمع، نعم هذا الإشكال خاص -على فرض صحته وقد مضى استظهار التعميم فتأمل- بالصحيحة، أما باقي الروايات فالكلام المتقدم يجري فيها بالكامل وان نسبتها ظاهر ونص أو عام وخاص أم أدلة إرشادية وغيرها، انتهى الكلام في الصحيحة.
5- دليل أوامر الاحتياط الخاصة
وقد يستدل بروايات الاحتياط الواردة في مقامات خاصة على حسن الاحتياط بقول مطلق، بتنقيح المناط وكشف الملاك، ببيان: أن هذه الروايات إنما أمرت بالاحتياط في هذه الموارد لا لخصوصية فيها وإنما للإلفات إلى أصل عقلائي وإلى قاعدة عامة وهي حسن الاحتياط بقول مطلق وقد طبق ذلك في هذه الرواية أم تلك على موردها.
وذلك مثل رواية زرارة عن الإمام الباقر عليه السلام وهي غير مقبولة عمر بن حنظلة: (يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ؟...) ثم يذكر وجوه الترجيح إلى أن يقول: (إذن فخذ ما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط).
فهذه الرواية وإن كان موردها باب التعارض لكن يمكن تعميم هذا الملاك الذي ذكره الإمام عليه السلام بدعوى أن اللسان لسان الإرجاع إلى أمر عقلائي وأمر عقلي وليس اللسان لسان التعبد بالاحتياط، خاصة بقرينة قوله عليه السلام (لدينك) وبملاحظة مادة الحائطة من حوط أي أحيطوا الشيء بما لا يسمح بتسرب العلل اليه.
إذن بقرينة كلمة لدينك وكلمة الحائطة يمكن التعميم فتأمل ويأتي الكلام في باقي الأدلة إن شاء الله تعالى وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين...
السبت 13 صفر 1433هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |