بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(106)
جريان البحث في قسمي الشبهة المفهومية فيما بين المغربين
تتمة: يجري ما مضى من الكلام في الشبهة الحكمية المفهومية بنوعيها، في صوم نهار شهر رمضان، وأنّه لو شكَّ في صدق النهار على ما بين غروب الشمس والمغرب، بنحو الشبهة المفهومية، فهل يجري الاستصحاب؟ وأنه لا يجري في صورة دون أخرى.
ولتوضيح ذلك لا بدَّ من تمهيد مقدمة، وهي: هل يجري الاستصحاب في الزمان والزمانيّات، كالحركة وجريان الماء والقراءة وخروج الدم من الرحم، وحتى الكَوْن في المسجد ونحوه؟
قد يُقال بالعدم، وذلك لأن الزمان والزمانيّات عبارة عن وجودات متكثّرة متعدّدة متصرّمة، تبدو لشدَّة تلاصقها وتجاورها واحدة، إلا أنّ الواقع هو أن الآنَ الأوَّل من النهار غير الآنَ الثاني والثالث وهكذا، بل لكلٍّ وجودٌ مستقل، لكنها متجاورة متلاصقة فتبدو أمراً واحداً، بل إنَّ وجود كلِّ جزءٍ متقوِّمٌ بانصرام الجزء الآخر (السابق)، وكذا النهر، فإنَّه يتشكَّل من قطرات كثيرة جداً متلاصقة، ولذا ليس الجاري أمامك بعد ثانية هو نفس الجاري الذي سبقها.
وكذا خروج الدم من الرحم في الحيض مثلاً، فإنَّه يتدفَّق ويخرج شيئاً فشيئاً، وأوضح منها القراءة، كقراءة سورة الحمد، لوضوح أنّ كلَّ كلمة، بل كلَّ حرفٍ، له وجودٌ آخر غير وجود الكلمة والحرف السابقين، وكذا الحركة ونظائرها.
ووجه دعوى عدم جريان الاستصحاب: إشتراط وحدة القضيتين المتيقنة والمشكوكة ومع مغايرة أجزاء الزمان والزمانيات بعضها لبعض، لما سبق ويأتي، لا اتحاد.
والصحيح: جريانه، وذلك إما لاتحادها ثبوتاً أو لاتحادها عرفاً واعتباراً.
أما الأول، فهو الصحيح من أنّ الزمان والحركة ونظائرهما كمّ متصل غير قار، وإنها وجود واحد ممتد لا وجودات متعددة وكذا النهار والليل واليوم والشهر، وهكذا، فإنه وجود واحد ممتد طويل، لا إنه وجودات كثيرة متعددة لكن متلاصقة ولا تؤثر تعدد التسميات (كالجمعة والسبت و...) في كونها أمراً واحداً متصلاً، بل حتى الماء الجاري فإنه وجود واحد ممتد بالفعل وإن أمكن، بالقوة، تفكيكه إلى أجزاء إلا أنه بالفعل وجود واحد متصل، وعليه: فقد اتحدت القضيتان.
ثم إنه لو سلمنا عدم الوحدة حقيقةً، فإنّ الوحدة عرفاً أو اعتباراً كافية، لأن روايات الاستصحاب ملقاة إلى العرف وهو يرى صدق النقض إذا لم يبنِ على بقاء الوجود السابق إذ يرون النهار أمراً واحداً طويلاً وكذا ماء النهر الجاري... إلخ، وأما القراءة فلها وجود اعتباري واحد هو المستصحب وكذا الوضوء فإنّه رغم أنّ غسل اليد غير غسل الوجه إلا أن عنوان الوضوء واحد اعتباري يجري استصحابه إذا شك في نقضه بالخفقة مثلاً.
إذا تمَّ ذلك نقول: لا مشكلة في استصحاب النهار بعد الغروب وقبل المغرب، من هذه الجهة بل المشكلة من جهة أخرى وهي بقاء المعروض وعدمه إذ إنّه:
أ- يجري الاستصحاب إن قيل بأن معروض الوجوب هو الصوم وأنّ نهار رمضان ظرف أو شرط وأنّ المجموع هو موضوع الوجوب لا معروضه ففي (صوم نهار رمضان، واجب) يقال: إنّ الوجوب قائم بالصوم والنهارية علّة ثبوت الوجوب له، أو حِكمة أو شرط أو ظرف، وذلك لأن المعروض باقٍ على الفرض[1] والشك إن نشأ من تغير جزء الموضوع (وأنه لا يُعلم بين الغروب والمغرب إن النهار الذي هو الجزء لموضوع الدليل باقٍ أم لا فنستصحب).
ب- ولكن، لا يجري الاستصحاب لو قلنا بأن معروض الوجوب ليس الصوم مجرداً بل (صوم نهار رمضان) هو معروض الوجوب أي أن المعروض يتشكل من جزئين: من المضاف والمضاف إليه وأنّ النهار ليس ظرفاً ولا شرطاً بل هو قيد والتقيّد به جزء، وأنّ العلّة هي دخول شهر رمضان أو شهود دخوله (لا نهاره) لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[2]، وغيره، وانّه بين المغربين يشك في بقاء جزء من المعروض، فلم تتحد القضيتان إذ الكل معدوم بعدم جزئه، ومع الشك فيه يشك في صدق النقض ولا يصح الت مسك بالعام في الشبهة المصداقية.
ويبقى الأمر منوطاً باستظهار الفقيه من الأدلة أن النهار ظرف أو شرط أو قيدٌ وجزء.
هل الكرّ المجهول أنه مطلق أو مضاف ينجس بالملاقاة؟
وبذلك ننهي الكلام في هذه المسألة وننتقل إلى المسألة التالية في تتمة كلام صاحب العرة إذ قال: (مسألة 5: إذا شكّ في مائع أنّه مضاف أو مطلق فإن علم حالته السابقة أُخذ بها وإلّا فلا يحكم عليه بالإطلاق ولا بالإضافة، لكن لا يرفع الحدث والخبث، وينجس بملاقاة النجاسة إن كان قليلاً، وإن كان بقدر الكر لا ينجس، لاحتمال كونه مطلقاً والأصل الطّهارة).
رأي المشهور الطهارة:
فيقع الكلام في آخر الصُّوَر وهي: ما لو شك في سائل أنه مطلق أو مضاف ولم تكن له حالة سابقة أو لم تُعلم، أو تعاقبت الحالتان أو كانت في أحد طرفي العلم الإجمالي فإنه إذا كان بقدر الكر فقد ذهب صاحب العروة ومعظم المعلقين عليها، إذ سكتوا عنه، إلى أنه لا ينجس بملاقاته للنجاسة؛ نظراً لقاعدة الطهارة؛ إذ إنّه إن كان كراً مطلقاً فهو معتصم لا ينجس وإن كان كراً مضافاً فغير معتصم وينجس، وحيث شك أنه مطلق أو كر فقد شك حين ملاقاته النجاسة أنه تنجس أو لا فتجري القاعدة إذ «كُلُّ شَيْءٍ نَظِيفٌ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهُ قَذِرٌ»[3].
رأي الشيخ النجاسة:
لكنّ الشيخ الأنصاري وجمع من الفقهاء رفضوا ذلك وحكموا بالنجاسة استناداً إلى القاعدة العامة التي أسسوها وهي أنّ (الأصل في ملاقي النجس النجاسة) أي القاعدة (أنّ ملاقي النجس متنجس) وقد خرج منها الكر المطلق لإحراز أنه معتصم إذ «أَنَّهُ إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ كُرّاً لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ»[4] فبقي تحتها كل مشكوك كالكر الذي لا يعلم أنه مطلق أو مضاف..
أدلة الشيخ:
وقد استدل الشيخ (قدس سره) على ذلك بثلاثة أدلة قال: (وهو قد يكون واضحاً، وقد يكون خفيّاً على العرف للشكّ في اندراج هذا الفرد تحت المطلق أو المضاف، فيجب حينئذ الرجوع إلى الأصول ومقتضاها انفعاله بالملاقاة ولو كان كثيراً، لأنّ الأصل في ملاقي النجس النجاسة، ولذا استدلّ في الغنية على نجاسة الماء القليل بالملاقاة بقوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[5] لأنّ[6] المركوز في أذهان المتشرّعة اقتضاء النجاسة في ذاتها للسراية، كما يظهر بتتبّع الأخبار، مثل قوله (عليه السلام) في الرّد على من قال: لا أدع طعامي من أجل فأرة ماتت فيه: «وَإِنَّمَا اسْتَخْفَفْتَ بِدِينِكَ، إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمَيْتَةَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ»[7] فإنّ أكل الطعام المذكور لا يكون استخفافاً بحكم الشارع بحرمة الميتة - يعنى نجاستها - إلّا من جهة ما هو المركوز في الأذهان من استلزام نجاسة الشيء لنجاسة ما يلاقيه.
ويدلّ عليه أيضاً أنّ المستفاد من أدلّة كرّية الماء: أنّها عاصمة عن الانفعال، فعلم أنّ الانفعال مقتضى نفس الملاقاة، فإذا شكّ في إطلاق مقدار الكرّ وإضافته لم يتحقّق المانع عن الانفعال، والمفروض وجود المقتضي له، نظير الماء المشكوك في كرّيته مع جهالة حالته السابقة.
ومن جميع ما ذكرنا يظهر ضعف التمسّك في المقام بأصالة عدم الانفعال)[8].
وإيضاحه في ضمن نقاط:
الأولى: أنّه (قدّس سرّه) ارتأى أنّ الأصل، أي القاعدة العامة في ملاقي النجس، هو النجاسة، ولنعبر عنها بـأصالة نجاسة ملاقي النجس.
الثانية: أنّه أصلٌ حاكمٌ على أصالة عدم الانفعال.
الثالثة: أنّه استدل على ذلك بأدلّة ثلاثة:
وجه الاستدلال بـ {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}
الأول: قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}، وذلك لأن الرُّجْز هو الرِّجْس، لأن أصل الزاي هو السين، فهو من باب الإبدال كما صرَّح به ابن فارس في المعجم وغيره.
وقال الجوهري: (الرُّجز هو القذر مثل الرِّجس)، وعبَّر بعضهم بـ(ما يُستقذر)، وعمَّمه قومٌ للقذر المعنوي، كالذَّنْب وكالصنم، وفسَّروا الآية الكريمة به، لكن الظاهر أنه تفسير بالمصداق، وقال بعضٌ بأن الرُّجز والرِّجس والقذر يشمل ما كان كذلك لدى الشرع أو العقلاء أو العرف العام، أو ما استقذره الطبع، كما أنّ الرجس فسر باللعنة والعذاب والعقاب... إلخ.
وليس الكلام الآن في تحقيق ذلك كلّه، بل في أن من استدل بالآية الكريمة على أصالة نجاسة ملاقي النجس بنى على مقدمتين:
أنّ الرُّجز يُراد به القذر، سواء أُريد هو بخصوصه أو بما يعمّه، وأنّ القذر يُراد به الشرعي، أو الواقعي أو العرفي مع البناء على مساواته للشرعي[9]، أو أنه يُراد به الأعم.
وأنّ هجر الرجز = القذر، مطلق، فيشمل هجر ملاقيه، فهذا هو الأصل، وقد خرج منه الكرُّ المطلق حتماً، فيبقى الكرُّ المشكوك إطلاقه وإضافته.
وجه الاستدلال بالارتكاز
الثاني: المرتكز في أذهان المتشرِّعة.
وحيث أنّ من الواضح أن الارتكاز لُبِّي، يُقتصر فيه على القدر المتيقَّن، فلا يُعلم شموله للمقام، لذلك أرجعه الشيخ إلى الأخبار، أي إنه استفاد القاعدة من الأخبار، والارتكاز إنما أعان على فهم بعض المقدِّمات المطويّة، فإنّ المرتكز هو الذي أوضح المراد من الرواية، كما قال: (فإنّ أكل الطعام المذكور لا يكون استخفافاً بحكم الشارع بحرمة الميتة - يعنى نجاستها - إلّا من جهة ما هو المركوز في الأذهان من استلزام نجاسة الشيء لنجاسة ما يلاقيه).
والحاصل: أنّ الكلام عن النجاسة، أي عن جواز أكل الطعام من جهة تنجسه بالفأرة، والإمام (عليه السلام) أجاب بقاعدة عامَّة عن الحرمة: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمَيْتَةَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ»، فوجه الربط هو أن الميتة لما كانت محرَّمة كانت نجسة، فذلك مبنى كلامه (عليه السلام)، وحيث كانت نجسة نجَّست كل ما يُلاقيها، فهذا ما يفهمه المتشرِّعة بارتكازهم، فأنتج ذلك لزوم تجنُّب ما وقعت فيه الفأرة الميتة لنجاسته، فهي قاعدة عامَّة إذاً تفيد أنّ الأصل في النجس منجِّسيته لغيره بالملاقاة... وللبحث صِلة بإذن الله تعالى.
سُئِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (علية السلام) «أَيُّ ذَنْبٍ أَعْجَلُ عُقُوبَةً لِصَاحِبِهِ؟، فَقَالَ: مَنْ ظَلَمَ مَنْ لَا نَاصِرَ لَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَجَاوَرَ النِّعْمَةَ بِالتَّقْصِيرِ وَجَاوَرَ بِالْبَغْيِ عَلَى الْفَقِيرِ»
الاختصاص: ص234.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
__________________________
[1] في كلا المثالين: اذا كان صائماً طول اليوم ولا يزال صائماً بين المغربين، أو كان الصوم متحققاً مفهومُهُ طول اليوم والآن نستصحبه ونحن بين المغربين.
[2] سورة البقرة: 185.
[3] تهذيب الأحكام: ج1 ص285.
[4] تهذيب الأحكام: ج1 ص150.
[5] سورة المدثر: 5.
[6] لا يبعد سقوط الواو (ولأنّ) وإن صح مع عدمها.
[7] تهذيب الأحكام: ج1 ص420.
[8] الشيخ الأنصاري، كتاب الطهارة، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص292-293.
[9] أو أنه لا يوجد قذر شرعي، بل واقعي والشارع كاشف عنه.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
جريان البحث في قسمي الشبهة المفهومية فيما بين المغربين
تتمة: يجري ما مضى من الكلام في الشبهة الحكمية المفهومية بنوعيها، في صوم نهار شهر رمضان، وأنّه لو شكَّ في صدق النهار على ما بين غروب الشمس والمغرب، بنحو الشبهة المفهومية، فهل يجري الاستصحاب؟ وأنه لا يجري في صورة دون أخرى.
ولتوضيح ذلك لا بدَّ من تمهيد مقدمة، وهي: هل يجري الاستصحاب في الزمان والزمانيّات، كالحركة وجريان الماء والقراءة وخروج الدم من الرحم، وحتى الكَوْن في المسجد ونحوه؟
قد يُقال بالعدم، وذلك لأن الزمان والزمانيّات عبارة عن وجودات متكثّرة متعدّدة متصرّمة، تبدو لشدَّة تلاصقها وتجاورها واحدة، إلا أنّ الواقع هو أن الآنَ الأوَّل من النهار غير الآنَ الثاني والثالث وهكذا، بل لكلٍّ وجودٌ مستقل، لكنها متجاورة متلاصقة فتبدو أمراً واحداً، بل إنَّ وجود كلِّ جزءٍ متقوِّمٌ بانصرام الجزء الآخر (السابق)، وكذا النهر، فإنَّه يتشكَّل من قطرات كثيرة جداً متلاصقة، ولذا ليس الجاري أمامك بعد ثانية هو نفس الجاري الذي سبقها.
وكذا خروج الدم من الرحم في الحيض مثلاً، فإنَّه يتدفَّق ويخرج شيئاً فشيئاً، وأوضح منها القراءة، كقراءة سورة الحمد، لوضوح أنّ كلَّ كلمة، بل كلَّ حرفٍ، له وجودٌ آخر غير وجود الكلمة والحرف السابقين، وكذا الحركة ونظائرها.
ووجه دعوى عدم جريان الاستصحاب: إشتراط وحدة القضيتين المتيقنة والمشكوكة ومع مغايرة أجزاء الزمان والزمانيات بعضها لبعض، لما سبق ويأتي، لا اتحاد.
والصحيح: جريانه، وذلك إما لاتحادها ثبوتاً أو لاتحادها عرفاً واعتباراً.
أما الأول، فهو الصحيح من أنّ الزمان والحركة ونظائرهما كمّ متصل غير قار، وإنها وجود واحد ممتد لا وجودات متعددة وكذا النهار والليل واليوم والشهر، وهكذا، فإنه وجود واحد ممتد طويل، لا إنه وجودات كثيرة متعددة لكن متلاصقة ولا تؤثر تعدد التسميات (كالجمعة والسبت و...) في كونها أمراً واحداً متصلاً، بل حتى الماء الجاري فإنه وجود واحد ممتد بالفعل وإن أمكن، بالقوة، تفكيكه إلى أجزاء إلا أنه بالفعل وجود واحد متصل، وعليه: فقد اتحدت القضيتان.
ثم إنه لو سلمنا عدم الوحدة حقيقةً، فإنّ الوحدة عرفاً أو اعتباراً كافية، لأن روايات الاستصحاب ملقاة إلى العرف وهو يرى صدق النقض إذا لم يبنِ على بقاء الوجود السابق إذ يرون النهار أمراً واحداً طويلاً وكذا ماء النهر الجاري... إلخ، وأما القراءة فلها وجود اعتباري واحد هو المستصحب وكذا الوضوء فإنّه رغم أنّ غسل اليد غير غسل الوجه إلا أن عنوان الوضوء واحد اعتباري يجري استصحابه إذا شك في نقضه بالخفقة مثلاً.
إذا تمَّ ذلك نقول: لا مشكلة في استصحاب النهار بعد الغروب وقبل المغرب، من هذه الجهة بل المشكلة من جهة أخرى وهي بقاء المعروض وعدمه إذ إنّه:
أ- يجري الاستصحاب إن قيل بأن معروض الوجوب هو الصوم وأنّ نهار رمضان ظرف أو شرط وأنّ المجموع هو موضوع الوجوب لا معروضه ففي (صوم نهار رمضان، واجب) يقال: إنّ الوجوب قائم بالصوم والنهارية علّة ثبوت الوجوب له، أو حِكمة أو شرط أو ظرف، وذلك لأن المعروض باقٍ على الفرض[1] والشك إن نشأ من تغير جزء الموضوع (وأنه لا يُعلم بين الغروب والمغرب إن النهار الذي هو الجزء لموضوع الدليل باقٍ أم لا فنستصحب).
ب- ولكن، لا يجري الاستصحاب لو قلنا بأن معروض الوجوب ليس الصوم مجرداً بل (صوم نهار رمضان) هو معروض الوجوب أي أن المعروض يتشكل من جزئين: من المضاف والمضاف إليه وأنّ النهار ليس ظرفاً ولا شرطاً بل هو قيد والتقيّد به جزء، وأنّ العلّة هي دخول شهر رمضان أو شهود دخوله (لا نهاره) لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[2]، وغيره، وانّه بين المغربين يشك في بقاء جزء من المعروض، فلم تتحد القضيتان إذ الكل معدوم بعدم جزئه، ومع الشك فيه يشك في صدق النقض ولا يصح الت مسك بالعام في الشبهة المصداقية.
ويبقى الأمر منوطاً باستظهار الفقيه من الأدلة أن النهار ظرف أو شرط أو قيدٌ وجزء.
هل الكرّ المجهول أنه مطلق أو مضاف ينجس بالملاقاة؟
وبذلك ننهي الكلام في هذه المسألة وننتقل إلى المسألة التالية في تتمة كلام صاحب العرة إذ قال: (مسألة 5: إذا شكّ في مائع أنّه مضاف أو مطلق فإن علم حالته السابقة أُخذ بها وإلّا فلا يحكم عليه بالإطلاق ولا بالإضافة، لكن لا يرفع الحدث والخبث، وينجس بملاقاة النجاسة إن كان قليلاً، وإن كان بقدر الكر لا ينجس، لاحتمال كونه مطلقاً والأصل الطّهارة).
رأي المشهور الطهارة:
فيقع الكلام في آخر الصُّوَر وهي: ما لو شك في سائل أنه مطلق أو مضاف ولم تكن له حالة سابقة أو لم تُعلم، أو تعاقبت الحالتان أو كانت في أحد طرفي العلم الإجمالي فإنه إذا كان بقدر الكر فقد ذهب صاحب العروة ومعظم المعلقين عليها، إذ سكتوا عنه، إلى أنه لا ينجس بملاقاته للنجاسة؛ نظراً لقاعدة الطهارة؛ إذ إنّه إن كان كراً مطلقاً فهو معتصم لا ينجس وإن كان كراً مضافاً فغير معتصم وينجس، وحيث شك أنه مطلق أو كر فقد شك حين ملاقاته النجاسة أنه تنجس أو لا فتجري القاعدة إذ «كُلُّ شَيْءٍ نَظِيفٌ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهُ قَذِرٌ»[3].
رأي الشيخ النجاسة:
لكنّ الشيخ الأنصاري وجمع من الفقهاء رفضوا ذلك وحكموا بالنجاسة استناداً إلى القاعدة العامة التي أسسوها وهي أنّ (الأصل في ملاقي النجس النجاسة) أي القاعدة (أنّ ملاقي النجس متنجس) وقد خرج منها الكر المطلق لإحراز أنه معتصم إذ «أَنَّهُ إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ كُرّاً لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ»[4] فبقي تحتها كل مشكوك كالكر الذي لا يعلم أنه مطلق أو مضاف..
أدلة الشيخ:
وقد استدل الشيخ (قدس سره) على ذلك بثلاثة أدلة قال: (وهو قد يكون واضحاً، وقد يكون خفيّاً على العرف للشكّ في اندراج هذا الفرد تحت المطلق أو المضاف، فيجب حينئذ الرجوع إلى الأصول ومقتضاها انفعاله بالملاقاة ولو كان كثيراً، لأنّ الأصل في ملاقي النجس النجاسة، ولذا استدلّ في الغنية على نجاسة الماء القليل بالملاقاة بقوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[5] لأنّ[6] المركوز في أذهان المتشرّعة اقتضاء النجاسة في ذاتها للسراية، كما يظهر بتتبّع الأخبار، مثل قوله (عليه السلام) في الرّد على من قال: لا أدع طعامي من أجل فأرة ماتت فيه: «وَإِنَّمَا اسْتَخْفَفْتَ بِدِينِكَ، إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمَيْتَةَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ»[7] فإنّ أكل الطعام المذكور لا يكون استخفافاً بحكم الشارع بحرمة الميتة - يعنى نجاستها - إلّا من جهة ما هو المركوز في الأذهان من استلزام نجاسة الشيء لنجاسة ما يلاقيه.
ويدلّ عليه أيضاً أنّ المستفاد من أدلّة كرّية الماء: أنّها عاصمة عن الانفعال، فعلم أنّ الانفعال مقتضى نفس الملاقاة، فإذا شكّ في إطلاق مقدار الكرّ وإضافته لم يتحقّق المانع عن الانفعال، والمفروض وجود المقتضي له، نظير الماء المشكوك في كرّيته مع جهالة حالته السابقة.
ومن جميع ما ذكرنا يظهر ضعف التمسّك في المقام بأصالة عدم الانفعال)[8].
وإيضاحه في ضمن نقاط:
الأولى: أنّه (قدّس سرّه) ارتأى أنّ الأصل، أي القاعدة العامة في ملاقي النجس، هو النجاسة، ولنعبر عنها بـأصالة نجاسة ملاقي النجس.
الثانية: أنّه أصلٌ حاكمٌ على أصالة عدم الانفعال.
الثالثة: أنّه استدل على ذلك بأدلّة ثلاثة:
وجه الاستدلال بـ {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}
الأول: قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}، وذلك لأن الرُّجْز هو الرِّجْس، لأن أصل الزاي هو السين، فهو من باب الإبدال كما صرَّح به ابن فارس في المعجم وغيره.
وقال الجوهري: (الرُّجز هو القذر مثل الرِّجس)، وعبَّر بعضهم بـ(ما يُستقذر)، وعمَّمه قومٌ للقذر المعنوي، كالذَّنْب وكالصنم، وفسَّروا الآية الكريمة به، لكن الظاهر أنه تفسير بالمصداق، وقال بعضٌ بأن الرُّجز والرِّجس والقذر يشمل ما كان كذلك لدى الشرع أو العقلاء أو العرف العام، أو ما استقذره الطبع، كما أنّ الرجس فسر باللعنة والعذاب والعقاب... إلخ.
وليس الكلام الآن في تحقيق ذلك كلّه، بل في أن من استدل بالآية الكريمة على أصالة نجاسة ملاقي النجس بنى على مقدمتين:
أنّ الرُّجز يُراد به القذر، سواء أُريد هو بخصوصه أو بما يعمّه، وأنّ القذر يُراد به الشرعي، أو الواقعي أو العرفي مع البناء على مساواته للشرعي[9]، أو أنه يُراد به الأعم.
وأنّ هجر الرجز = القذر، مطلق، فيشمل هجر ملاقيه، فهذا هو الأصل، وقد خرج منه الكرُّ المطلق حتماً، فيبقى الكرُّ المشكوك إطلاقه وإضافته.
وجه الاستدلال بالارتكاز
الثاني: المرتكز في أذهان المتشرِّعة.
وحيث أنّ من الواضح أن الارتكاز لُبِّي، يُقتصر فيه على القدر المتيقَّن، فلا يُعلم شموله للمقام، لذلك أرجعه الشيخ إلى الأخبار، أي إنه استفاد القاعدة من الأخبار، والارتكاز إنما أعان على فهم بعض المقدِّمات المطويّة، فإنّ المرتكز هو الذي أوضح المراد من الرواية، كما قال: (فإنّ أكل الطعام المذكور لا يكون استخفافاً بحكم الشارع بحرمة الميتة - يعنى نجاستها - إلّا من جهة ما هو المركوز في الأذهان من استلزام نجاسة الشيء لنجاسة ما يلاقيه).
والحاصل: أنّ الكلام عن النجاسة، أي عن جواز أكل الطعام من جهة تنجسه بالفأرة، والإمام (عليه السلام) أجاب بقاعدة عامَّة عن الحرمة: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمَيْتَةَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ»، فوجه الربط هو أن الميتة لما كانت محرَّمة كانت نجسة، فذلك مبنى كلامه (عليه السلام)، وحيث كانت نجسة نجَّست كل ما يُلاقيها، فهذا ما يفهمه المتشرِّعة بارتكازهم، فأنتج ذلك لزوم تجنُّب ما وقعت فيه الفأرة الميتة لنجاسته، فهي قاعدة عامَّة إذاً تفيد أنّ الأصل في النجس منجِّسيته لغيره بالملاقاة... وللبحث صِلة بإذن الله تعالى.
سُئِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (علية السلام) «أَيُّ ذَنْبٍ أَعْجَلُ عُقُوبَةً لِصَاحِبِهِ؟، فَقَالَ: مَنْ ظَلَمَ مَنْ لَا نَاصِرَ لَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَجَاوَرَ النِّعْمَةَ بِالتَّقْصِيرِ وَجَاوَرَ بِالْبَغْيِ عَلَى الْفَقِيرِ»
الاختصاص: ص234.
[2] سورة البقرة: 185.
[3] تهذيب الأحكام: ج1 ص285.
[4] تهذيب الأحكام: ج1 ص150.
[5] سورة المدثر: 5.
[6] لا يبعد سقوط الواو (ولأنّ) وإن صح مع عدمها.
[7] تهذيب الأحكام: ج1 ص420.
[8] الشيخ الأنصاري، كتاب الطهارة، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص292-293.
[9] أو أنه لا يوجد قذر شرعي، بل واقعي والشارع كاشف عنه.