بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
تتمة الإشكال الأول
سبق: (ومصطلح صِرف الوجود مصطلح فلسفي له معنى محدد لا ينطبق على المقام اصلاً إلا مع تغييره إلى معنى آخر كما سيأتي، فإن الوجود الصرف، حسب تعريفهم له، لا يمكن انطباقه إلا على الله تعالى)، و(وهو كما ترى لا مجال لاستعماله في الرقبة وغيرها، نعم مع تغييره إلى معنى آخر، ممكن وسيأتي، ويأتي بيان ما فيه)[1].
1- المعاني الثلاثة لصِرف الوجود
وتحقيقه وتوضيح الإشكال هو: أنّ صِرف الوجود يمكن أن يفسر بأنحاء ثلاثة:
الوجود الذي لا يتقوّم بأمر ولا يتغيّر.. إلخ
الأول: ما سبق من انه (الذي لا يمكن أن يكون متكثراً أو متغيراً أو متقوّماً بسبب) وهذا هو الذي لا ينطبق إلا على واجب الوجود جل اسمه، بيانه: ان كل موجود ممكن فإنه لا يعقل كونه صِرف الوجود بهذا المعنى، لأن كل موجود ممكن متقوِّم بغيره، أي بعلته، كما انه متغير في ذاته، فليس صِرف الوجود؛ إذ هو وجود متقوم في ذاته بغيره؛ لأن وجود الممكن مرتهن بعلته آناً فآناً حدوثاً وبقاءً، لا انه إذا خلقه الله تعالى استغنى عنه بل هو في كل آن محتاج إلى استمرار فيضه تعالى عليه، ولذا لو انقطعت إفاضته وإيجاده انتهى وجود مخلوقه وعُدِم وفنى، ومثاله المقرب إلى الذهن: الكهرباء التي تشعل المصابيح فإنها مادامت مستمرة في التدفق في الأسلاك يضيء المصباح فإذا ضَغَطّتَ القابس وأغلقته انطفأ، والمثال للتقريب طبعاً، وكذلك مثال النهر إذ يبدو الماء الجاري أمامك واحداً لكنه في الواقع ماء آخر متصل بما سبقه ولحقه، فكذلك عمر الإنسان وسائر المخلوقات فإنه وجود واحد متصل لكن وجوده في كل آن غير وجوده في الآن السابق (إذ وجوده في الآن السابق من الماضي وهو معدوم الآن قطعاً، وهو موجود بوجوده الحالي فقط) والمثال الآخر الأوضح: الحركة...
والحاصل: ان كل موجود ممكن متغير آناً فآناً كما ظهر، ولذا قالوا: العالم متغير وكل متغير حادث.
وعليه: فإنه لا شيء من الوجودات الممكنة بصِرف الوجود إذ:
1- هو وجود متقوم بغيره في ذاته وليس محض الوجود بل تقومه بغيره عينه، لا انه صفة خارجة عنه وإلا لما كان في ذاته متقوماً بغيره هذا خلف.
2- كما انه وجود متغير في ذاته.
وهذا المعنى من صِرف الوجود هو الذي لا يتكرر ولا يتثنى، لا الثالث الآتي كما سيظهر.
الوجود من دون ضمائم
الثاني: ما سبق: (وأما التعريف[2]: فإن صرف الوجود يعني نفس وجود الشيء، أو وجود الطبيعي، من دون ضمائم من مشخصات فردية أو أوصاف أو غير ذلك من عموم واستغراق وغير ذلك)[3]، ولكن لا يوجد ممكن متصف بصِرف الوجود بهذا المعنى؛ وذلك لأن كل موجود ممكن فإنه قهراً مكتنف بالمشخصات الفردية، إذ يستحيل وجود المادة بدون مكان وزمان وكم وكيف ووضع وأين... إلخ، أي من دون الأعراض التسعة المعروفة[4]، وحتى الطاقة كالنور والصوت والجاذبية والأشعة الكهرومغناطيسية وغيرها فإن لها مكاناً وزماناً... إلخ وأما المجردات فلم يثبت وجود مجرد سوى الله تعالى.
وعلى أي، فإن المادة والطاقة محتّفة قهراً بالخصوصيات إذ لا يعقل وجود إنسان مثلاً إلا في مكان وزمان مع نسبة إلى الأطراف... إلخ.
الوجود من دون لحاظ الضمائم
الثالث: نفس التعريف مع إضافة كلمة (لحاظ) أي (أن يراد بصِرف الوجود، وجود الشيء أو الطبيعة من دون لحاظ الضمائم والمشخصات).
ووجه عدم لحاظها هو عدم مدخليتها في غرضه، فمثلاً يقول: أكرم عالماً أو اعتق رقبة، فيكون مصب حكمه العام البدلي من دون لحاظ الضمائم ككونه جالساً أو واقفاً، طويلاً أو قصيراً.. إلخ، لا لأنها غير متحققة معه (إذ تحققها على سبيل البدل قهري كما سبق) بل لأنها غير دخيلة في غرضه.
المعنى الثالث لا بد انه المراد له (قده) لكنه لا ينفعه
فهذا المعنى الثالث هو الذي ينبغي أن يكون مقصود المحقق النائيني (قدس سره) فإذا قصده صح موضوعاً لكنه لا ينفعه حكماً؛ إذ صِرف الوجود بهذا المعنى يتكرر ويتثنى، وذلك لأنه ينطبق على جميع أفراد الطبيعة مادام المولى لم يلاحظ (لاحظ قولنا لم يلاحظ) الضمائم كشرط أو قيد في ثبوت حكمه[5] نظراً لعدم مدخليته في غرضه.
بعبارة أخرى: متعلق حكمه (وهو عالماً أو رقبةً) لا بشرط بالنسبة إلى الضمائم والمشخصات، وليس بشرط شيء ولا بشرط لا، واللابشرط يجتمع مع ألف شرط، فهذا المتعلق أو الموضوع والكلي الطبيعي اللابشرطي يتكرر ويتعدد، وبتكرره وتعدده يتكرر ويتعدد الحكم المتعلق به إذ كلاهما انحلالي، أي انه كما ان الموضوع (عالماً) ينطبق على الأفراد جميعاً ولكن على سبيل البدل فكذلك الحكم (أكرم) يحمل عليها جميعاً بنفس الوزان، فإن صِرف وجوده (بالمعنى الثالث) يتعدد ويتكرر لا بنوعه بل بشخصه.
بوجه آخر: كل فرد من أفراد المطلق البدلي يتعلق به فرد من أفراد الإكرام البدلي، بل يستحيل أن يقوم فرد الإكرام القائم بعالم قائماً بعالم آخر إذ لا يكون فرداً إلا إذا تشخص فإذا تشخص استحال أن ينطبق على الغير لكنه مادام غير متشخص (في مرحلة اللحاظ الذهني) فإنه، ككل كل طبيعي[6] يقبل الانطباق على كثيرين.
2- المحتملات ثلاثة: صِرف الوجود إما مطلق الوجود أو الوجود البدلي
ثانياً: سلّمنا، (انّ صِرف الوجود بالمعنى الثالث أيضاً لا يتكرر ولا يتثنى... إلخ)، لكن يوجد هنا شق ثالث قد غُفل عنه إذ الاحتمالات ثلاثة:
1- مطلق الوجود وهو الذي مثلوا له بـ (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ)، لأنه منحل بعدد الأفراد.
2- وصِرف الوجود وهو الذي مثلوا له باعتق رقبة.
3- والوجود البدلي أي أحد الأفراد على سبيل البدل.
ومن الواضح ان المولى إذا قال اعتق رقبة فإن مطلوبه هو اعتق أحد الأفراد على سبيل البدل دون المعنى الثاني، (إلا إذا أرجع إليه – فدقق) وأحد الأفراد على سبيل البدل، متعدد متكرر، وليس واحداً لنضطر إلى القول بإرجاع صِرفي الوجود إلى أمر واحد، بل انه يتعدد بتعدد الأفراد المفترضة.
لا يقال: أحد الأفراد على سبيل البدل لا وجود له في الخارج؟
إذ يقال: إما نقضاً، فكذلك صِرف الوجود بالمعنيين الثاني والثالث، أما الثاني، فلما سبق وأما الثالث فلأنه قد أخذ فيه اللحاظ، واللحاظ لا محالة ذهني وكذا ما أخذ فيه ظرفاً أو قيداً.
وأما حلاً: فلأن معنى مطلوبية أحد الأفراد على سبيل البدل هو أن المولى إذا قال: اعتق رقبة أو أكرم عالماً هو: انني أطلب منك إيجاد أحد الأفراد من غير تقييد بمشخصات معينة من لون وحجم ومكان و... إلخ، وما يوجد في الخارج ينطبق عليه عنوان انتزاعي هو عنوان أحد الأفراد أي: أن أحد الأفراد المطلوب إيجاده ليس المطلوب إيجاده ليكون المتحقق في الخارج أحد الأفراد، بل ليكون الموجَد فرد مشخص ينطبق عليه وعلى سائر الأفراد، عنوان أحد الأفراد المأخوذ في عالم الأمر والذهن متعلَّقاً للحكم.
3- يجب أن يلاحظ المقيد والمطلق في عرض واحد
ثالثاً: سلّمنا (انّ صِرف الوجود بالمعنى الثالث مطلوب، وانه ليس أحد الأفراد.. إلخ)، لكن نقول مع ذلك يبقى كلامه (قدس سره) مصادرة، إذ ان كلامه إنما يصح لو لاحظ (اعتق رقبة مؤمنة) باعتبارها الأصل، وقال بأن مؤمنة قيد احترازي لا غالبي ولا من باب أفضل الأفراد، فعلى هذه المفترضات التي هي عين محل النزاع يبنى انه مادام المطلوب صِرف الوجود وهو يتحقق بعتق الرقبة المؤمنة خاصة (لفرضه انها قيد)، فلا بد أنّ صِرف الوجود في (اعتق رقبة) يتمصدق فيها لا في فرد آخر من أفراد الرقبة (أي الكافرة) وإلا لزم التكرر والتثني في صرف الوجود.
لكنّ هذا هو عين المدعى وهو نفس محل الكلام والنزاع، إذ من يقول بأن (مؤمنة) ذكرت لأنها الفرد الأفضل أو ان (اغسل بالماء) ذكر لأنه الفرد الغالب، له أن يقول ان صِرف الوجود يتمصدق في أي فرد كان من الرقبة فإذا جاء اعتق رقبة مؤمنة وحملنا مؤمنة على الفرد الغالب تمصدق أمرها في أي فرد من أفراد الرقبة.
بعبارة أخرى: إنما يصح كلامه لو لاحظنا (اعتق رقبة مؤمنة) وحدها واعتبرناها الأصل أما لو لاحظنا (اعتق رقبة مؤمنة) و(اعتق رقبة) في عرض واحد، لأن كلامهم (عليهم السلام) ككلام الرجل الواحد في المجلس الواحد، فحينئذٍ: لو كان المطلوب من كليهما صرف الوجود وقلنا أن المؤمنة قيد صح كلامه، أما لو قلنا ان المؤمنة مشير إلى الأفضل (أو الغالب) صح كلام السيد المرتضى (قدس سره)، فكون المطلوب صِرف الوجود أعم من المدعى ومن نقيضه. فتدبر جيداً واغتنم والله العالم.
الموجز: حاصل الإشكال الثاني: ان قوله (قدس سره): (وذلك لأن قوله: أعتق رقبة مؤمنة ـ يقتضي إيجاد صرف وجود عتق الرقبة المؤمنة)[7]، يرد عليه: ان قوله اعتق رقبة مؤمنة لا يقتضي إيجاد صِرف وجود الرقبة المؤمنة بل يقتضي إيجاد أحد أفرادها على سبيل البدل أي يقتضي إيجاد الفرد البدلي.
وحاصل الإشكال الثالث ان قوله (اعتق رقبة مؤمنة)، لا يصح أن يلاحظ أولاً، وكأصلٍ، كي يتم كلامه اللاحق، بل يجب أن يلاحظ مع (اعتق رقبة) في عرض واحد، فإذا لوحظا معاً فإن كون المطلوب صِرف الوجود كما يمكن أن يتمصدق في الرقبة المؤمنة (على فرض وجود دليل على ان مؤمنة قيد احترازي، ولاحظ قولنا: على فرض، أي ليس نفس صِرف الوجود دالاً) كذلك يمكن أن يتمصدق في أي فرد من أفراد الرقبة أي مطلق الرقبة (على فرض ان المؤمنة ذكر لأنه الأفضل) وحيث اننا في طور البحث ولا نعلم أن مؤمنة قيد احترازي أو غالبي، فلا نعلم ان الوجود الصِرف المطلوب للمولى يتمصدق في ماذا. فكونه وجوداً صرفاً أجنبي عن الدلالة على هذا القول أو ذاك.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((أَلَا إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ اثْنَانِ: طُولُ الْأَمَلِ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى، أَلَا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ أَدْبَرَتْ وَآذَنَتْ بِانْقِلَاعٍ، أَلَا وَإِنَّ الْآخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَآذَنَتْ بِاطِّلَاعٍ، أَلَا وَإِنَّ الْمِضْمَارَ الْيَوْمَ وَالسِّبَاقَ غَداً، أَلَا وَإِنَّ السُّبْقَةَ الْجَنَّةُ وَالْغَايَةَ النَّار...)) تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله) ص152.
أسئلة:
- اشرح بأسلوبك المعاني الثلاثة لصرف الوجود.
- أوضح إشكالنا الثاني على المحقق النائيني.
- هل يوجد وجه لملاحظة المقيد أوّلاً؟
__________________________
[1] الدرس (1083/63).
[2] وهو مسامحي.
[3] الدرس (1083/63).
[4] كَمٌ، وكيفٌ، وضعُ، اينٌ، له، متى فِعلٌ، مضافٌ، وانفعالٌ ثبتا
[5] وإنما هي مجرد مقارنات.
[6] والأدق، ككل نكرة.
[7] فوائد الأصول: ج1 ص581.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
تتمة الإشكال الأول
سبق: (ومصطلح صِرف الوجود مصطلح فلسفي له معنى محدد لا ينطبق على المقام اصلاً إلا مع تغييره إلى معنى آخر كما سيأتي، فإن الوجود الصرف، حسب تعريفهم له، لا يمكن انطباقه إلا على الله تعالى)، و(وهو كما ترى لا مجال لاستعماله في الرقبة وغيرها، نعم مع تغييره إلى معنى آخر، ممكن وسيأتي، ويأتي بيان ما فيه)[1].
1- المعاني الثلاثة لصِرف الوجود
وتحقيقه وتوضيح الإشكال هو: أنّ صِرف الوجود يمكن أن يفسر بأنحاء ثلاثة:
الوجود الذي لا يتقوّم بأمر ولا يتغيّر.. إلخ
الأول: ما سبق من انه (الذي لا يمكن أن يكون متكثراً أو متغيراً أو متقوّماً بسبب) وهذا هو الذي لا ينطبق إلا على واجب الوجود جل اسمه، بيانه: ان كل موجود ممكن فإنه لا يعقل كونه صِرف الوجود بهذا المعنى، لأن كل موجود ممكن متقوِّم بغيره، أي بعلته، كما انه متغير في ذاته، فليس صِرف الوجود؛ إذ هو وجود متقوم في ذاته بغيره؛ لأن وجود الممكن مرتهن بعلته آناً فآناً حدوثاً وبقاءً، لا انه إذا خلقه الله تعالى استغنى عنه بل هو في كل آن محتاج إلى استمرار فيضه تعالى عليه، ولذا لو انقطعت إفاضته وإيجاده انتهى وجود مخلوقه وعُدِم وفنى، ومثاله المقرب إلى الذهن: الكهرباء التي تشعل المصابيح فإنها مادامت مستمرة في التدفق في الأسلاك يضيء المصباح فإذا ضَغَطّتَ القابس وأغلقته انطفأ، والمثال للتقريب طبعاً، وكذلك مثال النهر إذ يبدو الماء الجاري أمامك واحداً لكنه في الواقع ماء آخر متصل بما سبقه ولحقه، فكذلك عمر الإنسان وسائر المخلوقات فإنه وجود واحد متصل لكن وجوده في كل آن غير وجوده في الآن السابق (إذ وجوده في الآن السابق من الماضي وهو معدوم الآن قطعاً، وهو موجود بوجوده الحالي فقط) والمثال الآخر الأوضح: الحركة...
والحاصل: ان كل موجود ممكن متغير آناً فآناً كما ظهر، ولذا قالوا: العالم متغير وكل متغير حادث.
وعليه: فإنه لا شيء من الوجودات الممكنة بصِرف الوجود إذ:
1- هو وجود متقوم بغيره في ذاته وليس محض الوجود بل تقومه بغيره عينه، لا انه صفة خارجة عنه وإلا لما كان في ذاته متقوماً بغيره هذا خلف.
2- كما انه وجود متغير في ذاته.
وهذا المعنى من صِرف الوجود هو الذي لا يتكرر ولا يتثنى، لا الثالث الآتي كما سيظهر.
الوجود من دون ضمائم
الثاني: ما سبق: (وأما التعريف[2]: فإن صرف الوجود يعني نفس وجود الشيء، أو وجود الطبيعي، من دون ضمائم من مشخصات فردية أو أوصاف أو غير ذلك من عموم واستغراق وغير ذلك)[3]، ولكن لا يوجد ممكن متصف بصِرف الوجود بهذا المعنى؛ وذلك لأن كل موجود ممكن فإنه قهراً مكتنف بالمشخصات الفردية، إذ يستحيل وجود المادة بدون مكان وزمان وكم وكيف ووضع وأين... إلخ، أي من دون الأعراض التسعة المعروفة[4]، وحتى الطاقة كالنور والصوت والجاذبية والأشعة الكهرومغناطيسية وغيرها فإن لها مكاناً وزماناً... إلخ وأما المجردات فلم يثبت وجود مجرد سوى الله تعالى.
وعلى أي، فإن المادة والطاقة محتّفة قهراً بالخصوصيات إذ لا يعقل وجود إنسان مثلاً إلا في مكان وزمان مع نسبة إلى الأطراف... إلخ.
الوجود من دون لحاظ الضمائم
الثالث: نفس التعريف مع إضافة كلمة (لحاظ) أي (أن يراد بصِرف الوجود، وجود الشيء أو الطبيعة من دون لحاظ الضمائم والمشخصات).
ووجه عدم لحاظها هو عدم مدخليتها في غرضه، فمثلاً يقول: أكرم عالماً أو اعتق رقبة، فيكون مصب حكمه العام البدلي من دون لحاظ الضمائم ككونه جالساً أو واقفاً، طويلاً أو قصيراً.. إلخ، لا لأنها غير متحققة معه (إذ تحققها على سبيل البدل قهري كما سبق) بل لأنها غير دخيلة في غرضه.
المعنى الثالث لا بد انه المراد له (قده) لكنه لا ينفعه
فهذا المعنى الثالث هو الذي ينبغي أن يكون مقصود المحقق النائيني (قدس سره) فإذا قصده صح موضوعاً لكنه لا ينفعه حكماً؛ إذ صِرف الوجود بهذا المعنى يتكرر ويتثنى، وذلك لأنه ينطبق على جميع أفراد الطبيعة مادام المولى لم يلاحظ (لاحظ قولنا لم يلاحظ) الضمائم كشرط أو قيد في ثبوت حكمه[5] نظراً لعدم مدخليته في غرضه.
بعبارة أخرى: متعلق حكمه (وهو عالماً أو رقبةً) لا بشرط بالنسبة إلى الضمائم والمشخصات، وليس بشرط شيء ولا بشرط لا، واللابشرط يجتمع مع ألف شرط، فهذا المتعلق أو الموضوع والكلي الطبيعي اللابشرطي يتكرر ويتعدد، وبتكرره وتعدده يتكرر ويتعدد الحكم المتعلق به إذ كلاهما انحلالي، أي انه كما ان الموضوع (عالماً) ينطبق على الأفراد جميعاً ولكن على سبيل البدل فكذلك الحكم (أكرم) يحمل عليها جميعاً بنفس الوزان، فإن صِرف وجوده (بالمعنى الثالث) يتعدد ويتكرر لا بنوعه بل بشخصه.
بوجه آخر: كل فرد من أفراد المطلق البدلي يتعلق به فرد من أفراد الإكرام البدلي، بل يستحيل أن يقوم فرد الإكرام القائم بعالم قائماً بعالم آخر إذ لا يكون فرداً إلا إذا تشخص فإذا تشخص استحال أن ينطبق على الغير لكنه مادام غير متشخص (في مرحلة اللحاظ الذهني) فإنه، ككل كل طبيعي[6] يقبل الانطباق على كثيرين.
2- المحتملات ثلاثة: صِرف الوجود إما مطلق الوجود أو الوجود البدلي
ثانياً: سلّمنا، (انّ صِرف الوجود بالمعنى الثالث أيضاً لا يتكرر ولا يتثنى... إلخ)، لكن يوجد هنا شق ثالث قد غُفل عنه إذ الاحتمالات ثلاثة:
1- مطلق الوجود وهو الذي مثلوا له بـ (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ)، لأنه منحل بعدد الأفراد.
2- وصِرف الوجود وهو الذي مثلوا له باعتق رقبة.
3- والوجود البدلي أي أحد الأفراد على سبيل البدل.
ومن الواضح ان المولى إذا قال اعتق رقبة فإن مطلوبه هو اعتق أحد الأفراد على سبيل البدل دون المعنى الثاني، (إلا إذا أرجع إليه – فدقق) وأحد الأفراد على سبيل البدل، متعدد متكرر، وليس واحداً لنضطر إلى القول بإرجاع صِرفي الوجود إلى أمر واحد، بل انه يتعدد بتعدد الأفراد المفترضة.
لا يقال: أحد الأفراد على سبيل البدل لا وجود له في الخارج؟
إذ يقال: إما نقضاً، فكذلك صِرف الوجود بالمعنيين الثاني والثالث، أما الثاني، فلما سبق وأما الثالث فلأنه قد أخذ فيه اللحاظ، واللحاظ لا محالة ذهني وكذا ما أخذ فيه ظرفاً أو قيداً.
وأما حلاً: فلأن معنى مطلوبية أحد الأفراد على سبيل البدل هو أن المولى إذا قال: اعتق رقبة أو أكرم عالماً هو: انني أطلب منك إيجاد أحد الأفراد من غير تقييد بمشخصات معينة من لون وحجم ومكان و... إلخ، وما يوجد في الخارج ينطبق عليه عنوان انتزاعي هو عنوان أحد الأفراد أي: أن أحد الأفراد المطلوب إيجاده ليس المطلوب إيجاده ليكون المتحقق في الخارج أحد الأفراد، بل ليكون الموجَد فرد مشخص ينطبق عليه وعلى سائر الأفراد، عنوان أحد الأفراد المأخوذ في عالم الأمر والذهن متعلَّقاً للحكم.
3- يجب أن يلاحظ المقيد والمطلق في عرض واحد
ثالثاً: سلّمنا (انّ صِرف الوجود بالمعنى الثالث مطلوب، وانه ليس أحد الأفراد.. إلخ)، لكن نقول مع ذلك يبقى كلامه (قدس سره) مصادرة، إذ ان كلامه إنما يصح لو لاحظ (اعتق رقبة مؤمنة) باعتبارها الأصل، وقال بأن مؤمنة قيد احترازي لا غالبي ولا من باب أفضل الأفراد، فعلى هذه المفترضات التي هي عين محل النزاع يبنى انه مادام المطلوب صِرف الوجود وهو يتحقق بعتق الرقبة المؤمنة خاصة (لفرضه انها قيد)، فلا بد أنّ صِرف الوجود في (اعتق رقبة) يتمصدق فيها لا في فرد آخر من أفراد الرقبة (أي الكافرة) وإلا لزم التكرر والتثني في صرف الوجود.
لكنّ هذا هو عين المدعى وهو نفس محل الكلام والنزاع، إذ من يقول بأن (مؤمنة) ذكرت لأنها الفرد الأفضل أو ان (اغسل بالماء) ذكر لأنه الفرد الغالب، له أن يقول ان صِرف الوجود يتمصدق في أي فرد كان من الرقبة فإذا جاء اعتق رقبة مؤمنة وحملنا مؤمنة على الفرد الغالب تمصدق أمرها في أي فرد من أفراد الرقبة.
بعبارة أخرى: إنما يصح كلامه لو لاحظنا (اعتق رقبة مؤمنة) وحدها واعتبرناها الأصل أما لو لاحظنا (اعتق رقبة مؤمنة) و(اعتق رقبة) في عرض واحد، لأن كلامهم (عليهم السلام) ككلام الرجل الواحد في المجلس الواحد، فحينئذٍ: لو كان المطلوب من كليهما صرف الوجود وقلنا أن المؤمنة قيد صح كلامه، أما لو قلنا ان المؤمنة مشير إلى الأفضل (أو الغالب) صح كلام السيد المرتضى (قدس سره)، فكون المطلوب صِرف الوجود أعم من المدعى ومن نقيضه. فتدبر جيداً واغتنم والله العالم.
الموجز: حاصل الإشكال الثاني: ان قوله (قدس سره): (وذلك لأن قوله: أعتق رقبة مؤمنة ـ يقتضي إيجاد صرف وجود عتق الرقبة المؤمنة)[7]، يرد عليه: ان قوله اعتق رقبة مؤمنة لا يقتضي إيجاد صِرف وجود الرقبة المؤمنة بل يقتضي إيجاد أحد أفرادها على سبيل البدل أي يقتضي إيجاد الفرد البدلي.
وحاصل الإشكال الثالث ان قوله (اعتق رقبة مؤمنة)، لا يصح أن يلاحظ أولاً، وكأصلٍ، كي يتم كلامه اللاحق، بل يجب أن يلاحظ مع (اعتق رقبة) في عرض واحد، فإذا لوحظا معاً فإن كون المطلوب صِرف الوجود كما يمكن أن يتمصدق في الرقبة المؤمنة (على فرض وجود دليل على ان مؤمنة قيد احترازي، ولاحظ قولنا: على فرض، أي ليس نفس صِرف الوجود دالاً) كذلك يمكن أن يتمصدق في أي فرد من أفراد الرقبة أي مطلق الرقبة (على فرض ان المؤمنة ذكر لأنه الأفضل) وحيث اننا في طور البحث ولا نعلم أن مؤمنة قيد احترازي أو غالبي، فلا نعلم ان الوجود الصِرف المطلوب للمولى يتمصدق في ماذا. فكونه وجوداً صرفاً أجنبي عن الدلالة على هذا القول أو ذاك.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((أَلَا إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ اثْنَانِ: طُولُ الْأَمَلِ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى، أَلَا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ أَدْبَرَتْ وَآذَنَتْ بِانْقِلَاعٍ، أَلَا وَإِنَّ الْآخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَآذَنَتْ بِاطِّلَاعٍ، أَلَا وَإِنَّ الْمِضْمَارَ الْيَوْمَ وَالسِّبَاقَ غَداً، أَلَا وَإِنَّ السُّبْقَةَ الْجَنَّةُ وَالْغَايَةَ النَّار...)) تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله) ص152.
أسئلة:
- اشرح بأسلوبك المعاني الثلاثة لصرف الوجود.
- أوضح إشكالنا الثاني على المحقق النائيني.
[2] وهو مسامحي.
[3] الدرس (1083/63).
[4] كَمٌ، وكيفٌ، وضعُ، اينٌ، له، متى فِعلٌ، مضافٌ، وانفعالٌ ثبتا
[5] وإنما هي مجرد مقارنات.
[6] والأدق، ككل نكرة.
[7] فوائد الأصول: ج1 ص581.