بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(48)
تحقيقٌ: الوحيد يرى حجية الظهور لا الظن
تتمة: ولكن قد يقال ان الوحيد البهبهاني (قدس سره) لا يذهب إلى حجية التبيّن الظني، كما نسبه إليه المحشى على تعليقة القزويني مستظهراً ان مراده من قوله (قد يدعى) هو الوحيد إذ قال: (وقد يدّعى: كون جبر السند بالشهرة [مستفاداً] من مفاد منطوق آية النبأ الدالّ على جواز قبول خبر الفاسق بعد التبيّن، بناءً على أنّه أعمّ من التبيّن الظنّي، والنظر في الشهرة فتوىً أو عملاً أو روايةً من حيث استلزامه الظنّ بصدق الخبر الضعيف، تبيّنٌ ظنّي)([1]) وكما هو ظاهر بعض كلمات الوحيد حيث قال: (والبناءُ على أنَّ التبيُّن لا بدَّ أن ينتهي إلى اليقين؛ دون العدالة الّتي هي شرط - إذ يكفي فيها أيُّ ظنٍّ يكون من المجتهد - فتحكُّم، لأنّه تعالى اعتبر في قبول الخبر أحد الشيئين: إمّا العدالة أو التبيُّن، ولم يثبت من الأدلّة، ولا أقوال العلماء أزيدُ من هذا، فالاكتفاء في أحدهما بأيّ ظنّ يكون دون الآخر فيه ما فيه)([2]).
أقول: لكن الظاهر انه لا يقصد مطلق الظن بل خصوص الظن الذي بلغ مرتبة الظهور وذلك جمعاً بين كلماته فلاحظ قوله: (وممّا ذكر ظهر فسادُ ما قيل: من أنَّ الشّرط في حجّيّة المنجبر أن يظهر كون عمل المشهور على نفس ذلك الخبر([3]) لا ما يطابِقُه([4])؛ لأنّ المدار إذا كان على حصول الظنّ بصدق ذلك الخبر من جهة التبيّن، فلا جرم يكون الحجّية دائرة مع تلك المظنّة، ولا شكّ في حصولها من الموافقة لما اُشتَهَرَ بينَ الأصحاب؛ لظهور كونه([5]) حقّاً، و الموافِق للحقِّ حقٌّ)([6]).
فانه كرر في البداية مدارية الظن مرتين (لأنّ المدار إذا كان على حصول الظنّ بصدق ذلك الخبر من جهة التبيّن، فلا جرم يكون الحجّية دائرة مع تلك المظنّة) لكن الظاهر انه إنما يراها في المقام بالغة درجة الظهور فانه صريح قوله بعد ذلك (ولا شكّ في حصولها من الموافقة لما اُشتَهَرَ بينَ الأصحاب؛ لظهور كونه حقّاً، و الموافِق للحقِّ حقٌّ) فالمقياس عنده هو (لظهور كونه حقاً) فكأنه تجوّز بالظن عن الظهور أو أراده منه بتعدد الدال والمدلول. فتأمل ولكلامه وجه آخر سيأتي وهو ان مراده حجية ظن المجتهد خاصة. هذا
وقد سبق ان هناك ست تخريجات للقول بحجية الخبر الضعيف السند المعتضد بالشهرة وقد مضى منها أربعة (كونه مفيداً للظن فيندرج في منطوق آية النبأ، كونه مورثاً للظن بالصدور، كونه تبيّناً عرفاً، كونه تبيّناً عقلائياً).
5- الضعيف المنجبر بالشهرة، علم بالواسطة
وأما التخريج الخامس فهو: (انه علم بالواسطة) وتوضيحه:
إنّ العلم علمان: علم بالمباشرة وعلم بالواسطة، فالعلم المباشر كعلم المجتهد والطبيب والمهندس وسائر أهل الخبرة فيما اجتهدوا فيه، وأما العلم بالواسطة فكعلم المقلد تبعاً لعلم المجتهد فانه عالم بان علاج المرض الكذائي هو كذا وان الحكم في المسألة الكذائية هو كذا لكنه علم بالواسطة أو فقل هو علم إجمالي، وحيث شمل العلم كلا القسمين فانه خارج موضوعاً عن قوله تعالى: (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)([7]) فلا يصح ان يقال للعامي أنت جاهل بالأدلة على الحكم وجداناً ونسبتك الحكم للشارع هي نسبة إليه عن جهل؛ وذلك لأنه عالم بعلم مرجعه ومقلَّده أي انه عالم بالواسطة أو إجمالاً فنسبته الحكم للإمام الصادق (عليه السلام) مثلاً ليس تقولاً بغير علم وافتراءً بل هي نسبة بعلم.
للمجتهد الرجوع لغيره فيما لم يستنبطه
إذا اتضح ذلك فنقول: ان المجتهد، أي ذا الملكة، إذا لم يكن مستنبطاً بالفعل في مسألة ما، أو فيما إذا لم يكن عالماً بالفعل بحجية سند ما (لا ما إذا علم عدم الحجية بل فيما إذا لم يعلم الحجية كما لو كان في السند مجهول بالنسبة له لا ما إذا أحرز القدح فيه وضعفه) فانه جاهل فيها بالفعل عرفاً وحقيقة ودقةً وبالحمل الشائع الصناعي ولذا:
أ- فإن أدلة (رجوع الجاهل إلى العالم) تشمله، ولو كان عالماً فيها بالفعل لما صح رجوعه إلى غيره لأنه يكون حينئذٍ من رجوع العالم إلى العالم (أو إلى الجاهل، بزعمهم، إذ انه إذا كان مستنبطاً للحكم بالفعل كان عالماً وإذا كان عالماً فانه يرى مخالفه جاهلاً، لكنه، على الفرض، جاهل بالفعل) ومجرد توفّره على الملكة وتحقق اجتهاده في ألف مسألة مثلاً، لا يصحّح نسبة العالم إليه في المسألة الواحدة بعد الألف مادام غير مستنبط فيها بالفعل لأن العلم انحلالي بعدد المتعلَّقات فكل مسألة مسألة هو إما فيها عالم أو جاهل.
ب- كما يشمله قوله تعالى: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)([8]) لأنه يصدق عليه انه (لا يعلم) ولا يصدق عليه انه يعلم، بعبارة أخرى: يصح سلب العلم عنه كما لا يصح حمله عليه ويصح حمل الجهل بالفعل عليه.
ج- وكذلك (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) إذ لا تشمله الآية الكريمة فيما إذا اتبع العالم بالمسألة فحاله كحال كل مقلد يتبع مجتهده بل الأمر في المجتهد أحسن وأولى كما سيأتي.
وبذلك ظهر ان الخبر الضعيف السند (مما جهل المجتهد حال بعض رواته، لا ما إذا علم ضعفه) يكفي في حجيته ان يذهب خبير رجالي واحد إلى صحة سنده أو وثاقته أو حسنه، ويصح للمجتهد غير المستنبط بالفعل إتباع غيره لأنه يكون من رجوع الجاهل للعالم حينئذٍ، فكيف([9]) إذا قال به المشهور؟
فهذا ترقٍ عن القول بحجية الخبر الضعيف السند باعتضاده بالشهرة، إلى القول بحجيته باعتضاده برأي أهل خبرة واحد على طبقه.
وعلى أي فانه إذا كان رأي الواحد حجة على المجتهد الجاهل بالسند، فان الشهرة مركبة من عشرات من الآحاد التي هي حجة بمفردها فما بالك بما إذا تعاضدت.
من الشواهد: تمييز المشتركات
ويؤيده ما نجده من اعتماد كثير من الفقهاء في تمييز المشتركات على (مشتركات الكاظمي) مثلاً مع ان اجتهاده ظني، وعلى مبناهم فانه لا حجية لرأي مجتهد على مجتهد آخر، إلا انه حيث لم يجتهد في المشتركات بالفعل، لانشغاله بالفقه والأصول أو بأهم آخر أو للعسر والحرج وصعوبة ذلك عليه أو غير ذلك، فانه يرجع للكاظمي وغيره، مع ان العسر والحرج لا يتكفلان بإنشاء الحكم الوضعي بالحجية، مما يظهر منه انهم في ارتكازهم العقلائي يرون حجية رأي المجتهد على المجتهد الآخر غير المستنبط بالفعل. وللبحث تتمة فأنتظر.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
قال الإمام الصادق (عليه السلام): ((مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَمِلَ بِهِ وَعَلَّمَ لِلَّهِ، دُعِيَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ عَظِيماً، فَقِيلَ: تَعَلَّمَ لِلَّهِ، وَعَمِلَ لِلَّهِ، وَعَلَّمَ لِلَّهِ)) (الكافي: ج1 ص35)
-----------
([1]) السيد علي الموسوي القزويني، تعليقة على معالم الأصول، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ج5 ص410.
([2]) محمد باقر الوحيد البهبهاني، الفوائد الحائرية، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ص489.
([3]) وهي الشهرة العملية أو الاستنادية.
([6]) محمد باقر الوحيد البهبهاني، الفوائد الحائرية، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ص490.
-----------
([1]) السيد علي الموسوي القزويني، تعليقة على معالم الأصول، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ج5 ص410.