بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(547)
الإستناد إلى دلالة التنبيه، للجمع بين الروايات
مضى (وبعبارة أخرى: إن دلالة التنبيه مما تدل على ذلك أولاً، كما سيأتي)([1]).
ودلالة التنبيه حسب بعض العلماء هي: (أن يفيد اقتران شيء بشيء عِلّيته له) ولكنها حسب المختار: (أن يفيد اقتران شيء بشيء عِلّيته له([2])، أو أصل حدوثه، أو وَجهَهُ، أو مطلباً آخر جديداً، على أن تكون الدلالة مقصودة للمتكلم بحسب المتفاهم عرفاً من اللفظ)([3]) ولا ينحصر الإقتران باقتران لفظٍ بلفظ، بل هو أعم من اقتران لفظ بحالةٍ أو سياق، أو مطلق القرائن الحالية والمقامية.
وعلى أية حال فالصور أربع:
(الصورة الأولى: أن يفيد اقتران شيء بشيء عِلّيته له؛ وذلك مثل:
أـ قوله (عليه السلام): (أعِد الصلاة) بعد السؤال عن (شككت بين الواحدة والاثنتين)([4]) فإنه يفيد علِّية الشك لبطلان الصلاة.
ب ـ ما لو ورد السؤال عن جواز بيع الرطب بالتمر، فقال (صل الله عليه واله): ((أينقص إذا جف؟)). قال السائل: نعم، فقال: لا([5])، فإنه يفيد أن عِلّة المنع هي النقصان إذا جفّ([6]).
ج ـ قوله: (لا يقضي القاضي وهو غضبان)([7])؛ إذ يفيد عرفاً عِلّية الغضب لنهيه عن القضاء.
دـ قوله (تصدّق)([8]) بعد قول السائل: (واقعت أهلي في شهر رمضان) فإنه يفيد عِلّية المواقعة لوجوب دفع الكفارة وثبوتها.
هــ ـ وفي العرف، لو قال: جاء زيد، فقال: ظهر الفساد في البر والبحر، أفاد عِلِّية مجيئه ـ بنظره ـ للفساد.
الصورة الثانية: أن يفيد اقتران شيء بشيء أصل حدوث أمر آخر، كما لو أخبر عنه أنه نظر إلى أجنبية، ثم أخبر عن نظرة أخرى فثالثة... فإن ذلك الإقتران ـ أي اقتران الإخبارات([9])ـ يفيد أنه فاسق، وحينئذٍ فإن كان قاصداً لذلك من كلامه ـ بحيث يفهمه العرف عادة ـ فهو دلالة التنبيه، وإلا فدلالة الإشارة([10]).
الصورة الثالثة: أن يفيد ذلك وجهَهُ؛ وذلك كاقتران الأمر بكونه عقيب الحظر في: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ)([11])، فإنه يفيد الإباحة.
الصورة الرابعة: أن يفيد مطلباً آخر جديداً؛ وله أصناف عديدة يطول بذكرها المقام، ومنها: إفادة ضم حديثين: الإجزاء التخييري أو الوجوب التخييري)([12]).
تطبيق دلالة التنبيه على روايات البلوغ المتعارضة
وفي المقام، فإن ضم قوله (عليه السلام): ((سَأَلْتُهُ عَنِ الْغُلَامِ مَتَى تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ؟ قَالَ: إِذَا أَتَى عَلَيْهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً)) إلى قوله: ((وَالْغُلَامُ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الْيُتْمِ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، أَوْ يَحْتَلِمَ، أَوْ يُشْعِرَ، أَوْ يُنْبِتَ قَبْلَ ذَلِكَ))([13]) مع العلم بكونه (عليه السلام) حكيماً ملتفتاً وأن كلامهم عليهم السلام جميعاً ككلام الرجل الواحد في المجلس الواحد، يفيد حملها على ما لا يناقض به أحدهما الآخر، وأقرب الوجوه أن يحمل (تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ) على تأكد الإستحباب بعد تعذر حمله على المعنى المصطلح وهو الإلزام؛ الذي غاية أمره أنه أجلى المصاديق؛ وذلك للزوم المناقضة حينئذٍ مع (وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الْيُتْمِ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً) وغيره من أدلة عدم وجوب التكليف عليه حتى يبلغ الخامسة عشرة.
فهذا (الإقتران) بين الروايات النافية والمثبتة المسمى بدلالة التنبيه هو الذي اقتضى الجمع بهذا الوجه؛ ألا ترى أن المتكلم الحكيم لو نطق بالكلاميين هذين أحدهما بعد الآخر في مجلس واحد، لما وجدناه مناقضاً نفسه بل عرفنا أنه عَدَل عن المعنى الحقيقي في أحدهما([14]) أو صرفه([15]) إلى أقرب الأصناف أو المصاديق التالي لأجلى الأصناف أو المصاديق.
بل ذلك من الجمع العرفي
بل نقول: إن ذلك من الجمع العرفي بين الروايتين الآنفتين وذلك لأن مفردة (تَجِبُ) ليست نصاً في المعنى المصطلح بل غاية الأمر أنها منصرفة إليه (على القول بأن الوجوب موضوع للثبوت وهو معنى جامع بين المعنى المصطلح وغيره، ونظيره حال القول بالاشتراك اللفظي) أو غاية الأمر هي ظاهرة فيه([16])، لكن ((وَالْغُلَامُ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الْيُتْمِ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، أَوْ يَحْتَلِمَ، أَوْ يُشْعِرَ، أَوْ يُنْبِتَ قَبْلَ ذَلِكَ)) نص في عدم جواز أمره قبل بلوغ الـ15 سنة كما هي نص في عدم الخروج عن اليتم قبل الـ15 سنة المعتضد ببداهة أن اليتيم لغةً وعند كافة المتشرعة هو من لم يبلغ، فيتصرف في ذلك الظاهر ببركة هذا النص، على مبنى، وعلى مبنى آخر فإن هذا النص يمنع انصراف ذلك اللفظ (يجب) إلى أجلى المصاديق فينصرف إلى ما يليه وهو الإستحباب المؤكد.
والحاصل: أن (وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الْيُتْمِ) صريحة في عدم تحقق البلوغ قبل الـ15 سنة، وأما (يجب) فهي ظاهرة أو منصرفة، كما سبق، للوجوب عند الثالثة عشرة، ومع كون (تجب) صالحة للمعنى المصطلح ولتأكد الإستحباب فإن العرف يحمله على الثاني إذا وجد الحمل على الأول مستلزماً لتناقض الحكيم الملتفت.
فتحصل: أن مقتضى دلالة التنبيه، بل مقتضى الجمع العرفي هو ما ذكر من حمل الوجوب عند الـ13 سنة على تأكد الإستحباب، ولكن لو تنزلنا وسلّمنا أن العرف لا يظهر له بوضوح ذلك، فإن دلالة التنبيه بمفردها تتكفل بدفع التضاد.
ولا تنفي دلالة التنبيه كون الجمع تبرعياً
لا يقال: مقتضى ما ذكر في دلالة التنبيه، أن لا تبقى هناك جموع تبرعية أبداً إذ كلها ستكون في دائرة دلالة التنبيه؟
بل تفيد عقلائية الجموع التبرعية
إذ يقال: كلا؛ إذ دلالة التنبيه تفيد أن الحكيم غير متناقض وأن كلامه غير متعارض فتكون كل الجموع التبرعية المحتملة احتمالاً عقلائياً جموعاً موجّهة، ولكن، في الوقت نفسه، من دون أن تكون، إذا استندنا إلى مجرد دلالة التنبيه، جموعاً عرفية فلا تخرج عن كونها جمعاً تبرعياً، إذ ملاك الجمع العرفي الظهور وملاك التبرعي عدم الظهور عرفاً، فتكون دلالة التنبيه نافعة لدفع احتمال التعارض فلا تجري على الخبرين أحكامه، وإن لم يظهر لنا وجه الجمع بذاته. فتأمل([17])
الجمع بين روايات جري القلم ومعارضاتها
وأما رواية جري القلم وهي: عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال قلت له: ((جُعِلْتُ فِدَاكَ فِي كَمْ تَجْرِي الْأَحْكَامُ عَلَى الصِّبْيَانِ؟ قَالَ: فِي ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، قُلْتُ فَإِنْ لَمْ يَحْتَلِمْ فِيهَا؟ قَالَ: وَإِنْ لَمْ يَحْتَلِمْ، فَإِنَّ الْأَحْكَامَ تَجْرِي عَلَيْهِ))([18]) فقد سبقت أربع وجوه للجواب عنها فراجعها ولعله يأتي لها مزيد توضيح.
حديث رفع القلم حاكم على حديث جري القلم
ولكن نضيف هنا وجهاً خامساً وهو أن يقال: بأن حديث الرفع ((رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى ينتبه))([19]) حاكم على أدلة جري القلم على الصبي ومنها هذه الرواية.
بيان ذلك: أن الأعلام اختلفوا في معنى (رفع القلم عن الصبي) على آراء:
الأول: ما ذهب إليه بعضهم من أنه لم يوضع عليهم قلم التكليف رأساً، ولكن هذا المعنى مخالف لظاهر الرفع فإنه إنما يكون بعد الوضع، ولا يطلق على الدفع أنه رفع، ولا على عدم الوضع رأساً أنه رفع إلا مجازاً أو كناية.
الثاني: ما ذهب إليه السيد الوالد (قدس سره) بعد استبعاده المعنى الأول، من أن القلم جرى على الكبار من نساء ورجال واستمر جريه حتى إذا بلغ الصبيان رفع فكأن مصحح التعبير بالرفع أن القلم كان جارياً على ورق التكليف حتى إذا بلغ الأطفال رفع القلم، وهذا المعنى وإن كان لا يزال مجازاً إذ يشبه علاقة المجاورة لكنه لعلّه أقرب من سابقه. فتأمل([20]).
الثالث: ما نطرحه كرأي جديد من أن قلم التكليف وضع أولاً على الجميع، من البالغين والصبيان المميزين والذي إليه تشير روايات جري القلم كالرواية أعلاه، ثم أنه رفع هذا القلم عن الصبيان المميزين ببركة حديث الرفع، وحيث كان حديث الرفع امتنانياً دل على رفع الإلزام خاصة إذ لا منّة في رفع الإستحباب الذي به يستحق الثواب من دون أن يترتب على المخالفة العقاب.
وبعبارة أخرى: حديث جري القلم على الصبي في الثالثة عشرة يفيد جري قلم الأحكام الخمسة، وأما حديث الرفع فإنه يرفع خصوص الأحكام الإلزامية منها عنه، ووجه تخصيصه برفعه الأحكام الإلزامية فقط، كونه وارداً مورد الامتنان. ولهذا مزيد إيضاح فانتظر.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قيل للإمام الرضا (عليه السلام) كيف أصبحت، فقال (عليه السلام): ((أَصْبَحْتُ بِأَجَلٍ مَنْقُوصٍ وَعَمَلٍ مَحْفُوظٍ وَالْمَوْتُ فِي رِقَابِنَا وَالنَّارُ مِنْ وَرَائِنَا وَلَا نَدْرِي مَا يَفْعَلُ بِنَا)) (تحف العقول: ص446).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) الدرس (546).
([3]) المعاريض والتورية – مباحث الأصول وفقه الحديث: ص104.
([9]) بما هي كاشفة عن المخبر عنه.
([10]) وهذا على التفريق الأول لا الثاني.
([12]) المعاريض والتورية – مباحث الأصول وفقه الحديث: ص105-107.
([14]) بناء على الحقيقة والمجاز، وقد اخترنا غيرهما.
([15]) بناء على المشترك المعنوي.
([17]) إذ لا يجري عليها خصوص حكم طرح أحدهما دون غيره. فتأمل
([20]) إذ انه إذا أريد: رفع عن الورق كان حقيقة، أما إذا أريد: رفع عن الصبي كان مجازاً.
([1]) الدرس (546).