بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(515)
2- الإشارة إلى وجه الحِكمة في الحكم
الفائدة الثانية: لتفكيك الإرادتين وعقد الإرادة الاستعمالية واسعة رغم كون الجدية ضيّقة، ثم إفهام المراد الجدي بالاستثناء، الإشارة إلى وجه الحكمة في التشريع، فانه إذا قال مثلاً: أكرم العلماء وقال متصلاً به أو منفصلاً / إلا الشعراء منهم، أو لا تكرم الشعراء من العلماء، أفاد ان وجه الحكمة في تشريع وجوب / استحباب الإكرام هو كونهم علماء، وذلك بنحو المقتضي وحيث كان أوسع من مراده الجدي أوضح ذلك بدالٍّ آخر، عكس ما لو قال مثلاً: أكرم الطوال أو الجالسين على يمينك، وكانوا كلهم علماء غير شعراء، وكان الشعراء كلهم قصاراً أو غير طوال، فان عبارته هذه وإن تطابقت فيها الإرادتان إذ أتى بلفظ يطابق مراده الجدي تماماً، إلا انه بذلك يحرمنا من فائدة بيان وجه الحكمة والمقتضي في حكمه، مع ان حِكمة الحكيم تقتضي بيان وجه الحكمة في أوامره كي تكون أقوى في الباعثية وفي نواهيه كي تكون أقوى في الزاجرية.. وهذا أرجح في باب التزاحم من ذكر عنوان متطابق مع المراد الجدي تماماً من غير ان تكون فيه دلالة على مقتضِي التشريع.
3- البلاغة، والإيجاز
الفائدة الثالثة: إنَّ خير الكلام ما قل ودل، وقد ورد عنهم (عليهم السلام): ((وَأُوتِينَا شَرْعَ الْحِكْمَةِ وَفَصْلَ الْخِطَابِ))([1]) وقال تعالى من قبلُ: (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ)([2]) وكثيراً ما يأتي البليغ بعنوان أوسع من متعلق حكمه ويجعله موضوعاً لحكمه لأنه الأكثر بلاغة وإيجازاً (وجمالاً) من غيره، فلو كان يوجد في القرية مثلاً عشرون صنفاً من أصناف العلماء: كالفقهاء والأطباء والمحامين والمهندسين والفلكيين وعلماء الفيزياء.. الخ وكان مقصوده متعلقاً بإكرامهم جميعاً إلا الفلكيين منهم فرضاً فان الأكثر إيجازا وبلاغة ان يقول (أكرم العلماء إلا الفلكيين) لأن العلماء هو الجامع بين التسعة عشر صنفاً وحيث شمل العلماء الصنف العشرين أيضاً أخرجه بالاستثناء، عكس ما لو قال (أكرم الفقهاء والأطباء والمحامين...) وسمّى كافة الأصناف التسعة عشر دون الصنف (العشرين) وهو واضح.
الاعتراض على الحل الرابع بالمشرّع الجاهل وجوابه
تنبيه: الحل الرابع الذي اخترناه لمشكلة تخالف الإرادتين في المستثنى منه وكون الاستثناء إخراجاً لبعض الافراد عن المراد الجدي دون الاستعمالي، مع علمه حين الاستعمال بان ما جعله موضوعاً لحكمه في ظاهر كلامه (وهو المسمى بالدلالة أو الإرادة الاستعمالية) أعم من مراده الجدي، قد يعترض عليه: بانه غير جارٍ في الجاهل حين التشريع، لأخصيةِ حامل المصلحة أو المفسدة مما جعله موضوعاً ولذا تطابقت إرادتاه جهلاً بواقع الحال ثم إذا كشف بعد ذلك، ككثير من المشرعين في مجالس الأمة وككثير من واضعي اللوائح القانونية في الشركات وغيرها، أنّ بعض الأفراد فقط هو الحامل للمصلحة أو المفسدة فانه سوف يشير إليه بتبصرة واستدراك، والجواب بيّن فإن الجاهل عذره جهله، لو كان قاصراً، في عقد إرادته الجدية على سعة إرادته الاستعمالية، رغم كون عالم الثبوت أخص.
وإنما الكلام في الشارع الأقدس وهو عالم محيط بلا شك وفي مطلق العالم وانه كيف نخرّج تخالف إرادتيه في المستثنى منه ثم نستثنى مع ان ذلك يستلزم الإدخال ثم الإخراج والتناقض أو النسخ أو اللغوية.. إلى آخر ما سبق، والحلّ هو الوجه الثالث الذي اختاره المحقق الاصفهاني أو الرابع الذي اخترناه.
القرائن تسوقنا إلى تشخيص المقتضي من الشرط
تنبيه: وهذا التنبيه مهم جداً في فهم روايات الباب وغيرها، وهو: ان كون شيء (كالمذكور في المستثنى منه، أو المذكور في مقدم الشرطية) مقتضياً أو شرطاً أو كون ضده مانعاً، لا يفهم من مجرد جعله متعلق الحكم أو مقدماً في الشرطية؛ لأنه أعم، وإنما يفهم ذلك من قرائن أخرى داخلية كمناسبات الحكم والموضوع أو خارجية كالمرتكزات العقلائية المسلمة، والمثال البيّن على ذلك ما لو قال إذا زارك العالم / أو العادل فأكرمه، وقال إذا زارك الفاسق فأكرمه، فانه لا ريب يفهم في الجملة الأولى من الارتكازات أو المناسبات ان كونه عالماً مقتضٍ وان زيارته له شرط، أما الجملة الثانية فانه يفهم ولا شك ان زيارته هي المقتضي، وذلك لارتكازية عدم وجود اقتضاء في الفاسق بما هو فاسق لإكرامه، فخذ ذلك بعين الاعتبار في البحوث الآتية وفي التدبر في روايات الباب.
الاصفهاني: المنفي النفوذ من غير نظر للخصوصيات
وأما المحقق الاصفهاني فقد قال: (ويؤيد ما ذكرناه سابقاً([3]) - من أنّ الجواز وعدمه بمعنى واحد من دون اختصاصهما بحيثية الاقتضاء والأهلية؛ ولا بحيثية مخصصة لهما بالجهات المختصة بالفعلية من الشرط والمانع - ما ورد([4]) في العبد أنّه لا يجوز نكاحه ولا طلاقه إلّا بإذن سيده([5])، فإنّه ليس المنفي الصحة التأهلية، لوضوح أنّ العبد ليس بمسلوب العبارة، لصحة عقده بإذن سيده على الفرض، وليس المنفي الصحة الفعلية المساوقة للاستقلال في التصرف، حيث إنّه لا يعقل ربط الاستثناء به، وإلا لكان معنى العبارة أنّه لا يستقل بالتصرف إلا باذن سيده، مع أن إذنه عين عدم استقلاله ووقوف عقده على إذن سيده، فالجواز المنفي والمثبت نفس نفوذ عقده فعلاً من دون نظر إلى تلك الخصوصيات، فلا ينفذ عقده نفوذاً فعلياً خارجياً إلا باذن سيده، فيعلم منه أنّه غير مستقل بالتصرف، وأن عبارته غير مسلوبة الأثر)([6]).
أقول: مما مضى في الدروس الماضية يتضح مقصوده (قدس سره) بأكمله كما يتضح وجه مناقشتنا أيضاً فراجع، ونضيف: ان كون المنفي الصحة التأهلية أو عدمها في هذه الرواية ((الْمَمْلُوكُ)) ورواية ((وَالْغُلَامُ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ...)) وغيرها، إنما يتضح من مناسبات الحكم والموضوع أو المرتكزات العقلائية وهو ما أشار إليه بقوله (لوضوح)؛ فانه ليس في صيغة الاستثناء بنفسه ما يدل على ذلك، (وسيأتي ان مفاد النفي مجمل إثباتاً، ولا يفيد الإطلاق، فأنتظر فانه دقيق مهم).
وقوله: (فالجواز المنفي والمثبت نفس...) هو نفس ما أشرنا إليه في ضمن الخيارات الستة، بان يكون مهملاً بان لا ينظر إلى تلك الخصوصيات رغم علمه بوجودها (قال: من دون نظر...).
المناقشة: لا إهمال في متعلَّق الحكم، كما لا يحل المعضلة
ويرد عليه: ما سبق تفصيلاً من ان الإهمال في موضوع حكم العالم بالتقسيمات، غير معقول، على انه لا يحل المشكلة بالمعنى الاسم مصدري، ومن حيث المآل لأن الأحكام لا محالة ترجع إلى الأفراد المتشخصة بالوجود أو بالعوارض، على المبنيين في أصالة الوجود والماهية، فراجع ما سبق مرة أخرى تجد سلامة ما ذكر عما قد يعلق بالبال من الإشكال الناشئ من عدم تصور ما قلناه على حقيقته ولو في بعض الأحوال.
على انه سيأتي مزيد مما لم يذكر، يوضح أكثر حقيقة الحال ويكشف الستار عن معنى مثل هذه الرواية وفقهها على تفصيل في المقال بما يكمل ما صرنا إليه من تخالف إرادة الجد عن إرادة الاستعمال. وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((اعْقِلُوا الْخَبَرَ إِذَا سَمِعْتُمُوهُ عَقْلَ رِعَايَةٍ لَا عَقْلَ رِوَايَةٍ، فَإِنَّ رُوَاةَ الْعِلْمِ كَثِيرٌ وَرُعَاتَهُ قَلِيل)) (نهج البلاغة: الحكمة: 98).
---------------
([1]) علي بن محمد الخزاز القمي، كفاية الأثر، دار بيدار للنشر ـ قم: ص255.
([4]) وسائل الشيعة باب 45 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ح 1.
([6]) الشيخ محمد حسين الغروي الاصفهاني، حاشية كتاب المكاسب، منشورات أنوار الهدى ـ قم: ج2 ص11-12.
---------------
([1]) علي بن محمد الخزاز القمي، كفاية الأثر، دار بيدار للنشر ـ قم: ص255.