بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(226)
الشيخ: الإجماع على عدم القاصر في الأصول، والردّ
وقد استدل على عدم وجود القاصر في أصول الدين، بالإجماع على أن المخطئ في العقائد غير معذور، لكنّ الشيخ (قدس سره) ناقش في انعقاد الإجماع أي في عمومه وشموله قال (قدس سره): (وأن من نراه قاصراً عاجزاً عن العلم قد يمكن عليه تحصيل العلم بالحق ولو في زمان ما وإن كان عاجزاً قبل ذلك أو بعده، والعقل لا يقبح عقاب مثل هذا الشخص، ولهذا ادعى غير واحد - في مسألة التخطئة والتصويب - الإجماع على أن المخطئ في العقائد غير معذور([1]).
لكن الذي يقتضيه الإنصاف: شهادة الوجدان بقصور بعض المكلفين، وقد تقدم... ومورد الإجماع على أن المخطئ آثم هو المجتهد الباذل جهده بزعمه، فلا ينافي كون الغافل والملتفت العاجز عن بذل الجهد معذوراً غير آثم)([2]).
والظاهر ان (الباذل جهده) تفسير للمجتهد فيراد بالمجتهد معناه اللغوي وليس قيداً احترازياً ليكون المراد به المعنى المصطلح، وإن كان له وجه، فتدبر.
وبعبارة أخرى: انه (قدس سره) حيث ارتأى أن الإجماع ليس له معقد لفظي عام، فقدره المتيقن هو من جمع شروطاً ثلاثة: كونه مجتهداً([3])، كونه قادراً وكونه ملتفتاً، فالمجتهد القادر على الوصول للأدلة والجواب على الشبهات، عكس المسجون مثلاً الذي لا يمكنه نيل الكتب ومخاطبة علماء الكلام، الملتفت إلى احتمال وجود دين آخر يكون هو الحق مثلاً، هو الآثم إن اخطأ الحق، فانه غير معذور مادام مجتهداً قادراً ملتفتاً.
أقول: وذلك كله مبني على أن أصول الدين من دائرة المستقلات العقلية والفطريات، فالدليل عليها واضح مما لا يمكن للمجتهد الجهل به وعدم الوصول إليه مع بذل أدنى جهد، لكنه على ذلك يكون المراد من الاجتهاد المعنى اللغوي لا المصطلح، فتأمل.
(عُدّة الأصول) الحقائق على ثلاثة أنواع
وحيث أن من أوائل من أدعى الإجماع الشيخ الطوسي (قدس سره) في العدة لذا لا بد من عرض كلامه لما فيه من تنقيح المرام وتحديد مورد النقض والإبرام، ولما فيه من البرهان إضافة إلى الاستشهاد بالوجدان، وملخصه مع بعض التغيير انه (قدس سره) ذهب إلى أن التكوينيات والحقائق بما فيها الانتزاعيات، على ثلاثة مستويات:
1- الحقائق التي لا تتغير ولا يجوز تغيرها
المستوى الأول: الحقائق التكوينية التي لا تتغير في حد نفسها، كوجود صانع للعالم وعدمه، وككون العالم قديماً أم حادثاً، وكذلك الحقائق الانتزاعية، كحسن العدل وقبح الظلم قال: (إعلم أنّ كلّ أمر لا يجوزُ تَغيّره عمّا هو عليه مِن وجوبٍ إلى حظرٍ، ومن حسن إلى قبح، فلا خلاف بين أهل العلم المحصّلين أنّ الاجتهاد في ذلك لا يختلف، وأنّ الحقّ في واحد، وأنّ من خالفه ضالّ فاسق، وربّما كان كافراً، وذلك نحو القول بأنّ العالم قديم أو محدث؟ وإذا كان مُحدَثاً هل له صانعٌ أم لا؟ والكلام في صفات الصّانع، وتوحيده، وعدله، والكلام في النبوّة والإمامة وغير ذلك، وكذلك الكلام في أنّ الظّلم، والعبث، والكذب قبيح على كلّ حال، وأنّ شكر المنعم، وردّ الوديعة، والإنصاف حسن على كلّ حال، وما يجري مجرى ذلك.
وإنّما قالوا ذلك: لأنّ هذه الأشياء لا يصحّ تغييرها في نفسها، ولا خروجها عن صفتها الّتي هي عليها، ألا ترى أنّ العالَمَ إذا ثبت أنّه مُحدَثٌ، فاعتقاد من اعتقد أنّه قديم لا يكون إلاّ جهلاً، والجهل لا يكون إلاّ قبيحاً.
وكذلك إذا ثبت أنّ له صانعاً، فاعتقاد من اعتقد أنّه ليس له صانع لا يكون إلاّ جهلاً. وكذلك القول في صفاته، وتوحيده، وعدله. وكذلك إذا ثبت أنّ النّبي (صلي الله عليه وآله وسلم) صادق، فاعتقاد من اعتقد كذبه لا يكون إلاّ جهلاً. وكذلك المسائل الباقية.
وحكي عن قوم شذّاذ لا يُعتدُّ بأقوالهم أنّهم قالوا: إنّ كلّ مجتهد فيها مصيب([4]).
وقولهم باطل بما قلناه)([5]).
إيضاحات ومناقشات
وهنا نقاط تتنوع بين إيضاح ونقد:
الحق واحد والمصيب واحد والمخطئ ضال وآثم
الأولى: إنّ كلامه يتلخص في نقاط أربعة نضيف لها خامساً:
1- أنّ الحق في تلك الأمور، واحد، لا يختلف ولا يتخلف.
2- وأنّ المصيب من المجتهدين هو من طابق قوله الواقع.
3- وانّ المخطأ ضال.
4- وانّه فاسق.
والضال أعم من الكافر إذ الضال كل من ضل الطريق سواء أكان في أصول الدين أم لا، أما الكافر فهو من ضل عن الحق في أصول الدين خاصة.
5- وانّ الدليل على ذلك الحق الواحد، قائم ظاهر؛ فانّ حكمه (قدس سره) بالفسق موقوف عليه؛ لأنه إن لم يكن قائماً فلا يكون المعتقد بخلاف الحق فاسقاً إذ الفسق هو المعصية عن علم بها لا عن جهل قصوري، وكذا لو لم يكن ظاهراً ولم يقصر في الوصول إليه.
الفرق الجوهري بين العدل والصدق والظلم والكذب
الثانية: انّ تمثيله (قدس سره) لهذا النوع الأول الذي (لا يجوزُ تَغيّره...) بالعدل والظلم صحيح دون تمثيله بالصدق والكذب، وذلك لأن الحسن ذاتي للعدل بذاتيّ باب البرهان كما أن القبح ذاتي للظلم بذاتيّه، فلا يمكن انفكاكه عنه ولا يمكن تغيّره عنه([6])، إذ:
ذاتيّ شيء لم يكن معلّلاً
وكان ما يسبقه تعقلا
وكان أيضاً بيّن الثبوت له
وعرضيّه اعرفن مقابله([7])
أما الصدق فان الحسن ليس ذاتياً له بل هو عرض مفارق، نعم هو مقتضٍ له، ولذا يكون قبيحاً إذا وقع مقدمة، مثلاً، لقتل مؤمن ظلماً، وكذا شكر المنعم حسن مطلقاً والعبث قبيح مطلقاً، وهو غير اللعب فانه.([8]) بالوجوه والاعتبارات، أما ردّ الوديعة فبالوجوه والاعتبارات فلذا لا يصح فيها قوله: (وإنّما قالوا ذلك: لأنّ هذه الأشياء لا يصحّ تغييرها في نفسها، ولا خروجها عن صفتها الّتي هي عليها).
بعبارة أخرى: الحسن للعدل، من قبيل المعقول الثاني الفلسفي لا المعقول الثاني المنطقي فإن قوام الثاني بأن يكون الاتصاف والعروض كليهما في الذهن، أما الأول فهو أن يكون العروض في الذهن والاتصاف في الخارج.
إن كان الاتصاف كالعروض في
عقلك فالمعقول بالثاني صفي
بما عروضه بعقلنا ارتسم
في العين أو فيه اتصافه رسم
فالمنطقي الأول كالمعرف
ثانيهما مصطلح للفلسفي([9])
والـحُسن لا يعرض العدل في الخارج بل في الذهن، لكن العدل يتصف بالحسن في الخارج. فتدبر.
الثالثة: انّ هذا القسم نقل الشيخ الطوسي الإجماع عليه من أهل العلم من العامة والخاصة جميعاً فقال: (فلا خلاف بين أهل العلم المحصّلين أنّ الاجتهاد في ذلك لا يختلف، وأنّ الحقّ في واحد، وأنّ من خالفه ضالّ فاسق، وربّما كان كافراً).
الجهل وقبحه أعم من استلزامه الفسق
الرابعة: إنّ قوله: (ألا ترى أنّ العالَمَ إذا ثبت أنّه مُحدَثٌ، فاعتقاد من اعتقد أنّه قديم لا يكون إلاّ جهلاً، والجهل لا يكون إلاّ قبيحاً.
وكذلك إذا ثبت أنّ له صانعاً، فاعتقاد من اعتقد أنّه ليس له صانع لا يكون إلاّ جهلاً. وكذلك القول في صفاته، وتوحيده، وعدله.
وكذلك إذا ثبت أنّ النّبي (صلي الله عليه وآله وسلم) صادق، فاعتقاد من اعتقد كذبه لا يكون إلاّ جهلاً. وكذلك المسائل الباقية) غير تام لأن كونه جهلاً أعم من استلزامه الفسق، وكون الجهل قبيحاً في ذاته أعم من كونه مقصوداً ملتَفَتاً إليه ليستوجب الفسق، وعليه فلا بد لإثبات فسقه من دليل آخر، وهو ما ذكرناه من قيام الدليل الظاهر، وإلا فمن دونه فان الجهل ليس فسقاً إذ يكون حينئذٍ قصوراً لا تقصيراً، فهذا كله عن القسم الأول.
2- الحقائق التي يمكن تغيّرها
المستوى الثاني: الحقائق التي تتغير في أنفسها أو في خصائصها.
قال: (وأمّا ما يصحّ تغييره في نفسه، وخروجه من الحسن إلى القبح، ومن الحظر إلى الإباحة، فلا خلاف بين أهل العلم أنّه كان يجوز أن تختلف المصلحة في ذلك، فما يكون حسناً من زيد يكون قبيحاً من عمرو، وما يقبح من زيد في حال بعينها يحسن منه في حالة أخرى، ويختلف ذلك بحسب اختلاف أحوالهم وبحسب اجتهادهم.
وإنّما قالوا ذلك: لأنّ هذه الأشياء تابعة للمصالح والألطاف، وما حكمه هذا فلا يمتنع أن يتغيّر الحال فيه، ولهذه العلّة جاز النّسخ، ونقل المكلّفين عمّا كانوا عليه إلى خلافه بحسب ما تقتضيه مصالحهم.
إلاّ أنّ مع تجويز ذلك في العقل هل ثبت ذلك في الشّرع أم لا؟)([10]).
إيضاحات وإضافات
وهنا نقاط:
اختلاف بعض الحقائق بحسب الأحوال
منها: انه لا شك في اختلاف هذا القسم الثاني بحسب اختلاف أحوال الناس فالمضطر يحسن منه أكل الميتة أو شرب الماء المتنجس كي لا يموت في الصحراء جوعاً وعطشاً، عكس غير المضطر، والمكره على الكذب وإلا قُتِل يجوز له الكذب بل يجب، عكس غير المكره... وهكذا، إنما الكلام في اختلاف هذا القسم بحسب اختلاف الاجتهادات رغم كون أحوال الناس واحدة وكون خصوصيات المتعلق، من قيود وشروط وشبهها متحدة.
مشهور العامة على التصويب فيها
ومنها: ان هذا القسم هو الذي نقل الشيخ (قدس سره) الشهرة من علماء العامة على أن كل مجتهد مصيب فيه قال: (فذهب أكثر المتكلّمين والفقهاء إلى أنّ كلّ مجتهد مصيب في اجتهاده وفي الحكم، وهو مذهب أبي عليّ وأبي هاشم([11])، وأبي الحسن([12])، وأكثر المتكلّمين)([13])
ومنها: ان هذا القسم هو الذي نقل (قدس سره) إجماع متكلمينا على التخطئة فيه قال: (والّذي أذهبُ إليه وهو مذهب جميع شيوخنا المتكلّمين، المتقدّمين والمتأخّرين، وهو الّذي اختاره سيدنا المرتضى قدس اللَّه روحه، وإليه كان يذهب شيخنا أبو عبد اللَّه رحمه اللَّه: "أنّ الحقّ واحد وأنّ عليه دليلاً، من خالفه كانَ مخطئاً فاسقاً")([14]).
ومصبّ كلامه (قدس سره) القياس وخبر الواحد
ومنها: ان مرمى غرضه من هذا القسم هو القياس وخبر الواحد غير المعتبر، وما يلحق بهما، وليس هو ما لعله يفهم من إطلاقه؛ ولذا قال: (واعلم أنّ الأصل في هذه المسألة([15]) القول بالقياس والعمل بأخبار الآحاد، لأنّ ما طريقه التّواتر وظواهر القرآن، فلا خلاف بين أهل العلم أنّ الحقّ فيما هو معلوم من ذلك، وإنّما اختلف القائلون بهذين الأصلين فيما ذكرناه، وقد دللنا على بطلان العمل بالقياس([16])، وخبر الواحد الّذي يختصّ المخالف بروايته([17]).
وإذا ثبت ذلك، دلّ على أنّ الحقّ في الجهة الّتي فيها الطّائفة المحقّة)([18]).
الوجه في تفسيق الجاهل بالقسمين، قيام الدليل الظاهر
ومنها: ان الوجه في قوله (قدس سره) في كلا النوعين بفسق من خالف الحق، هو قيام الدليل الظاهر عليهما: أما القسم الأول فلأن أدلته المستقلات العقلية والفطريات والبراهين القاطعة، وأما القسم الثاني فلأن الدليل على بطلان القياس هو متواتر الروايات، والدليل على حرمة العمل بخبر الواحد غير المعتبر، انه من التقوّل على الله تعالى بغير علم، قال تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ} (سورة البقرة: الآية 80) وانه كذب ولذا قال (قدس سره): (وإليه كان يذهب شيخنا أبو عبد اللَّه رحمه اللَّه: "أنّ الحقّ واحد وأنّ عليه دليلاً، من خالفه كانَ مخطئاً فاسقاً") فلاحظ قوله (وان عليه دليلاً) والمقصود دليلاً يمكننا الوصول إليه دون محذور.
ومنها: اننا إنما قيدنا خبر الواحد في كلامه بغير المعتبر، لقوله هنا وفي أوائل (الـعُدّة): (وخبر الواحد الّذي يختصّ المخالف بروايته([19])) إضافة إلى انه مقتضى القاعدة إذ ان خبر الواحد المعتبر، أي المعتبر بدليل شرعي، ليس تقوّلاً على الله بغير علم إذ مادام قد اعتبره الشارع حجة على أحكامه ومراداته فانه تصح نسبته إليه، عكس غير المعتبر فانه تقوّل بغير علم. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((لَا تَغْضَبُوا مِنَ الْحَقِّ إِذَا قِيلَ لَكُمْ، وَلَا تُبْغِضُوا أَهْلَ الْحَقِّ إِذَا صَدَعُوكُمْ([20]) بِهِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَغْضَبُ مِنَ الْحَقِّ إِذَا صُدِعَ بِهِ))
(تحف العقول: ص515).
---------------
([1]) كالشيخ الطوسي في العدة 2: 723، وصاحب المعالم في المعالم: 241.
([2]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص575-576.
([4]) حكي هذا القول الشّاذ عن الجاحظ وعن عبد اللَّه بن الحسن العنبري المعتزلي، وقيل أنّ العنبري كان يعمّم قوله في العقليّات حتّى يشمل جميع أصول الديانات، وأنّ اليهود والنّصارى والمجوس على صواب.
([5]) الشيخ الطوسي، العدة في أصول الفقه، تیزهوش ـ قم: ج2 ص723-724.
([7]) الملا هادي السبزواري، منظومة ملا هادي السبزواري، نشر ناب ـ طهران: ج1 ص154.
([9]) الملا هادي السبزواري، منظومة ملا هادي السبزواري، نشر ناب ـ طهران: ج2 ص163.
([10]) الشيخ الطوسي، العدة في أصول الفقه، تیزهوش ـ قم: ج2 ص724.
([13]) الشيخ الطوسي، العدة في أصول الفقه، تیزهوش ـ قم: ج2 ص725.
([14]) الشيخ الطوسي، العدة في أصول الفقه، تیزهوش ـ قم: ج2 ص725-726.
([15]) أي في طرح هذه المسألة وعنونتها.
([16]) أنظر استدلال المصنّف في مبحث القياس في هذا الكتاب.
([17]) أنظر: استدلال المصنّف في مبحث (خبر الواحد وأحكامه) صفحة 97.
([18]) الشيخ الطوسي، العدة في أصول الفقه، تیزهوش ـ قم: ج2 ص726.
([19]) أنظر: استدلال المصنّف في مبحث (خبر الواحد وأحكامه) صفحة 97 وص100.
([20]) صَدَعَ بِالحقِّ : تكلَّمَ به جهارا (المصباح المنير: ص 335 «صدع») .
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((لَا تَغْضَبُوا مِنَ الْحَقِّ إِذَا قِيلَ لَكُمْ، وَلَا تُبْغِضُوا أَهْلَ الْحَقِّ إِذَا صَدَعُوكُمْ([20]) بِهِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَغْضَبُ مِنَ الْحَقِّ إِذَا صُدِعَ بِهِ))