بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(105)
وجه كون معروض النجاسة هو الجسم
تتمة: ومن الاستطراد المفيد أن نقول: إنّ ما ذكره الفاضل الهندي، خلافاً للمشهور، من أنّ معروض النجاسة في المتنجّس هو الجسم بدون دخلٍ للصورة النوعية فيه؛ ممّا يمكن أن يُستدلّ له بوجوه، إضافةً إلى ما أشار إليه الشيخ (قدّس سرّه) من احتمال كونه معقد الإجماع، ولو بعبارة: (ولو سُلِّم)، إذ نقل عنه مصباح الفقيه[1] قوله: (مع أنّه لو سُلِّم معقد الإجماع في تقوّم النجاسة بالجسم)؛ وإن أجاب عنه بما لا نراه وارداً، ما ورد في موثقة عمار «عَنِ الرَّجُلِ يَجِدُ فِي إِنَائِهِ فَأْرَةً، وَقَدْ تَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ الْإِنَاءِ مِرَاراً، وَاغْتَسَلَ مِنْهُ أَوْ غَسَلَ ثِيَابَهُ، وَقَدْ كَانَتِ الْفَأْرَةُ مُنْسَلِخَةً.
فَقَالَ: إِنْ كَانَ رَآهَا فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ، أَوْ يَتَوَضَّأَ، أَوْ يَغْسِلَ ثِيَابَهُ، ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا رَآهَا فِي الْإِنَاءِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ ثِيَابَهُ، وَيَغْسِلَ كُلَّ مَا أَصَابَهُ ذَلِكَ الْمَاءُ، وَيُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ...»[2] ومثلها غيرها، فإنّ الموصول يراد به كل شيء أو كل جسم أصابه ذلك الماء كما هو المتبادر منه – وتمام تحقيق ذلك سيأتي في بحث استحالة المتنجس بإذن الله تعالى[3] وإنما مورد الشاهد: أنّ كلامه له وجه[4] وإن لم نقبله فرضاً.
التغير في الماء المتغير جزء الم وضوع أو جزء المعروض؟
وقد سبق: (السادس: وهو هامٌ، بل هو بيت القصيد في هذا البحث والتفصيل، أنّ الشبهة الحكمية المفهومية قسمان: فتارة: يكون الشك المفهومي، سعةً وضيقاً، في جزء الموضوع، وهذا هو الذي يجري فيه الاستصحاب؛ نظراً لبقاء المعروض، وأخرى: يكون الشك المفهومي في جزء المعروض، وهذا هو الذي لا يجري فيه، بحسب التفصيل، الاستصحاب؛ إذ لم يبق المعروض حينئذٍ لأن الكل ينعدم بانعدام جزئه)[5].
وتطبيق ذلك على المقام في الماء المتغير، الذي لا يُعلَم بنحو الشبهة المفهومية أنه مطلق أم مضاف:
إنه تارةً نقول بأن (التغيّر) في قولنا: (الماء المتغير غير مطهِّر)، أو (الماء الكر المتغير غير معتصِم)... وهكذا، جزء الموضوع؛ وأخرى نقول: إنه جزء المعروض، فيجري الاستصحاب على الأول دون الثاني:
أمّا القول بكونه جزء الموضوع دون المعروض، فهو المشهور، وهو واضح؛ إذ يُقال: (الماء المطلق مطهّر)، و(الماء المضاف غير مطهِّر)، و(الماء المتغيّر، حيث لا يُعلَم أنه مطلق أو مضاف نظراً للشبهة المفهوميّة - كما هو محلّ البحث - هل هو مطهّر أم لا؟).
فـ: أ- الإطلاق جزء الموضوع لا المعروض، وهو علّة ثبوت المطهِّريّة للماء، ووجه كونه جزء الموضوع لا المعروض: قيام المطهِّريّة بالماء نفسه.
ب- الإضافة جزء الموضوع لا المعروض، وهي علّة سلب المطهِّريّة عن الماء المضاف.
ج- الماء المتغيّر (بمنّ من الحليب مُلقىً في مثله، بحيث شُكّ مفهوماً في المركب منهما أنه ماء أو لا؟)[6]، معروضه ثابت وهو الماء، وبعض موضوعه قد تغيّر، لفرض أنه قد تغيّر[7] - فيكون المجرى مجرى الاستصحاب؛ لأن المعروض ثابت، وبعض حالاته (وهو تغيّره - الذي هو جزء الموضوع) قد تغيّر فقط، فيشمله « فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَنْقُضَ الْيَقِينَ بِالشَّكِ أَبَداً»[8] في الصحيحة.
فهذا على المشهور، وهو الوجه لإطلاق صاحب العروة (باستصحاب الحالة السابقة سواء أكانت الشبهة مصداقية أم مفهومية).
التحقيق أنّ الحكم[9] قائم بالصورة النوعية للماء
ولكن على التحقيق[10]، فإنَّ المعروض للمطهِّرية ليس هو الماء المنفكَّ عنه الإطلاق (كي يُقال: بأنَّ الإطلاق جزءُ الموضوع لا المعروض، وأنه مجرَّد علّة ثبوت الحكم، وهو المطهِّرية للمعروض)، بل المعروض للمطهِّرية هو الماء نفسه، الذي الإطلاق صورته النوعية (أو فصله)، أي: الذي الإطلاق عينه (أو فقل: جزؤه المتّحد معه لاتحاد الفصل بالجنس، والصورة بالمادة)، نظير ما قلناه من أنَّ المعروض للنجاسة ليس الجسم، بل الخشب نفسه، الذي صورته الخشبية عينه.
كما أنَّ الأمر في المضاف كذلك، فإنَّ الإضافة هي عينُ المضاف، إذ هي الصورة النوعية له، وليس أنَّ الإضافة أمرٌ خارجٌ عن المعروض وجزءٌ للموضوع، وعلّةٌ لثبوت الحكم للمعروض.
وبالمثال: الصورة الخَلّية هي عين الخل، لا أنها عارض عليه خارج عنه، لذا فإنها، بحسب المصطلح الفلسفي جوهر لا عرضا.
وعليه: فإذا شُكَّ في أنَّ (الماء المتغيّر[11]) مطلقٌ أو مضافٌ، بنحو المفهومية، فقد شُكَّ في أنه (ماءٌ) فيكون مطهِّراً، أو لا ماء = مضافٌ[12]، وهو حقيقةٌ أخرى تماماً، فإذا كان كذلك، لما صحّ التمسك بـ (لا تنقض)، لأنه يكون حينئذٍ من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية له، إذ لو كان (الماء المتغيّر) ماءً، لصدق النقض، ولو كان ضدَّه (أي مضافاً)، لما صدق النقض (لأنه معروضٌ آخر)، ولا يصح التمسك بالعام (لا تنقض) في الشبهة المصداقية للنقض.
مقارنة بين مبنى المشهور والرأي الآخر
مزيدُ توضيحٍ: إنما يصحّ كلام المشهور (من كون الإطلاق جزءَ الموضوع لا المعروض، وكونه علّةَ ثبوت الحكم للمعروض) لو كان الموضوع هكذا: (السائل المطلق مطهِّر)، (والسائل المضاف غير مطهِّر)، فالمعروض على هذا هو السائل (وهو مقسم المطلق والمضاف)، والإطلاق والإضافة خارجان عن المعروض، داخلان في الموضوع فقط.
وذلك نظير ما لو قلنا: إنَّ معروض النجاسة هو (الجسم)، وإنَّ الصورة الخشبية جزءُ الموضوع، لا المعروض.
أمّا لو قلنا، وهو مبنى[13] إشكال مَن أشكل على العروة، كـالشيخ عبد الكريم الحائري، والسيّد عبد الهادي الشيرازي، والسيّد الشريعتمداري، والشيخ الآملي، والسيّد الخوئي (قدّس سرّهم):
1- بأنَّ الإطلاق جزءٌ من المعروض، وأنَّ المعروض حقيقةً للمطهِّرية هو الماء بصورته النوعية (لا السائل)، فيكون إطلاقه عينَه لاتحاده معه، لا واسطةً في ثبوت الحكم للمعروض.
2- وأنَّ الإضافة جزءٌ من المعروض، وأنَّ المعروض حقيقةً لعدم المطهِّرية[14] هو المضاف بصورته النوعية (لا السائل) – وأنَّ الإضافة خارجةٌ عن المعروض، وإنَّما هي داخلةٌ في الموضوع فقط، وواسطةٌ في ثبوت الحكم للموضوع.
3- فلا مجالَ للاستصحاب أصلاً في الماء المتغيِّر المشكوك مفهوماً: أنّه ماء أو مضاف؟ إذ لو كان ماءً، لصدق النقض فيما لو لم نُجرِ استصحاب نجاسته أو طهارته السابقة، ولو كان مضافاً، لما صدق النقض (لأنَّ الفرض على هذا أنَّ المعروض اختلف وانه حقيقة أخرى تماماً). وحيث شُكَّ، فلا يُعلَم أنه نقض أم لا؟ فإجراء الاستصحاب فيه إذاً يكون من التمسك بالعام (لا تنقض) في الشبهة المصداقية للنقض.
ولذلك كلّه، قال في التنقيح: (هذا، وإن شئت قلنا: إنَّ استصحابَ الحكم لا يجري في الشبهات المفهومية، لأنَّه من الشبهة المصداقية لدليل حرمة نقض اليقين بالشكّ، وذلك لأجل الشكّ في بقاء موضوع الحكم وارتفاعه، فلا ندري: أنّ رفع اليد عن الحكم في ظرف الشكّ نقضٌ لليقين بالشكّ، كما إذا كان الموضوع باقياً بحاله، أو أنَّه ليس من نقض اليقين بالشكّ، كما إذا كان الموضوع مرتفعاً، وكان الموجود موضوعاً آخر غير الموضوع المحكوم بذلك الحكم، فلم يُحرز اتحاد القضيتين: المتيقَّنة والمشكوكَة، وهو معتبر في جريان الاستصحاب)[15].
أقول: أراد (قدس سر) بالموضوع المعروض، إمّا لأنّ الاستعمال فيه متداول حتى في ألسِنَةِ الأصوليين، وأمّا لأنَّه صحيحٌ واقعاً لأنَّ المعروض هو موضوع الحكم حقيقة، وإن كان جزء موضوع الدليل، فالمراد موضوع الحكم الواقعي النفس أمري الثبوتي الحامل له، لا موضوع الدليل، وإمّا مسامحة، وعلى أيٍّ، فالمقصود واضح لدى التدبّر، كما أوضحناه. وعليه: لا يصح الإشكال عليه بأنه خلط بين الموضوع والمعروض.
مثال إيضاحي مقارَن: إذا ورد: (الماء الملاقي للنجس متنجّس)، فإنَّ الملاقي (والملاقاة) جزءُ الموضوع لا المعروض، والماء هو المعروض فقط، لأن الحكم (النجاسة) قائمٌ به، والملاقاة علّةٌ لثبوت الحكم له، إذ أن الملاقاة لا يحتمل كونها جزء المعروض، عكس (التغيّر)، الذي للقول بكونه جزء المعروض لأنه صورته النوعية المفصّلة للسائل إلى نوعين مختلفين هما الماء والمضاف، وجه وجيه، كما سبق.
والحاصل: إنّه إن كان إشكالٌ، فليُشكَل على الصغرى، (بأن يُدّعى: بأنَّ المعروض هو السائل، والإطلاق جزء الموضوع فقط، ويُنكر كون المطهِّرية قائمةً بالصورة النوعية المائية، ويُدّعى أنَّها قائمةٌ بالجنس، وهو السائل، وأنَّ الإطلاق علّةٌ خارجةٌ عن المعروض فقط) لا على الكبرى.
بل نقول: ظاهر الآيات والروايات أنَّ الطهورية صفة الماء، لا صفة (السائل المطلق)، فلاحظ مثلاً قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً}[16]. وستأتي تتمّةٌ حول الغروب والمغرب، وأنَّه من قبيل المعروض، فانتظر.
عن أبي عبد الله (صلى الله عليه واله وسلم) قال: « إِنَّ الْعَالِمَ إِذَا لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ زَلَّتْ مَوْعِظَتُهُ عَنِ الْقُلُوبِ كَمَا يَزِلُّ الْمَطَرُ عَنِ الصَّفَا» الكافي: ج1 ص44.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
__________________________
[1] مصباح الفقيه: ج1 ق2 ص633.
[2] من لا يحضره الفقيه: ج1 ص20.
[3] بعض الكلام عن كلام الفاضل الهندي ومناقشة الشيخ له ومناقشته، ذكره في فقه الصادق ج5 ص197-200 كما ذكره آخرون، على أن لنا فيه كلاماً مفصلاً سيأتي بإذن الله تعالى.
[4] ومن الوجوه: أنَّ العُرف يرى المعروض نفس الجسم، لا صورته النوعية. فتأمل.
[5] الدرس (1124/104).
[6] حسب مثال التنقيح.
[7] لكن لا نعلم أنه ماء عرفاً أو ليس بماء بل مضاف وإن لم يطلق عليه الحليب أيضاً.
[8] تهذيب الأحكام: ج1 ص422.
[9] المطهِّرية.
[10] المبني عليه ما ذكره في التنقيح ج2 ص42-43.
[11] في مثل مثال المنّ من الحليب.
[12] عكس الرجل إذا شك لاحقاً في عدالته فإنه لا يشك أنه رجل أو لا رجل (أو أنه رجل أو ضد الرجل أي امرأة – أي خِلافه).
[13] بحسب ما وصل إليه الفهم القاصر في تشييده.
[14] لعدم الاتصاف بها.
[15] الشيخ ميرزا علي الغروي / تقرير أبحاث السيد أبو القاسم الخوئي، التنقيح في شرح العروة الوثقى، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي ـ قم: ج2 ص43.
[16] سورة الفرقان: 48.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
وجه كون معروض النجاسة هو الجسم
تتمة: ومن الاستطراد المفيد أن نقول: إنّ ما ذكره الفاضل الهندي، خلافاً للمشهور، من أنّ معروض النجاسة في المتنجّس هو الجسم بدون دخلٍ للصورة النوعية فيه؛ ممّا يمكن أن يُستدلّ له بوجوه، إضافةً إلى ما أشار إليه الشيخ (قدّس سرّه) من احتمال كونه معقد الإجماع، ولو بعبارة: (ولو سُلِّم)، إذ نقل عنه مصباح الفقيه[1] قوله: (مع أنّه لو سُلِّم معقد الإجماع في تقوّم النجاسة بالجسم)؛ وإن أجاب عنه بما لا نراه وارداً، ما ورد في موثقة عمار «عَنِ الرَّجُلِ يَجِدُ فِي إِنَائِهِ فَأْرَةً، وَقَدْ تَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ الْإِنَاءِ مِرَاراً، وَاغْتَسَلَ مِنْهُ أَوْ غَسَلَ ثِيَابَهُ، وَقَدْ كَانَتِ الْفَأْرَةُ مُنْسَلِخَةً.
فَقَالَ: إِنْ كَانَ رَآهَا فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ، أَوْ يَتَوَضَّأَ، أَوْ يَغْسِلَ ثِيَابَهُ، ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا رَآهَا فِي الْإِنَاءِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ ثِيَابَهُ، وَيَغْسِلَ كُلَّ مَا أَصَابَهُ ذَلِكَ الْمَاءُ، وَيُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ...»[2] ومثلها غيرها، فإنّ الموصول يراد به كل شيء أو كل جسم أصابه ذلك الماء كما هو المتبادر منه – وتمام تحقيق ذلك سيأتي في بحث استحالة المتنجس بإذن الله تعالى[3] وإنما مورد الشاهد: أنّ كلامه له وجه[4] وإن لم نقبله فرضاً.
التغير في الماء المتغير جزء الم وضوع أو جزء المعروض؟
وقد سبق: (السادس: وهو هامٌ، بل هو بيت القصيد في هذا البحث والتفصيل، أنّ الشبهة الحكمية المفهومية قسمان: فتارة: يكون الشك المفهومي، سعةً وضيقاً، في جزء الموضوع، وهذا هو الذي يجري فيه الاستصحاب؛ نظراً لبقاء المعروض، وأخرى: يكون الشك المفهومي في جزء المعروض، وهذا هو الذي لا يجري فيه، بحسب التفصيل، الاستصحاب؛ إذ لم يبق المعروض حينئذٍ لأن الكل ينعدم بانعدام جزئه)[5].
وتطبيق ذلك على المقام في الماء المتغير، الذي لا يُعلَم بنحو الشبهة المفهومية أنه مطلق أم مضاف:
إنه تارةً نقول بأن (التغيّر) في قولنا: (الماء المتغير غير مطهِّر)، أو (الماء الكر المتغير غير معتصِم)... وهكذا، جزء الموضوع؛ وأخرى نقول: إنه جزء المعروض، فيجري الاستصحاب على الأول دون الثاني:
أمّا القول بكونه جزء الموضوع دون المعروض، فهو المشهور، وهو واضح؛ إذ يُقال: (الماء المطلق مطهّر)، و(الماء المضاف غير مطهِّر)، و(الماء المتغيّر، حيث لا يُعلَم أنه مطلق أو مضاف نظراً للشبهة المفهوميّة - كما هو محلّ البحث - هل هو مطهّر أم لا؟).
فـ: أ- الإطلاق جزء الموضوع لا المعروض، وهو علّة ثبوت المطهِّريّة للماء، ووجه كونه جزء الموضوع لا المعروض: قيام المطهِّريّة بالماء نفسه.
ب- الإضافة جزء الموضوع لا المعروض، وهي علّة سلب المطهِّريّة عن الماء المضاف.
ج- الماء المتغيّر (بمنّ من الحليب مُلقىً في مثله، بحيث شُكّ مفهوماً في المركب منهما أنه ماء أو لا؟)[6]، معروضه ثابت وهو الماء، وبعض موضوعه قد تغيّر، لفرض أنه قد تغيّر[7] - فيكون المجرى مجرى الاستصحاب؛ لأن المعروض ثابت، وبعض حالاته (وهو تغيّره - الذي هو جزء الموضوع) قد تغيّر فقط، فيشمله « فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَنْقُضَ الْيَقِينَ بِالشَّكِ أَبَداً»[8] في الصحيحة.
فهذا على المشهور، وهو الوجه لإطلاق صاحب العروة (باستصحاب الحالة السابقة سواء أكانت الشبهة مصداقية أم مفهومية).
التحقيق أنّ الحكم[9] قائم بالصورة النوعية للماء
ولكن على التحقيق[10]، فإنَّ المعروض للمطهِّرية ليس هو الماء المنفكَّ عنه الإطلاق (كي يُقال: بأنَّ الإطلاق جزءُ الموضوع لا المعروض، وأنه مجرَّد علّة ثبوت الحكم، وهو المطهِّرية للمعروض)، بل المعروض للمطهِّرية هو الماء نفسه، الذي الإطلاق صورته النوعية (أو فصله)، أي: الذي الإطلاق عينه (أو فقل: جزؤه المتّحد معه لاتحاد الفصل بالجنس، والصورة بالمادة)، نظير ما قلناه من أنَّ المعروض للنجاسة ليس الجسم، بل الخشب نفسه، الذي صورته الخشبية عينه.
كما أنَّ الأمر في المضاف كذلك، فإنَّ الإضافة هي عينُ المضاف، إذ هي الصورة النوعية له، وليس أنَّ الإضافة أمرٌ خارجٌ عن المعروض وجزءٌ للموضوع، وعلّةٌ لثبوت الحكم للمعروض.
وبالمثال: الصورة الخَلّية هي عين الخل، لا أنها عارض عليه خارج عنه، لذا فإنها، بحسب المصطلح الفلسفي جوهر لا عرضا.
وعليه: فإذا شُكَّ في أنَّ (الماء المتغيّر[11]) مطلقٌ أو مضافٌ، بنحو المفهومية، فقد شُكَّ في أنه (ماءٌ) فيكون مطهِّراً، أو لا ماء = مضافٌ[12]، وهو حقيقةٌ أخرى تماماً، فإذا كان كذلك، لما صحّ التمسك بـ (لا تنقض)، لأنه يكون حينئذٍ من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية له، إذ لو كان (الماء المتغيّر) ماءً، لصدق النقض، ولو كان ضدَّه (أي مضافاً)، لما صدق النقض (لأنه معروضٌ آخر)، ولا يصح التمسك بالعام (لا تنقض) في الشبهة المصداقية للنقض.
مقارنة بين مبنى المشهور والرأي الآخر
مزيدُ توضيحٍ: إنما يصحّ كلام المشهور (من كون الإطلاق جزءَ الموضوع لا المعروض، وكونه علّةَ ثبوت الحكم للمعروض) لو كان الموضوع هكذا: (السائل المطلق مطهِّر)، (والسائل المضاف غير مطهِّر)، فالمعروض على هذا هو السائل (وهو مقسم المطلق والمضاف)، والإطلاق والإضافة خارجان عن المعروض، داخلان في الموضوع فقط.
وذلك نظير ما لو قلنا: إنَّ معروض النجاسة هو (الجسم)، وإنَّ الصورة الخشبية جزءُ الموضوع، لا المعروض.
أمّا لو قلنا، وهو مبنى[13] إشكال مَن أشكل على العروة، كـالشيخ عبد الكريم الحائري، والسيّد عبد الهادي الشيرازي، والسيّد الشريعتمداري، والشيخ الآملي، والسيّد الخوئي (قدّس سرّهم):
1- بأنَّ الإطلاق جزءٌ من المعروض، وأنَّ المعروض حقيقةً للمطهِّرية هو الماء بصورته النوعية (لا السائل)، فيكون إطلاقه عينَه لاتحاده معه، لا واسطةً في ثبوت الحكم للمعروض.
2- وأنَّ الإضافة جزءٌ من المعروض، وأنَّ المعروض حقيقةً لعدم المطهِّرية[14] هو المضاف بصورته النوعية (لا السائل) – وأنَّ الإضافة خارجةٌ عن المعروض، وإنَّما هي داخلةٌ في الموضوع فقط، وواسطةٌ في ثبوت الحكم للموضوع.
3- فلا مجالَ للاستصحاب أصلاً في الماء المتغيِّر المشكوك مفهوماً: أنّه ماء أو مضاف؟ إذ لو كان ماءً، لصدق النقض فيما لو لم نُجرِ استصحاب نجاسته أو طهارته السابقة، ولو كان مضافاً، لما صدق النقض (لأنَّ الفرض على هذا أنَّ المعروض اختلف وانه حقيقة أخرى تماماً). وحيث شُكَّ، فلا يُعلَم أنه نقض أم لا؟ فإجراء الاستصحاب فيه إذاً يكون من التمسك بالعام (لا تنقض) في الشبهة المصداقية للنقض.
ولذلك كلّه، قال في التنقيح: (هذا، وإن شئت قلنا: إنَّ استصحابَ الحكم لا يجري في الشبهات المفهومية، لأنَّه من الشبهة المصداقية لدليل حرمة نقض اليقين بالشكّ، وذلك لأجل الشكّ في بقاء موضوع الحكم وارتفاعه، فلا ندري: أنّ رفع اليد عن الحكم في ظرف الشكّ نقضٌ لليقين بالشكّ، كما إذا كان الموضوع باقياً بحاله، أو أنَّه ليس من نقض اليقين بالشكّ، كما إذا كان الموضوع مرتفعاً، وكان الموجود موضوعاً آخر غير الموضوع المحكوم بذلك الحكم، فلم يُحرز اتحاد القضيتين: المتيقَّنة والمشكوكَة، وهو معتبر في جريان الاستصحاب)[15].
أقول: أراد (قدس سر) بالموضوع المعروض، إمّا لأنّ الاستعمال فيه متداول حتى في ألسِنَةِ الأصوليين، وأمّا لأنَّه صحيحٌ واقعاً لأنَّ المعروض هو موضوع الحكم حقيقة، وإن كان جزء موضوع الدليل، فالمراد موضوع الحكم الواقعي النفس أمري الثبوتي الحامل له، لا موضوع الدليل، وإمّا مسامحة، وعلى أيٍّ، فالمقصود واضح لدى التدبّر، كما أوضحناه. وعليه: لا يصح الإشكال عليه بأنه خلط بين الموضوع والمعروض.
مثال إيضاحي مقارَن: إذا ورد: (الماء الملاقي للنجس متنجّس)، فإنَّ الملاقي (والملاقاة) جزءُ الموضوع لا المعروض، والماء هو المعروض فقط، لأن الحكم (النجاسة) قائمٌ به، والملاقاة علّةٌ لثبوت الحكم له، إذ أن الملاقاة لا يحتمل كونها جزء المعروض، عكس (التغيّر)، الذي للقول بكونه جزء المعروض لأنه صورته النوعية المفصّلة للسائل إلى نوعين مختلفين هما الماء والمضاف، وجه وجيه، كما سبق.
والحاصل: إنّه إن كان إشكالٌ، فليُشكَل على الصغرى، (بأن يُدّعى: بأنَّ المعروض هو السائل، والإطلاق جزء الموضوع فقط، ويُنكر كون المطهِّرية قائمةً بالصورة النوعية المائية، ويُدّعى أنَّها قائمةٌ بالجنس، وهو السائل، وأنَّ الإطلاق علّةٌ خارجةٌ عن المعروض فقط) لا على الكبرى.
بل نقول: ظاهر الآيات والروايات أنَّ الطهورية صفة الماء، لا صفة (السائل المطلق)، فلاحظ مثلاً قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً}[16]. وستأتي تتمّةٌ حول الغروب والمغرب، وأنَّه من قبيل المعروض، فانتظر.
عن أبي عبد الله (صلى الله عليه واله وسلم) قال: « إِنَّ الْعَالِمَ إِذَا لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ زَلَّتْ مَوْعِظَتُهُ عَنِ الْقُلُوبِ كَمَا يَزِلُّ الْمَطَرُ عَنِ الصَّفَا» الكافي: ج1 ص44.
[2] من لا يحضره الفقيه: ج1 ص20.
[3] بعض الكلام عن كلام الفاضل الهندي ومناقشة الشيخ له ومناقشته، ذكره في فقه الصادق ج5 ص197-200 كما ذكره آخرون، على أن لنا فيه كلاماً مفصلاً سيأتي بإذن الله تعالى.
[4] ومن الوجوه: أنَّ العُرف يرى المعروض نفس الجسم، لا صورته النوعية. فتأمل.
[5] الدرس (1124/104).
[6] حسب مثال التنقيح.
[7] لكن لا نعلم أنه ماء عرفاً أو ليس بماء بل مضاف وإن لم يطلق عليه الحليب أيضاً.
[8] تهذيب الأحكام: ج1 ص422.
[9] المطهِّرية.
[10] المبني عليه ما ذكره في التنقيح ج2 ص42-43.
[11] في مثل مثال المنّ من الحليب.
[12] عكس الرجل إذا شك لاحقاً في عدالته فإنه لا يشك أنه رجل أو لا رجل (أو أنه رجل أو ضد الرجل أي امرأة – أي خِلافه).
[13] بحسب ما وصل إليه الفهم القاصر في تشييده.
[14] لعدم الاتصاف بها.
[15] الشيخ ميرزا علي الغروي / تقرير أبحاث السيد أبو القاسم الخوئي، التنقيح في شرح العروة الوثقى، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي ـ قم: ج2 ص43.
[16] سورة الفرقان: 48.