بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(119)
طرق تطهير المضاف المتنجس
قال صاحب العروة (قدس سره):
(مسألة 6: المضاف النجس يَطهر بالتصعيد وبالاستهلاك في الكرِّ أو الجاري).
أقول: ههنا مطالب:
الأول: إنّ البحث، بحسب أدلّته، ينبغي أن يُعمّم إلى مُطلق السائل، أي: إنّه يجري في السائل الذي لا يُطلق عليه الماء المـُضاف، كـالزيت والدِّبس والخَلّ، وقد سبق أنّ السائل ثلاثة أقسام: ماء مُطلق، ماء مُضاف، وسائل لا يُطلق عليه أيٌّ منهما.
فما هي طُرق تطهير السائل بقِسميه الأخيرين؟
الثاني: إنّ المسألة بشِقّيها شديدة الابتلاء، إذ ما أكثر السوائل غير الماء المـُطلق التي تتنجّس، كـالمرق، والزيت، والدُّهن. وقد وردت بها روايات، وكأنواع العصير، كماء البرتقال أو الرمّان... إلخ، وحتى أمثال الكحول الصناعيّة، وأنواع الصابون السائل المتداول حالياً وكذا المنظّفات السائلة وأنواع العطور.
الثالث: إنّ صاحب العروة حصر طريق تطهيره بالتصعيد والاستهلاك، ولا بُدّ من تحقيق المراد منه، فإنّ فيه احتمالات ثلاثة كما سيأتي، كما لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ صاحب العروة يقصد من ذكر الكرّ والجاري، التمثيل لا الحصر، لوضوح أنّ حكم كلّ مُعتصم هو ذلك؛ فلا فرق بين ماء البئر، والمطر، والكرّ، والجاري والحمام، في أنّ الاستهلاك فيها مطهِّر.
الرابع: إنّ هنالك طُرُقاً أُخرى، أشار إليها بعض الأعلام، ولم يُشيروا إلى بعضها الأخر، إلّا أنّ مقتضى الصناعة البحث عنها.
والطُرُق الأُخرى هي: الاختلاط والامتزاج
[1]، والانقلاب، والاستحالة، ومجرّد الاتصال بالمـُعتصَم، ومجرد الإزالة
[2] – وسيأتي بحثها تباعاً
[3]، بإذن الله تعالى.
تطهير المضاف بالاختلاط والامتزاج
الخامس: أمّا الاختلاط، فقد أشار إليه الشيخ الطوسي (قدس سره) في المبسوط، قال:
(ولا طريق إلى تطهيره بحال، إلّا أن يختلط بما زاد على الكر من المياه الطاهرة المـُطلقة، ثم يُنظر فيه: فإن سلبه إطلاق اسم الماء، لم يَجُز أيضاً استعماله بحال.
وإن لم يسلبه إطلاق اسم الماء، وغيّر أحد أوصافه، إمّا لونه أو طعمه أو رائحته، فلا يجوز أيضاً استعماله بحال.
وإن لم يتغيّر أحد أوصافه، ولم يسلبه إطلاق اسم الماء، جاز استعماله في جميع ما يجوز استعمال المياه المـُطلقة فيه
[4].
وإن اختلطت المياه المـُضافة بالماء المـُطلق قبل حصول النجاسة فيها نُظر، فإن سلبها إطلاق اسم الماء، لم يَجُز استعمالها في رفع الأحداث وإزالة النجاسات، وإن لم يسلبها إطلاق ذلك، جاز استعمالها في جميع ذلك)
[5].
وفي كلامه نقاط:
أ- إنّ الاختلاط مفهوم عرفيّ وعلميّ واضح، وهو يختلف عن الاستهلاك والانقلاب والاستحالة، وقد يسبقها، إلّا أنّه ليس عينها، لوضوح أنّ الخليطين أمران مختلفان لكنّهما مختلطان.
أمّا الثلاثة، فلا يوجد فيها إلا أمر واحد
[6]، وهو المـُستحال إليه، كـالكلب إذا استحال ملحاً، والمنقلب إليه، كـالخمر إذا انقلب خَلّاً، والمـُستهلك فيه، كـالماء الكثير إذا استُهلكت فيه قطرة من الخمر أو الدم، حتّى لم يعُد له
[7] وجود.
وسيأتي ذكر معانٍ ثلاثة للاستهلاك.
وعليه، فإنّ قول الشيخ الأعظم (قدس سره) في كتاب الطهارة في طريق تطهير المـُضاف المـُتنجّس: (أن يختلط بالماء المعتصم حتّى يصير ماءً مطلقاً)
[8] هو تقييد، إذ يبعد جدّاً أن يكون مراده التفسير، كما ظهر ممّا سبق، والعُرف ببابك، بل لو صار ماءً مُطلقاً، لما كان ـ والحال هذه ـ مختلطاً، بل يشهد له قوله (حتى...) الدّال على أنّ الاختلاط مقدّمة، إن أدّت إلى أن يصير المـُضاف ماءً مُطلقاً، طَهُر، فكلام الشيخ الطوسي مطلق
[9] وكلام الشيخ الأنصاري مقيّد.
ب- إنّ قول الشيخ: (زاد على الكر) بظاهره خلاف المشهور، إذ الشرط الكرّ، ولا تُشترط الزيادة، إلّا أن يُوَجَّه بما سيأتي.
ج- إنّه اشترط في مُطهِّريّة الكرّ (أو الزائد على الكرّ) للمضاف المـُتنجّس شرطين:
الأوّل: أن يبقى الكرّ على إطلاقه، أي يبقى مُسمّىً بـالماء المـُطلق حين امتزاجه بالمـُضاف (كـالدبس أو الزيت) ووجه اشتراطه واضح، إذ الماء المـُطلق هو المـُطهِّر، لا المـُضاف.
الثاني: أن لا تتغيّر إحدى أوصافه، أي: الثلاثة، وهي: اللون، والطَّعم، والرائحة.
فإنّ الماء المـُطلق قد لا يُسلب عنه اسم الماء المـُطلق إذا اختلط بالجيفة أو بالدم مثلاً، لكنّه تتغيّر رائحته أو طعمه (مع الحفاظ على كونه عرفاً ماءً مُطلقاً) وكذا لو تغيّر لونه قليلاً جدّاً.
لكنّ شرط مُطهِّريّة الماء المـُطلق حسب المبسوط: أن لا تتغيّر حَتّى رائحته، ولونه، وطعمه؛ للروايات، ومنها قوله (صلى الله عليه وآله):
(خُلِقَ الْمَاءُ طَهُوراً، لَا يُنَجِّسُهُ[10] شَيْءٌ، إِلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَه)[11] فلو غيّرت النجاسة لونه... تنجس وإن بقي اسمه ماءً مطلقاً.
التغيير بصفات النجاسة أو المتنجس؟
الثالث: إنّه وقع الكلام في مراد الشيخ من قوله: (غيّر أحد أوصافه)، إذ في المسألة مبنيان أو احتمالان:
أحدهما: أنّ الكرّ يتنجّس بالتغيّر بأوصاف النجس فقط، وهو المشهور
[12].
وثانيهما: أنّه يتنجّس بالتغيّر حتّى بأوصاف المـُتنجّس.
ومثاله: ما لو تنجّس إناء كبير من ماء البرتقال مثلاً بقطرة دم، فأُلقي في الكرّ، فتغيّر بلون البرتقال (الأصفر)، إذ قطرة الدم لا تُغيّر لونَ ماءٍ بقدر الكرّ. فقد تغيّر بأوصاف المـُتنجّس دون النجس.
وعلى المبنى الأوّل: لو بقي الكرّ على إطلاقه، لكنّه تغيّر بأوصاف المـُتنجّس، فإنّه يبقى على طهارته.
لعلّ مُستند القول الثاني، كما أشار إليه صاحب الجواهر، هو التمسّك بإطلاق مثل قوله (صلى الله عليه وآله): (خُلِقَ الْمَاءُ طَهُوراً، لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ، إِلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَه) إذ (غَيّر) أعمّ من أن يكون غيّره بأحد أوصاف النجاسة، أو أحد أوصاف المـُتنجّس، وللمشهور الجواب بالانصراف إلى ما غيّره بأوصاف النجس نفسه – وتحقيقه في محلّه.
المطهِّر الكرّ أو الزائد عليه؟
الرابع: إنّه هل المـُطهِّر هو الكرّ أو الزائد على الكرّ؟، وصريح الشيخ الثاني: (إلّا أن يختلط بما زاد على الكر) ولكن حَمَلَه جمعٌ على أن مراده صورة الإلقاء التدريجي دون الدّفعي – فراجع الجواهر والينابيع إن شئت، ولعلّه يأتي بيان.
وقد فصّل في الجواهر والينابيع الفقهية وغيرهما البحث عن مراد الشيخ (قدّس سرّه)، ممّا لا يلزم تحقيقه إلّا بقدر فهم أصل المراد والمباني والمـُستند، وأمّا مراده فليس لازماً للمجتهد، نعم، لو كان روايةً لوجب.
التفصيل بين الدُّهن والدِّبس
وقد فصّل السيّد الجَدّ (قدس سره) بين مثل الدُّهن المـُتنجّس ومثل الدِّبس المـُتنجّس، فقال بأنّ الدهن لا يَطهُر بإلقائه في الكرّ وإن اختلط به، عكس الدِّبس، وذلك على ما نقله عنه السيد الوالد (قدس سره) في الفقه:
(نعم لو فرض جَمْعُ المضافِ
[13]، فهل يكون طاهراً أم نجساً؟ فصَّل الوالد بين الدهن المتنجس، فقال: بعدم طهره، لأن الماء لا ينفذ في ذراته، خلافاً لبعض الفقهاء الذاهبين إلى طهارته فيما لو ألقي في كر من الماء الحار، وبين غيره مما يقبل نفوذ الماء فيه، كماء الورد والدبس ونحوهما.
لا يقال: لا ينفذ الماء فيه إلا مضافاً.
لأنا نقول: يكفي نفوذ الماء، والأصل عدم الإضافة، وتؤيده روايات طهارة اللحم بالتطهير
[14])
[15].
وعلى أيٍّ، فإنّ تشخيص الموضوع، المرجع فيه العُرف، وقول الفقيه يندرج في هذه الدائرة، لا لأنّه مرجعٌ فيه بما هو فقيه.
وسيأتي الكلام عن ذلك وغيره ممّا سبق، بإذن الله تعالى.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (اعْمَلْ بِفَرَائِضِ اللَّهِ تَكُنْ أَتْقَى النَّاسِ، وَارْضَ بِقِسْمِ اللَّهِ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَكُفَّ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ تَكُنْ أَوْرَعَ النَّاسِ، وَأَحْسِنْ مُجَاوَرَةَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُؤْمِناً، وَأَحْسِنْ مُصَاحَبَةَ مَنْ صَاحَبَكَ تَكُنْ مُسْلِماً) (الأمالي للصدوق: ص201).
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين