بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(100)
كلام المحقق الهروي
وقال المحقق الهروي: (إذا تمهّد ما ذكرنا، فنقول: لا ريب أنّا مكلَّفون بما جاء به محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) من الأحكام الشّرعيّة، فيجب علينا امتثال تلك الأحكام، وتفريغ ذمّتنا منها.
ولا ريب أنّ امتثالها من دون العلم بها ومعرفتها غير ممكن، فيجب علينا تحصيل العلم بتلك الأحكام والقطع بها، وبأجزائها، وشرائطها، وكيفيّاتها.
وقد عرفت أنّ القدر اللازم هو العلم بالمذكورات من الطريق المقرّر شرعاً لمعرفتها، ولا ريب أنّ القطع بها من الطريق المقرّر شرعاً يتوقف على معرفته، فيجب علينا معرفة الطريق، ولكن بطريق القطع واليقين؛ لما بيّنّاه من عدم حجية الظنِّ في أمور الدّين، ومعناه إقامة الأدلة القطعية على أنّ الطريق إلى معرفة الأحكام هو الشيء الفلانيُّ، فظهر أنّ أداء التكاليف يتوقف على العلم بالطُّرق المقرَّرة.
وحينئذٍ فنقول: إن أمكن العلم بالطرق – كما ادّعيناه -، فهو، وإلا – كما يدّعيه الخصمُ – فلا بدَّ من تحصيل الظن بالطُّرق، ويكون الظن بها قائماً مقام العلم بها، ويجب أخذ الأحكام حينئذٍ من هذه الطرُّق الظنية؛ لبقاء التكاليف، وانسداد سبيل العلم بالطُّرق الشرعية، مع أن المفروض انسداد سبيل العلم بالواقع أيضاً. فوجب أخذُ الأحكام من الطّرق التي يترجّح في النظر كونها طُرُقاً شرعيّة لمعرفة الأحكام)([1]).
موجز رأي الهروي والرازي
وحاصله في نقاط:
أ- أن التكليف ثابت.
ب- والامتثال واجب.
ج- فتحصيل العلم بالتكليف (وبكيفية الامتثال) واجب.
د- والعلم علمان: علم بالواقع بما هو هو والعلم بالواقع من الطريق المعتبر شرعاً.
هـ- والثاني هو المتحتم إذ انه الذي قرره الشارع.
ز- لكن هذا الطريق المعتبر شرعاً (الذي نريد تحصيل العلم بالواقع عبره) لا بد أن نعرفه عن طريق القطع.
ح- فإن لم يمكن لفرض انسداد باب العلم وجب ان نحصل عليه عن طريق الظن فيكون الظن بالطرق الشرعية قائماً مقام القطع بها.
ط- فلا يكفي الظن بالواقع لا عن الطريق المقرر شرعاً.
المناقشات:
والحاصل: انه اعتبر نوعاً من الموضوعية للطرق إذ قال: (القدر اللازم هو العلم بالمذكورات من الطريق المقرّر شرعاً لمعرفتها) وقال: (فظهر أن أداء التكاليف يتوقف على العلم بالطرق المقررة) وقال: (الطرق الشرعية) وقد سبقت تصريحات أخرى له أوضح من هذا، كما سبقت المناقشة فيه بانه إن أراد بشرط لا فهو غير صحيح أو لا بشرط فلا ينفعه فراجع ما سبق، ونضيف:
إن الأدلة الشرعية من كتاب وسنة أوضح دليل على عدم تقيد العلم بالأحكام الشرعية بكونه من الطرق المقررة شرعاً، وان تمام مطلوب المولى هو الواقع والوصول إلى حكمهم الواقعي لأنه الحامل للغرض والمصلحة أو المفسدة، وان الطريق إذا خالف ذا الطريق سقط عن الاعتبار ثبوتاً غاية الأمر كونه معذراً إثباتاً مع الجهل بمخالفته للواقع.
العلم إما آلي للواقع أو آلي للطريق
كما مضى ان العلم آلي إذ سبق: (كما يردّ مدعاه أيضاً إذعانه بان العلم آلي، لا موضوعية له قال: (مع أنّ العلم بالأحكام ليس أمراً مقصوداً بالذات، بل هو علمٌ آليُّ ليس المقصود منه إلا تصحيح العمل، وامتثال التكاليف على وفق ما أراده الشارع)([2]) فإذا كان علماً آلياً كان المدار على الواقع وأما دعوى كون المدار على الطريق فهي دعوى لم يُقِم عليها دليلاً بل الدليل على الخلاف كما سيظهر فقوله (فإذا حصل القطع بما هو المكلّف به من الطريق المقرر من الشارع([3])) غير تام إذا أراد بـ(من الطريق) كونه قيداً أو كونه تمام الموضوع، فانه بذلك يقلب العلم الطريقي إلى الموضوعي وهو خلاف الأدلة كما أشار إليه في الكفاية أيضاً سواء أراد الصرف أو التقييد، وسيأتي بإذن الله تعالى)([4]).
ونضيف: ان العلم، وكذا الظن، آلي للواقع كما هو آلي للطريق، لكن آليته للطريق هي بتبع آليته للواقع إذ هو المدار وعليه الاعتبار فلو كان آلة للطريق دون الواقع سقط عن الاعتبار، ولتوضيح القسمين نمثل بخبر الثقة فانه: أ- آلي للوصول إلى الواقع، بنحو الظن الخاص أو المطلق كما انه ربما أحياناً يفيد العلم وذلك فيما إذا كان متعلّقه أي المخبَر به هو الحكم الواقعي، ب- كما انه آلي للطريق إلى الواقع؛ إذ قد يفيد خبر الثقة حجية اليد ودلالتها على الملك فيكون آلياً للطريق إلى الواقع (فان الواقع هو الملك، والطريق إليه اليد، والآلة الموصلة لكون اليد أمارة الملك هي خبر الثقة) وكذا ما لو دلّ خبر الثقة على حجية الاستصحاب أو السوق أو غيبة المسلم بناء على كونها طريقية، مثال آخر: البيّنة قد تقوم على حجية خبر الثقة كما لو شهد عدلان بان الإمام الصادق (عليه السلام) قال مثلاً: خبر الثقة حجة، فالبيّنة آلة للطريق وهو خبر الثقة وهو آلة للواقع وهو استحباب جلسة الاستراحة مثلاً.
الآيات والروايات الدالة على طريقية الحجج المحضة
وأما الأدلة على ان العلم، والظن القائم مقامه، ليست له إلا جنبة الطريقية وان الواقع هو تمام المدار وانه به الاعتبار وان الطرق المقررة شرعاً لا موضوعية لها أصلاً وليست قيداً بل ليس اعتبارها إلا لكونها كاشفة عن الواقع لا غير فلا تزيد عن أي كاشف آخر إذا كان بدرجة كاشفيتها) فهي مختلف الآيات والروايات ونذكر أربعة منها:
1- قال تعالى: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)([5]) فان (الدِّينِ) هو المدار والتفقه طريق إليه وليس طريقاً إلى طريقه، ولو وقع طريقاً إلى طريقه لما كان حجة إلا لأن هذا الطريق طريق للواقع لا لأن له موضوعية، وكذا حال (يَحْذَرُونَ) إذ المراد الحذر من مخالفة الدين والأمر الواقعي لا بقيد كونه مدلول قول المحذِّر بل هو بما هو هو، والحاصل: قول المحذِّر كاشف ومرآة وليس قيداً وجزء الموضوع.
بوجه آخر: قال تعالى: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ)([6]) والناس لا يفهمون من أمثال هذه الجمل إلا الطريقية للواقع ولا يفهم منهم أحد موضوعية الطريق أو كونه قيداً، بل هذا الذهن الأصولي هو الذي يشقق الطريق إلى كونه على قسمين، أما عامة الناس، فحتى لو التفتوا لذلك لما رأوا في طريق الطريق إلا الطريقية المحضة.
2- وقال تعالى: (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمينَ)([7]) فإنها تنادي بأعلى صوتها ان التبيّن إنما هو عن الواقع، ولو كان تبيّناً عن الطريق فلمجرد جهة كشفه الواقع، ويدل عليه أيضاً (أَنْ تُصيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) لوضوح ان تمام المدار على إصابتهم بجهالة وعدمه، من دون مدخلية للطريق بنحو القيد أبداً وكذا (يَحْذَرُونَ).
والفرق: ان هذه الآية الكريمة في الموضوع والآية السابقة في الحكم.
3- وقوله (عليه السلام): ((الْعَمْرِيُّ وَابْنُهُ ثِقَتَانِ فَمَا أَدَّيَا إِلَيْكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّيَانِ))([8]) فتمام المدار على كون أدائهم عنه (عليهم السلام) لا غير ولذا لو تخالف أداؤهم مع كونه (عنه) لما كانت له قيمة أبداً.
4- وقوله (عليه السلام): ((عن علي بن المسيب قال: ((قُلْتُ لِلرِّضَا (عليه السلام) شُقَّتِي بَعِيدَةٌ وَلَسْتُ أَصِلُ إِلَيْكَ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَمِمَّنْ آخُذُ مَعَالِمَ دِينِي، فَقَالَ: مِنْ زَكَرِيَّا بْنِ آدَمَ القمي الْمَأْمُونِ عَلَى الدِّينِ وَالدُّنْيَا، قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: فَلَمَّا انْصَرَفْتُ قَدِمْتُ عَلَى زَكَرِيَّا بْنِ آدَمَ فَسَأَلْتُهُ عَمَّا احْتَجْتُ إِلَيْهِ))([9]) فالمدار كل المدار الدِّين الثبوتي (معالم الدين الواقعية الثبوتية) والمصلحة الدنيوية، وقد عدّ (عليه السلام) ذكريا بن آدم طريقاً إليها وليس جزء الموضوع.
الظن بالواقع، الظن بالطريق، والظن عن الطريق
تنبيه: الظنون ثلاثة: الظن بالواقع، والظن بالطريق، والظن عن الطريق، ولم أجد في كلمات القوم إشارة إلى هذا التثليث رغم أهميته، والظن عن الطريق يعني الظن الحاصل من خبر الثقة مثلاً، والظن بالطريق يعني الظن به نفسه وإن لم ينتج الظن عنه بالمؤدي، إذ قد يحصل له الظن بالواقع من خبر الثقة فهو ظن عن الطريق أي ظن حاصل عن الطريق، وقد يحصل له الظن بالطريق أي بنفس خبر الثقة بان يظن من البيّنة حجيته أو يظن من خبر ثقة آخر كون هذا المخبر ثقة أو يظن من ظاهر الرواية حجية خبر الثقة أو كون فلانٍ ثقة أو غير ذلك.
والظن بالطريق قد يفيد الظن بالواقع وقد لا يفيد([10]) كما ان الظن عن الطريق (أي الظن بالواقع الحاصل عن الظن بالطريق) قد يكون لخصوص ظنه بحجية الطريق، وقد يكون لقرائن أخرى محتفة مع عدم إفادة الطريق بنفسه الظن بالواقع. فتأمل وتدبر في ثمرة ذلك في البحث، وسيأتي بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((وَلَا شَفِيعَ أَنْجَحُ مِنَ التَّوْبَةِ وَلَا لِبَاسَ أَجْمَلُ مِنَ الْعَافِيَةِ وَلَا مَالَ أَذْهَبُ بِالْفَاقَةِ مِنَ الرِّضَا بِالْقُوتِ وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى بُلْغَةِ الْكَفَافِ تَعَجَّلَ الرَّاحَةَ وَتَبَوَّأَ خَفْضَ الدَّعَةِ)) (تحف العقول: ص88).
--------------------------
([1]) الشيخ محمد تقي الهروي الحائري، رسالة في نفي حجية مطلق الظن، العتبة العباسية المقدسة ـ قسم شؤون المعارف الإسلامية والإنسانية: ص155.
([8]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج1 ص329.
([9]) الشيخ المفيد، الاختصاص، المؤتمر للشيخ المفيد ـ قم: ص87.
([10]) والتفكيك بلحاظ الظن النوعي والشخصي، أو بلحاظ تفسير الحجية بالكاشفية أو لزوم الإتباع. فتدبر.
([1]) الشيخ محمد تقي الهروي الحائري، رسالة في نفي حجية مطلق الظن، العتبة العباسية المقدسة ـ قسم شؤون المعارف الإسلامية والإنسانية: ص155.