بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(104)
سبق: (سبق قول صاحب العروة: (مسألة 5: إذا شك في مايع أنه مضاف أو مطلق، فإن علم حالته السابقة أخذ بها، وإلا فلا يحكم عليه بالإطلاق، ولا بالإضافة، لكن لا يرفع الحدث والخبث)[1]، ومضى بعض الكلام عن جريان الاستصحاب في الشبهة المفهومية وعدمه، وبقي تفصيل الكلام عن جريانه في المرتبة الثانية أي في الشبهة الحكمية أي على تقدير عدم جريان الاستصحاب الموضوعي فهل لنا أن نجري الاستصحاب الحكمي أم لا؟ سيأتي ذلك بإذن الله تعالى)[2].
التفصيل بين الشبهة الحكمية – المفهومية وغيرهما
وقد أُشكل على صاحب العُروة بأنّ إطلاقه (فإن علم حالته السابقة أُخذ بها)[3] ليس صحيحاً، وأنّ التفصيل بين الشبهة الحكمية المفهومية وغيرها هو الصحيح، فلا يجري الاستصحاب في الأولى، ويجري في غيرها، وحيث إن تنقيح كُبرى المسألة يبتني عليها الكثير من المسائل الفقهية المهمة، ومنها المقام، فلا بُدّ من تحقيق ذلك، وذلك ضمن أُمور:
1- يعتبر في الاستصحاب وحدة القضيتين
الأول: إنّه يُعتبر في الاستصحاب وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة، بأن ينصبّ اليقين والشك على أمر واحد، فلو انصبّ الشك على محمول آخر، أو تعلق اليقين بموضوع آخر، لما كان هنالك معنى للاستصحاب، فلو علمت بوجود زيد في الغرفة ثم شككت في بقائه فيها (في مثال آخر: لو شككت في بقائه عادلاً)، استصحبته، أمّا لو تيقّنتَ بوجود زيد في الغرفة، فإنه لا يصح استصحاب وجود عمرو مثلاً[4]، ولو بدعوى الظنّ بأنّ عمراً موجود مع زيد عادةً، فلو أردتَ استصحاب بقاء عمرو، فلا بد أن يكون هو المتيقَّن السابق (ولو بأن تصل إليه بعلم أو علمي عن طريق ملازمته لزيد).
كما لا يصح، لو شككتَ في بقاء زيد في الغرفة، أن تستصحب وقوفه (إلّا لو كان لك بوقوفه علم سابق)، لمجرد الظن بأنه عادة يكون واقفاً ما دام باقياً، أو، في مثال آخر، أن تستصحب عدم فعله لمنافيات المروءة، لمجرد الظن أنه كلما كان عادلاً لم يفعل المنافيات، (بناءً على أنها ليست مخلة بالعدالة).
2- يدل على ذلك ب ناء العقلاء وصدق (النقض)
الثاني: إنّ اشتراط وحدة القضيتين المتيقَّنة والمشكوكَة يُستفاد، إضافةً إلى أنّ بناء العقلاء على ذلك لا غيره، من (النقض) الوارد في الصحيحة: «فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَنْقُضَ الْيَقِينَ بِالشَّكِ أَبَداً»[5]، والنقض إنما يَصدُق مع وحدتهما، وإلّا لم يكن ناقضاً.
3- لا بد في الاستصحاب من ثبات أمرٍ وتغيّر أمرٍ
الثالث: إنه لا بد في الاستصحاب من ثبات أمر، ومن تغيّر أمرٍ آخر، أمّا ما يلزم ثباته فهو المعروض، وأمّا ما يلزم تغيّره فهو الموضوع[6]، ووجهه واضح، وهو:
أ- إنه لو لم يتغيّر شيء، لما كان معنى للاستصحاب والشك، بل وجب التمسك بالإطلاقات.اولا
ب- ولو تغيّر المعروض نفسه، فلا تكون القضية المشكوكة هي نفس المتيقَّنة، وكيف نستصحب حكماً ثابتاً لمـعروض، لنُثبته على معروضٍ آخر، أو إلى ما لا يُعلَم أنه نفس المعروض أو غيره، فإنّه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، إذ لو كان المعروض هو هو، لكان عدم استصحابه نقضاً، ولو كان غيره، لما كان نقضاً، ففي صورة الشك لا يصح التمسك بـ (لا تنقض) ما دام لا يُعلَم مصداقاً أنه نقضٌ أم لا.
الفرق بين المعروض والموضوع
وليتضح ذلك أكثر لا بد من تعريف الموضوع والمعروض فنقول:
معروض الحكم: ما يقوم به الحكم حقيقةً.
موضوع الحكم: ما أُخذ في لسان الدليل موضوعاً للحكم وقد لا يكون هو المعروض (بل يكون علّةً لثبوت الحكم للمعروض أو حِكمةً).
مثلاً: في قولك (الضيف الشجاعُ يُكرم) فإنّ معروض الحكم هو الرجل، وأما الموضوع فهو (الرجل الشجاع) والشجاعة حيثيّة تعليلية لثبوت وجوب الإكرام للرجل نفسه وليست جزء المعروض. والـحُكم قد قام بالرجل، لا بشجاعته، ولا بمجموع الرجل وشجاعته.
وكذا (صلِّ خلف الرجل العادل)، فإن معروض الحكم هو الرجل، ومتعلّقه (الذي هو موضوعه واقعاً) هو الرجل العادل.
والفرق بين المثالين: أنَّ العدالة علّةٌ لصحة الصلاة خلف الرجل، وأمّا الشجاعة، فهي، على الفرض، حِكمةٌ لحسن إكرام الضيف، أو وجوبه.
والحاصل: أنّ الصور خمسة:
1- إذا كانت الصفة، كالعدالة، علّة لجواز الصلاة خلفه، فعلمنا أنّها زالت، زال الحكم.
2- إذا كانت الصفة، كالشجاعة، حِكمة، فعلمنا أنّها زالت، لم يزل الحكم.
وليس هذان مورد الشاهد، بل:
3- إذا كانت الصفة علّة لثبوت الحكم، فإذا شككنا في زوالها، ولم يمكننا استصحابها فرضاً نظراً لتعاقب الحالتين أو تعارض الاستصحابين، كما لو عُلم أن أحدهما فَسَق حتماً، فهل يمكننا استصحاب صحة الصلاة خلفه (لو لم يُبتلَ بذَينِكَ المانعين فرضاً)؟ فهنا نجد أنّ الثابت هو: (الرجل)، وهو المعروض لصحة الصلاة خلفه، وأنّ المتغيّر هو: (العدالة)، إذ شُكَّ فيها، وهي علّة، ولكن: بالجمع بين بقاء المعروض قطعاً، والشك في بقاء العدالة التي هي علّة ثبوت الحكم، والتي هي جزء الموضوع، (موضوع الحكم، وليست جزء المعروض)، يحدث لنا شك في بقاء الحكم.
4- إذا كانت الصفة حِكمة، فإنه حتى إذا قُطع بزوالها، يبقى الحكم.
5- وأمّا إذا شُكَّ في كونها علّة أو حِكمة، كان ذلك أيضاً، كالصورة الثالثة، مَجرى الاستصحاب؛ نظراً لتحقّق أركانه.
4- ومع كون الصفة عِلّة يجري الاستصحاب
الرابع: وقد ظهر مما مضى، أنّ كون الصفة (التي هي جزء الموضوع، دون المعروض) علّة، غيرُ ضارٍّ بجريان الاستصحاب، بل إنه مؤكّد لجريانه لدى الشك، كما اتّضح من الصورة الثالثة ثم الخامسة.
5- الفرق بين الشبهة المصداقية والمفهومية في مثال التكفير
الخامس: توضيح الفرق بين الشبهة المصداقية والمفهومية في ضمن مثال آخر: لو ورد (الصلاة المكفَّر بها باطلة)، والتكفير: وضع الشمال على اليمين أو العكس في الصلاة (والتكفير مبطل للصلاة عندنا)[7].
فالشبهة المصداقية، التي يجري فيها الاستصحاب دون كلام، أن يشكّ فيما فعله، لغفلةٍ، وأنه ما الذي فَعَل[8] فإنه يستصحب عدم فعله ذلك دون كلام.
وأما الشبهة الحكمية - المفهومية، فكما لو شكَّ في أنه هل يشمل التكفيرُ وضعَ اليمين على اليسرى، على العنق أو على أعلى الصدر، أو يختص بما لو وضعهما على البطن أو أدنى أو أوسط الصدر؟
فلو فعل ذلك (وضعهما على العنق)، فهل له أن يستصحب صحة صلاته إذ دار أمرها بين البطلان (لو كان التكفير يشمله) والصحة (لو لم يكن يشمله)؟
ومن المهم الالتفات إلى أن المعروض (للبطلان) ههنا هو الصلاة، وأن التكفير هو جزء الموضوع لا المعروض، تقول مثلاً (الصلاة المكفَّر بها باطلة)، فالصلاة هي المتصفة بالبطلان حقيقة، وأمّا التكفير فهو علّة ثبوت البطلان لها فهو جزء الموضوع وليس جزء المعروض، إذ لم يقم به الحكم بوجهٍ.
الشبهة الحكمية المفهومية قسمان
السادس: وهو هامٌ، بل هو بيت القصيد في هذا البحث والتفصيل، أنّ الشبهة الحكمية المفهومية قسمان: فتارة: يكون الشك المفهومي، سعةً وضيقاً، في جزء الموضوع، وهذا هو الذي يجري فيه الاستصحاب؛ نظراً لبقاء المعروض، وأخرى: يكون الشك المفهومي في جزء المعروض، وهذا هو الذي لا يجري فيه، بحسب التفصيل، الاستصحاب؛ إذ لم يبق المعروض حينئذٍ لأن الكل ينعدم بانعدام جزئه.
الاستحالة تنتج طهارة الكلب دون الخشب
والفرق بينهما دقيق، فلنوضحه بمثال فقهي آخر من باب الطهارة، ثم نذكر غداً أمثلة أخرى، ثم نطبقه على الماء المتغير، وأنه كيف يختلف الحكم على المبنيين:
والمثال هو: الفرق بين الكلب ومطلق نجس العين، لو استحال ملحاً، وبين الخشب ونظائره لو تنجس ثم صار رماداً، على بعض المباني.
فقد ذهب المشهور شهرة عظيمة إلى أن الكلب لو صار ملحاً، والعذرة رماداً، صار طاهراً، ووجهه واضح، وهو أن عنوان العذرة أو الكلب قد أخذ في الروايات الشريفة موضوعاً للنجاسة (أي قيل مثلاً: الكلب نجس)[9]، والملح ليس كلباً، والتراب ليس عذرة، أي بعبارة أخرى: النجاسة حملت على الصورة النوعية للكلب والعذرة، لا على الجسم (وهو الجنس).
ولكنّ الخشب لو تنجس فصار رماداً، فهل هو نجس الآن أيضاً؟ اختلف الفقهاء في ذلك، بعد اتفاقهم على المسألة الأولى، فقال جمعٌ، تبعاً للفاضل الهندي، كما نقله مصباح الفقيه، بطهارته (بل هو أولى من المسألة الأولى)، وقال جمعٌ بنجاسته.
ووجه هذا النزاع هو التفريق الدقيق بين المعروض والموضوع: فمن قال بأنّ الخشب المتنجس إذا استحال رماداً بقي نجساً (أي أنه أسوأ حالاً من نجس العين كالكلب) قال: لأن معروض المتنجس هو الجسم أو الشيء الملاقي للنجس، وهو موجود بعد الرمادية قطعاً، ومن قال بأنه طاهر، قال به لأنَّه استظهر أن معروض النجاسة (أي التنجس) هو الخشب أي عنوانه (أي الجسم مع صورته النوعية الخشبية)، وقد زال الخشب، وليس هذا بخشب بل هو حقيقة أخرى لأن حقيقة الشيء بصورته (المسماة ذهناً بالفصل وخارجاً بالصورة)، فليس بنجس.
توضيح قسمي الشبهة الحكمية المفهومية، بمثال فقهي
والحاصل: أنّ القائل بطهارته يرى أن الصورة الخشبية هي جزء المعروض، وقد زالت، فهو طاهر، والقائل بنجاسته يرى أن الصورة الخشبية هي جزء الموضوع (لا المعروض)، والمعروض باقٍ، فالنجاسة ثابتة.
وعلى هذا يبتني الخلاف في الشبهة الحكمية – المفهومية للخشب، فلو احترق إلى حد كبير لكنه لم يصر رماداً، وشك فرضاً، مفهوماً، أنه خشب أم لا:
فمن يرى أنّ الجسم هو المعروض للنجاسة، لا تضره الشبهة الحكمية – المفهومية، إذ الصورة الخشبية ليست جزء المعروض بل هي جزء الموضوع فقط (والمعروض، وهو الجسم أو الشيء الملاقي للنجس، باقٍ قطعاً)، فله إجراء استصحاب النجاسة.
ومن يرى أنّ الصورة الخشبية هي المعروض للنجاسة، تضره هذه الشبهة، إذ مع الشك في أن المحترق خشب أم لا، يشك في بقاء المعروض، فلا يصح استصحاب النجاسة لأنه يشك في صدق النقض حينئذٍ، ولا يصح التمسك بالعام (أدلة الاستصحاب) في الشبهة المصداقية (للنقض)[10]. وللبحث صلة وتتمة بإذن الله تعالى.
قال أبي عبد الله (علية السلام): «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَخْذُلُ أَخَاهُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى نُصْرَتِهِ إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» (الأمالي للصدوق: ص486)
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
__________________________
[1] السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، العروة الوثقى والتعليقات عليها (تعليقة 41 مرجع)، مؤسسة السبطين عليهما السلام العالمية: ج1 ص373-374.
[2] الدرس (1114/94)
[3] (إلّا أن تكون الشبهة راجعة إلى المفهوم ولم يحرز اتّحاد الموضوع عرفاً. الحائري.
* إذا كانت الشبهة مصداقيّة. عبد الهادي الشيرازي.
* إذا كانت الشبهة موضوعيّة، أمّا لو كانت مفهوميّة فيشكل جريان الاستصحاب بناء على عدم جريانه في المفهوم المردّد، كما لو شكّ في أنّ الغروب استتار القرص أو زوال الحمرة، وكما لو شكّ في مقدار الكرّ مفهوما ونحو ذلك. نعم، لا يبعد جريان استصحاب حكم الحالة السابقة لبقاء الموضوع عرفا وإن شكّ في تغيّره من حيث صدق المطلق أو المضاف عليه. الشريعتمداري.
* هذا إذا كان الشكّ لأمر خارجي، كما لعلّه المراد في المسألة، وأمّا إذا كانت الشبهة مفهوميّة فلا يجري الاستصحاب. الخوئي.
* إلّا أن تكون الشبهة مفهوميّة فلا يجري الاستصحاب. الآملي.
* إذا كانت الشبهة موضوعيّة، وفي الشبهة المفهوميّة إشكال. زين الدين.
* سواء كانت الشبهة موضوعيّة أم مفهوميّة. الروحاني.
* في الشبهة المصداقيّة. السيستاني). (العروة الوثقى والتعليقات عليها: ج1 ص374-375).
[4] إلّا إذا كان هو المتيقَّن السابق، وهو استثناء منفصل.
[5] تهذيب الأحكام: ج1 ص422.
[6] أي بعضه.
[7] وعند المذاهب الثلاثة، صحيح لازم، أمّا عند المالكية، فكِلاهما (التكفير والإسبال) صحيح.
[8] فهل وضع اليمين على الشمال، أو وضع اليمين على خاصرته مثلاً، والشمال على خاصرته الأخرى.
[9] المستفاد من نجاسة سؤره... إلخ.
[10] كل ذلك مع فرض اننا لا يمكننا استصحاب الخشبية. (أو حتى لو أمكننا فهل لنا استصحاب الحكم أيضاً – على مبنى).
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
سبق: (سبق قول صاحب العروة: (مسألة 5: إذا شك في مايع أنه مضاف أو مطلق، فإن علم حالته السابقة أخذ بها، وإلا فلا يحكم عليه بالإطلاق، ولا بالإضافة، لكن لا يرفع الحدث والخبث)[1]، ومضى بعض الكلام عن جريان الاستصحاب في الشبهة المفهومية وعدمه، وبقي تفصيل الكلام عن جريانه في المرتبة الثانية أي في الشبهة الحكمية أي على تقدير عدم جريان الاستصحاب الموضوعي فهل لنا أن نجري الاستصحاب الحكمي أم لا؟ سيأتي ذلك بإذن الله تعالى)[2].
التفصيل بين الشبهة الحكمية – المفهومية وغيرهما
وقد أُشكل على صاحب العُروة بأنّ إطلاقه (فإن علم حالته السابقة أُخذ بها)[3] ليس صحيحاً، وأنّ التفصيل بين الشبهة الحكمية المفهومية وغيرها هو الصحيح، فلا يجري الاستصحاب في الأولى، ويجري في غيرها، وحيث إن تنقيح كُبرى المسألة يبتني عليها الكثير من المسائل الفقهية المهمة، ومنها المقام، فلا بُدّ من تحقيق ذلك، وذلك ضمن أُمور:
1- يعتبر في الاستصحاب وحدة القضيتين
الأول: إنّه يُعتبر في الاستصحاب وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة، بأن ينصبّ اليقين والشك على أمر واحد، فلو انصبّ الشك على محمول آخر، أو تعلق اليقين بموضوع آخر، لما كان هنالك معنى للاستصحاب، فلو علمت بوجود زيد في الغرفة ثم شككت في بقائه فيها (في مثال آخر: لو شككت في بقائه عادلاً)، استصحبته، أمّا لو تيقّنتَ بوجود زيد في الغرفة، فإنه لا يصح استصحاب وجود عمرو مثلاً[4]، ولو بدعوى الظنّ بأنّ عمراً موجود مع زيد عادةً، فلو أردتَ استصحاب بقاء عمرو، فلا بد أن يكون هو المتيقَّن السابق (ولو بأن تصل إليه بعلم أو علمي عن طريق ملازمته لزيد).
كما لا يصح، لو شككتَ في بقاء زيد في الغرفة، أن تستصحب وقوفه (إلّا لو كان لك بوقوفه علم سابق)، لمجرد الظن بأنه عادة يكون واقفاً ما دام باقياً، أو، في مثال آخر، أن تستصحب عدم فعله لمنافيات المروءة، لمجرد الظن أنه كلما كان عادلاً لم يفعل المنافيات، (بناءً على أنها ليست مخلة بالعدالة).
2- يدل على ذلك ب ناء العقلاء وصدق (النقض)
الثاني: إنّ اشتراط وحدة القضيتين المتيقَّنة والمشكوكَة يُستفاد، إضافةً إلى أنّ بناء العقلاء على ذلك لا غيره، من (النقض) الوارد في الصحيحة: «فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَنْقُضَ الْيَقِينَ بِالشَّكِ أَبَداً»[5]، والنقض إنما يَصدُق مع وحدتهما، وإلّا لم يكن ناقضاً.
3- لا بد في الاستصحاب من ثبات أمرٍ وتغيّر أمرٍ
الثالث: إنه لا بد في الاستصحاب من ثبات أمر، ومن تغيّر أمرٍ آخر، أمّا ما يلزم ثباته فهو المعروض، وأمّا ما يلزم تغيّره فهو الموضوع[6]، ووجهه واضح، وهو:
أ- إنه لو لم يتغيّر شيء، لما كان معنى للاستصحاب والشك، بل وجب التمسك بالإطلاقات.اولا
ب- ولو تغيّر المعروض نفسه، فلا تكون القضية المشكوكة هي نفس المتيقَّنة، وكيف نستصحب حكماً ثابتاً لمـعروض، لنُثبته على معروضٍ آخر، أو إلى ما لا يُعلَم أنه نفس المعروض أو غيره، فإنّه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، إذ لو كان المعروض هو هو، لكان عدم استصحابه نقضاً، ولو كان غيره، لما كان نقضاً، ففي صورة الشك لا يصح التمسك بـ (لا تنقض) ما دام لا يُعلَم مصداقاً أنه نقضٌ أم لا.
الفرق بين المعروض والموضوع
وليتضح ذلك أكثر لا بد من تعريف الموضوع والمعروض فنقول:
معروض الحكم: ما يقوم به الحكم حقيقةً.
موضوع الحكم: ما أُخذ في لسان الدليل موضوعاً للحكم وقد لا يكون هو المعروض (بل يكون علّةً لثبوت الحكم للمعروض أو حِكمةً).
مثلاً: في قولك (الضيف الشجاعُ يُكرم) فإنّ معروض الحكم هو الرجل، وأما الموضوع فهو (الرجل الشجاع) والشجاعة حيثيّة تعليلية لثبوت وجوب الإكرام للرجل نفسه وليست جزء المعروض. والـحُكم قد قام بالرجل، لا بشجاعته، ولا بمجموع الرجل وشجاعته.
وكذا (صلِّ خلف الرجل العادل)، فإن معروض الحكم هو الرجل، ومتعلّقه (الذي هو موضوعه واقعاً) هو الرجل العادل.
والفرق بين المثالين: أنَّ العدالة علّةٌ لصحة الصلاة خلف الرجل، وأمّا الشجاعة، فهي، على الفرض، حِكمةٌ لحسن إكرام الضيف، أو وجوبه.
والحاصل: أنّ الصور خمسة:
1- إذا كانت الصفة، كالعدالة، علّة لجواز الصلاة خلفه، فعلمنا أنّها زالت، زال الحكم.
2- إذا كانت الصفة، كالشجاعة، حِكمة، فعلمنا أنّها زالت، لم يزل الحكم.
وليس هذان مورد الشاهد، بل:
3- إذا كانت الصفة علّة لثبوت الحكم، فإذا شككنا في زوالها، ولم يمكننا استصحابها فرضاً نظراً لتعاقب الحالتين أو تعارض الاستصحابين، كما لو عُلم أن أحدهما فَسَق حتماً، فهل يمكننا استصحاب صحة الصلاة خلفه (لو لم يُبتلَ بذَينِكَ المانعين فرضاً)؟ فهنا نجد أنّ الثابت هو: (الرجل)، وهو المعروض لصحة الصلاة خلفه، وأنّ المتغيّر هو: (العدالة)، إذ شُكَّ فيها، وهي علّة، ولكن: بالجمع بين بقاء المعروض قطعاً، والشك في بقاء العدالة التي هي علّة ثبوت الحكم، والتي هي جزء الموضوع، (موضوع الحكم، وليست جزء المعروض)، يحدث لنا شك في بقاء الحكم.
4- إذا كانت الصفة حِكمة، فإنه حتى إذا قُطع بزوالها، يبقى الحكم.
5- وأمّا إذا شُكَّ في كونها علّة أو حِكمة، كان ذلك أيضاً، كالصورة الثالثة، مَجرى الاستصحاب؛ نظراً لتحقّق أركانه.
4- ومع كون الصفة عِلّة يجري الاستصحاب
الرابع: وقد ظهر مما مضى، أنّ كون الصفة (التي هي جزء الموضوع، دون المعروض) علّة، غيرُ ضارٍّ بجريان الاستصحاب، بل إنه مؤكّد لجريانه لدى الشك، كما اتّضح من الصورة الثالثة ثم الخامسة.
5- الفرق بين الشبهة المصداقية والمفهومية في مثال التكفير
الخامس: توضيح الفرق بين الشبهة المصداقية والمفهومية في ضمن مثال آخر: لو ورد (الصلاة المكفَّر بها باطلة)، والتكفير: وضع الشمال على اليمين أو العكس في الصلاة (والتكفير مبطل للصلاة عندنا)[7].
فالشبهة المصداقية، التي يجري فيها الاستصحاب دون كلام، أن يشكّ فيما فعله، لغفلةٍ، وأنه ما الذي فَعَل[8] فإنه يستصحب عدم فعله ذلك دون كلام.
وأما الشبهة الحكمية - المفهومية، فكما لو شكَّ في أنه هل يشمل التكفيرُ وضعَ اليمين على اليسرى، على العنق أو على أعلى الصدر، أو يختص بما لو وضعهما على البطن أو أدنى أو أوسط الصدر؟
فلو فعل ذلك (وضعهما على العنق)، فهل له أن يستصحب صحة صلاته إذ دار أمرها بين البطلان (لو كان التكفير يشمله) والصحة (لو لم يكن يشمله)؟
ومن المهم الالتفات إلى أن المعروض (للبطلان) ههنا هو الصلاة، وأن التكفير هو جزء الموضوع لا المعروض، تقول مثلاً (الصلاة المكفَّر بها باطلة)، فالصلاة هي المتصفة بالبطلان حقيقة، وأمّا التكفير فهو علّة ثبوت البطلان لها فهو جزء الموضوع وليس جزء المعروض، إذ لم يقم به الحكم بوجهٍ.
الشبهة الحكمية المفهومية قسمان
السادس: وهو هامٌ، بل هو بيت القصيد في هذا البحث والتفصيل، أنّ الشبهة الحكمية المفهومية قسمان: فتارة: يكون الشك المفهومي، سعةً وضيقاً، في جزء الموضوع، وهذا هو الذي يجري فيه الاستصحاب؛ نظراً لبقاء المعروض، وأخرى: يكون الشك المفهومي في جزء المعروض، وهذا هو الذي لا يجري فيه، بحسب التفصيل، الاستصحاب؛ إذ لم يبق المعروض حينئذٍ لأن الكل ينعدم بانعدام جزئه.
الاستحالة تنتج طهارة الكلب دون الخشب
والفرق بينهما دقيق، فلنوضحه بمثال فقهي آخر من باب الطهارة، ثم نذكر غداً أمثلة أخرى، ثم نطبقه على الماء المتغير، وأنه كيف يختلف الحكم على المبنيين:
والمثال هو: الفرق بين الكلب ومطلق نجس العين، لو استحال ملحاً، وبين الخشب ونظائره لو تنجس ثم صار رماداً، على بعض المباني.
فقد ذهب المشهور شهرة عظيمة إلى أن الكلب لو صار ملحاً، والعذرة رماداً، صار طاهراً، ووجهه واضح، وهو أن عنوان العذرة أو الكلب قد أخذ في الروايات الشريفة موضوعاً للنجاسة (أي قيل مثلاً: الكلب نجس)[9]، والملح ليس كلباً، والتراب ليس عذرة، أي بعبارة أخرى: النجاسة حملت على الصورة النوعية للكلب والعذرة، لا على الجسم (وهو الجنس).
ولكنّ الخشب لو تنجس فصار رماداً، فهل هو نجس الآن أيضاً؟ اختلف الفقهاء في ذلك، بعد اتفاقهم على المسألة الأولى، فقال جمعٌ، تبعاً للفاضل الهندي، كما نقله مصباح الفقيه، بطهارته (بل هو أولى من المسألة الأولى)، وقال جمعٌ بنجاسته.
ووجه هذا النزاع هو التفريق الدقيق بين المعروض والموضوع: فمن قال بأنّ الخشب المتنجس إذا استحال رماداً بقي نجساً (أي أنه أسوأ حالاً من نجس العين كالكلب) قال: لأن معروض المتنجس هو الجسم أو الشيء الملاقي للنجس، وهو موجود بعد الرمادية قطعاً، ومن قال بأنه طاهر، قال به لأنَّه استظهر أن معروض النجاسة (أي التنجس) هو الخشب أي عنوانه (أي الجسم مع صورته النوعية الخشبية)، وقد زال الخشب، وليس هذا بخشب بل هو حقيقة أخرى لأن حقيقة الشيء بصورته (المسماة ذهناً بالفصل وخارجاً بالصورة)، فليس بنجس.
توضيح قسمي الشبهة الحكمية المفهومية، بمثال فقهي
والحاصل: أنّ القائل بطهارته يرى أن الصورة الخشبية هي جزء المعروض، وقد زالت، فهو طاهر، والقائل بنجاسته يرى أن الصورة الخشبية هي جزء الموضوع (لا المعروض)، والمعروض باقٍ، فالنجاسة ثابتة.
وعلى هذا يبتني الخلاف في الشبهة الحكمية – المفهومية للخشب، فلو احترق إلى حد كبير لكنه لم يصر رماداً، وشك فرضاً، مفهوماً، أنه خشب أم لا:
فمن يرى أنّ الجسم هو المعروض للنجاسة، لا تضره الشبهة الحكمية – المفهومية، إذ الصورة الخشبية ليست جزء المعروض بل هي جزء الموضوع فقط (والمعروض، وهو الجسم أو الشيء الملاقي للنجس، باقٍ قطعاً)، فله إجراء استصحاب النجاسة.
ومن يرى أنّ الصورة الخشبية هي المعروض للنجاسة، تضره هذه الشبهة، إذ مع الشك في أن المحترق خشب أم لا، يشك في بقاء المعروض، فلا يصح استصحاب النجاسة لأنه يشك في صدق النقض حينئذٍ، ولا يصح التمسك بالعام (أدلة الاستصحاب) في الشبهة المصداقية (للنقض)[10]. وللبحث صلة وتتمة بإذن الله تعالى.
قال أبي عبد الله (علية السلام): «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَخْذُلُ أَخَاهُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى نُصْرَتِهِ إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» (الأمالي للصدوق: ص486)
[2] الدرس (1114/94)
[3] (إلّا أن تكون الشبهة راجعة إلى المفهوم ولم يحرز اتّحاد الموضوع عرفاً. الحائري.
* إذا كانت الشبهة مصداقيّة. عبد الهادي الشيرازي.
* إذا كانت الشبهة موضوعيّة، أمّا لو كانت مفهوميّة فيشكل جريان الاستصحاب بناء على عدم جريانه في المفهوم المردّد، كما لو شكّ في أنّ الغروب استتار القرص أو زوال الحمرة، وكما لو شكّ في مقدار الكرّ مفهوما ونحو ذلك. نعم، لا يبعد جريان استصحاب حكم الحالة السابقة لبقاء الموضوع عرفا وإن شكّ في تغيّره من حيث صدق المطلق أو المضاف عليه. الشريعتمداري.
* هذا إذا كان الشكّ لأمر خارجي، كما لعلّه المراد في المسألة، وأمّا إذا كانت الشبهة مفهوميّة فلا يجري الاستصحاب. الخوئي.
* إلّا أن تكون الشبهة مفهوميّة فلا يجري الاستصحاب. الآملي.
* إذا كانت الشبهة موضوعيّة، وفي الشبهة المفهوميّة إشكال. زين الدين.
* سواء كانت الشبهة موضوعيّة أم مفهوميّة. الروحاني.
* في الشبهة المصداقيّة. السيستاني). (العروة الوثقى والتعليقات عليها: ج1 ص374-375).
[4] إلّا إذا كان هو المتيقَّن السابق، وهو استثناء منفصل.
[5] تهذيب الأحكام: ج1 ص422.
[6] أي بعضه.
[7] وعند المذاهب الثلاثة، صحيح لازم، أمّا عند المالكية، فكِلاهما (التكفير والإسبال) صحيح.
[8] فهل وضع اليمين على الشمال، أو وضع اليمين على خاصرته مثلاً، والشمال على خاصرته الأخرى.
[9] المستفاد من نجاسة سؤره... إلخ.
[10] كل ذلك مع فرض اننا لا يمكننا استصحاب الخشبية. (أو حتى لو أمكننا فهل لنا استصحاب الحكم أيضاً – على مبنى).