بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين واللعنة على اعدائهم اجمعين ,ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
كان الحديث حول الاحتياط وان الاشكال الذي قد يورد عليه في المعاملات هو: أنه غير متوفر على الانشاء، والمعاملات قوامها بالانشاء، توضيح ذلك في ضمن مقدمات سبقت,و نشير اليها مع النقاش:
المقدمة الاولى : ان المعاملات يعتبر فيها قصد الانشاء وهذه المقدمة لا ريب فيه لأن الانشاء هو الموجد للاثر اي الموجد لنقل الملكية مثلا أو الموجد لحدوث علقة الزوجية وما اشبه فالانشاء هو الموجد للاثر لانه الوجود التنزلي للوجود الخارجي وان شئت فقل هو البديل عن الوجود الخارجي، وكما يعتبر في المؤثر الخارجي القصد ، كذلك يعتبر فيما نزل منزلته القصد ايضا.
توضيح ذلك : الفعل الخارجي المسبب للملكية هو (الحيازة) كأن أصطاد سمكة فهذا سبب الملكية التكويني الخارجي لكنه متوقف على القصد، وكذلك لو سوّر ارضاً مواتاً فانه يملكها لكن مع القصد ،اما لو كان لاعبا او لاهيا او ساهيا او ما شابه فلا يوجد اعتبار عقلائي بكون هذه الحيازة مملكة(1) ,والانشاء اللفظي يقوم مقام الفعل (الحيازة) فلابد فيه من القصد ايضا فعندما يقول بعت او اشتريت فهذا وجود تنزيلي للتملك الخارجي ,وهذه المقدمة الاولى لا شك فيها ولم يناقش فيها احد فلا تحتاج للاطالة.
المقدمة الثانية: ان الانشاء يعتبر فيه الجزم؛ لأن الانشاء ايجاد والايجاد لا يعقل فيه الترديد، فانه اما ايجاد او ليس بايجاد فامر الايجاد دائر بين النقيضين ولا شق ثالث- الذي اسماه البعض الحال كما ذكروه في الكلام و الفلسفة حيث اعتبروه واسطة بين الوجود والعدم، لكن البديهة ترده - فالامر دائر بين ايجاد او لا ايجاد ومع عدم الجزم لا يعقل الايجاد فكيف ينسجم الترديد مع الايجاد الذي هو اما هذا الطرف قطعا او عدمه قطعا.
هذا بيان للدليل على المدعى (ان الانشاء ايضا يعتبر فيه قصد الجزم)، ولكن البعض عبر ببيان اخر وقال:(وكيف يوجد الُمنشيء اعتبارا بلفظ، وهو لا يعلم ان هذا اللفظ صالح لايجاد ذلك الاعتبار)، وظاهر عبارته قريب من تعليلنا ولكن سيأتي ان الفرق كبير, وهذه المقدمة الثانية.
المقدمة الثالثة: وهي ان الاحتياط لا يتحقق فيه قصد الجزم او بتعبير اخر ان الاحتياط لا يتوفر على قصد الجزم فبالاحتياط اذن لاتقع المعاملات -عقوداً كانت ام ايقاعات - فاذا قال: زوجتك موكلتي) ثم قال: انكحتك موكلتي) وهو متردد ان ايهما ذو الاثر، فالنكاح باطل حسب هذا الكلام.
بعض الاعلام توضيحا لهذه المقدمة وتأكيدا لها، استشهد بالتعليق في المعاملات، فكما ان التعليق في المعاملات على شرط لايعلم حصوله،مبطل، كذلك الاحتياط، اي : ان وزان الاحتياط في المعاملات هو وزان التعليق في المعاملات فكما ان التعليق مبطل لها فالاحتياط ايضا مبطل لها، مثلا لو قال بعتك الدار ان كان اليوم هو الجمعة وهو جاهل بكونه جمعة فلا جزم في انشاء البيع، فهو باطل،(علماُ ان صاحب العروة وتبعه جمع يرون: بانه لو كان يعلم بتحقق الشرط فهو صحيح كما لو قال بعتك الدار ان كان اليوم جمعة وهو يعلم انه جمعة)، وهذا الكلام من صاحب العروة على القاعدة؛ لانه لا ترديد في النية لانه يعلم ان اليوم جمعة فهو في الواقع صورة تعليق وشكل تعليق، اما لو كان الواقع تعليقيا كمن لا يعلم ان اليوم جمعة فقال بعتك الدار ان كان اليوم جمعة وهو لا يدري فلا جزم فلا يصح البيع لانه يفتقد للتنجيز المشترط في الصحة.
هنا نورد كلام الشهيد الثاني (رضوان الله عليه) – مع بعض الاضافات-الذي نقله الشيخ الانصاري(رضوان الله عليه) تفريعا على هذا البحث ,فانه يذهب الى : الجزم في البطلان فيما لو زوج او تزوج امرأة يُشك في انها محرّمة عليه، كما لو شك انها اخته في الرضاعة ام لا؟ فهنا الشهيد يقول قطعا ان هذا العقد باطل لانه لا جزم في النية ؛اذ قد تكون اخته فلا ايجاد او ليست اخته فهناك ايجاد وهو متردد فكيف يقع العقد؟ وكذا لو كانت هي المترددة في ذلك فلا تستطيع تزويجه نفسها او التوكيل,بل الوكالة باطلة، وكذلك في كل عقد كان هناك ترديد من احد الطرفين فالعقد باطل.
وكذلك في الايقاعات، فلو طلق امراة يشك بانها زوجة له ام لا؟ (وهذه مسألة ابتلائية في موارد الاحتياط بالطلاق) فهذه المرأة المشكوك كونها زوجة له، لو طلقها كان الطلاق باطلاً برأي الشهيد لعدم الجزم بالنية اذ لا يعلم بكونها زوجة حتى يقع الطلاق او ليست بزوجة حتى لا يقع الطلاق فكيف ينشئ الطلاق.؟
ثم ان للشهيد عبارة اخرى ظاهرها الاستدراك على ما سبق لكن سيظهر خلافه، يقول:(ولو طلق بحضور خنثيين فظهرا رجلين امكن الحكم بالصحة)، فكيف يحكم بالصحة مع كون الظاهرعدم الجزم لان شرط الصحة كونهما رجلين، فانهما وان كانا في مرحلة الثبوت والواقع رجليين، لكن في عالم الاثبات تصورهما خنثيين، فلماذا القول بـ: (امكن الحكم بالصحة)، لكن الظاهر ان حكمه بذلك لأن كونهما رجلين، شرط واقعي، وليس شرطا علمياً، فلا يضر عدم علمه، فالمهم انهما في مرحلة الثبوت كانا رجلين كما قال تعالى: (واشهدوا ذوَي عدل منكم)(2)اي رجلين ذوي عدالة، فتحقق الشرط علم أم لم يعلم، فقوله (امكن الحكم بالصحة) لاجل هذه الجهة, ومثاله الاخر في الشاهدين اذا ظن انهما فاسقان فظهرا عادلين، فهنا امكن الحكم بالصحة ايضا لان العدالة شرط واقعي في الطلاق.
ثم يستدرك الشهيد و يقول:(ويشكلان) اي:المثالان, الطلاق بحضور خنثيين او فاسقين(بالعالم بالحكم)اي:العالم بان الطلاق بحضور خنثيين او فاسقين باطل، هنايشكل القول بالصحة في حال العلم(لعدم قصدهما إلى طلاق صحيح)فالشهيد يرى ان: المشكلة من الجهة الاولى وهي تحقق شرط العدالة او الرجولة، منحلة حيث تبين انهما واقعاً كانا رجلين عادلين، لكن المشكلة انما هي من ناحية عدم الجزم بالنية اذا كان عالماً بالحكم فلا يختلط عليك الامر،اذ ليست المشكلة من ناحية تحقق شرط العدالة او الرجولة لكي تقول: انهما متحققان ثبوتا، بل المشكلة من حيث عدم الجزم بالنية, انتهى كلام الشهيد مع توضيح. واضافة.
الان نقيّم هذه المقدمات الثلاث :
اما المقدمة الاولى : فلا كلام فيها لبداهة ان المعاملات متوقفة على قصد الانشاء.
اما المقدمة الثانية : فهي موطن النقاش، حيث قيل: ان لفظ الانشاء موقوف على الجزم لان الانشاء ايجاد والايجاد لا يعقل فيه الترديد بين الوجود والعدم.
فهنا نتوقف توقفاً دقيقاً ونقول :هنا حدث خلط بين عالم الثبوت وعالم الاثبات وبتعبير اخر انه قد حصل خلط عند المستشكل بين الترديد والتردد والترديد ثبوتي والتردد اثباتي.
فالترديد الثبوتي في التكوينيات محال لان الشيء اما موجود ثبوتا او معدوم، لكن التردد في عالم الاثبات ممكن فلابد ان يفرز بين العالمين
والحاصل: ان المستشكل يقول: ان هذا المُنشيء موجد، والايجاد لا يعقل فيه الترديد.
فنقول: البحث عن الايجاد واللاايجاد، و كون الايجاد لا يعقل فيه الترديد هو امر ثبوتي، لكن المشكلة في عالم الاثبات، وان المنشيء غير جازم، فانا حيث لا اعلم ان هذا هو المحقّق او ذاك هو المحقق للاثر، فهنا يحصل تردد عندي في عالم الاثبات فالقول: بانه حيث لا يعقل الترديد الثبوتي، فالتردد الاثباتي مبطل، لا وجه له.
وبتعبير اخر ابلغ لبيان المقصود الايجاد يتوقف على توفير وتحقيق العلة لا على العلم بعليتها, وآية ذلك الايجاد الخارجي ففي الايجاد الخارجي هل يشترط في عليتي للمعلول علمي بعليتي له؟
الجواب: كلا. مثلا النار تحرق الخشب فلو اشعلت نارا ورميت فيها خشبا فانه يحترق حتى لو لم اكن اعلم انه سوف يحترق، والحاصل: ان العلية الخارجية لا تتوقف على العلم بالعلية بل تنسجم حتى مع التردد ومع الجهل ومع الغفلة ومع السهو بل تنسجم حتى مع القطع بالعدم كما لو قطع بانه لو رمى نفسه في النار فانه لا يحترق (بان تصور نفسه من الاولياء مثلاً او طلى بدنه بمادة تصورها عازلة) لكنه سوف يحترق رغم قطعه بالعدم، اذن العلية الخارجية لا تتوقف على العلم بها، بل تنسجم مع العلم بالعدم, وفي المقام الانشاء علة للمُنشأ علمتُ ام لم اعلم وللحديث صلة. وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين.....
الهوامش ........................................
(1) وظاهر (من حاز ملك) القصد؛ لظهور العناوين في القصدية.
(2) سورة الطلاق 2