323- مبادئ الاستنباط 24ـ 29 علم السياسة ، الاقتصاد ، الاجتماع ، الإدارة ، الحقوق ـ مثال : آية الكنز ، وروايات تحديد ذلك بأربعة آلاف وشبهها ، واجتماع الفقهاء على الخلاف ، والحل : بالكنز بلحاظ سرعة دوران النقد وحجم الإنفاق النقدي في إطار الإحراز باقتصاد البلد
الأربعاء 24 ذي الحجة 1434هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مبادئ الاستنباط
24-29 علوم الاقتصاد، السياسة، الاجتماع، الإدارة، الحقوق والقانون
وهذه العلوم الستة تعد من مبادئ الاستنباط نظراً للحاجة إليها، في الجملة، لتنقيح موضوعات الأحكام خاصة المستجدة منها بل قد تنفع في تأكيد الإطلاق أو استظهار الانصراف.
وسنقتصر على مثال واحد من علم الاقتصاد ونوكل التحقيق في سائر العلوم وسائر المسائل إلى الأفاضل الكرام، فنقول:
حرمة الكنز وحدوده
فقد قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)
وقد وردت روايات عديدة تحدد مصداق الكنز بأربعة آلاف وألفين، وروايات تفيد صدق الكنز حتى بعد أداء الحقوق المالية المعهودة من زكاة وشبهها وروايات أطلقت تحريم الكنز:
روايات حرمة الكنز مطلقا
ومنها: ما في تفسير القمي عن الباقر عليه السلام في هذه الآية إن الله حرم كنز الذهب والفضة، وأمر بإنفاقه في سبيل الله).
ومنها: ما في تفسير القمي في حديث قد سبق في سورة البقرة: نظر عثمان بن عفان إلى كعب الأحبار فقال له: يا أبا إسحق ما تقول في رجل أدى زكاة ماله المفروضة، هل يجب عليه فيما بعد ذلك شيء؟ فقال: لا ولو اتخذ لبنة من ذهب ولبنا من فضة ما وجب عليه شيء، فرفع أبو ذر عصاه فضرب بها رأس كعب، ثم قال له: يا ابن اليهودية الكافرة ما أنت والنظر في أحكام المسلمين؟ قول الله أصدق من قولك حيث قال: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) الآية.
والاستدلال ليس باجتهاد أبي ذر([1]) بل بما يظهر بالقرائن الحافة من سكوت أمير المؤمنين علي وتقريره لأن عثمان كان متهماً بشدة بالكنز وكان أبو ذر رافعاً عقيرته ضده وكان موقفه هذا مع الخليفة ومستشاره مما لا يُحتمل عادة أن يخفى على الناس وعلى أمير المؤمنين خاصة، ولو كان الحكم الشرعي عكس ذلك لكان عليه البيان([2]). فتأمل
ومنها: ما في المجمع عن أمير المؤمنين عليه السلام ما زاد على أربعة آلاف فهو كنز أدى زكاته أو لم يؤد، وما دونها فهي نفقة.
ومنها: ما في العياشي عن الإمام الباقر عليه السلام إنه سئل عن هذه الآية؟ فقال: إنما عني بذلك ما جاوز ألفي درهم
وقد يؤيد ذلك بما في التهذيب عنه عليه السلام: ما أعطى الله عبداً ثلاثين ألفاً وهو يريد به خيرا، وقال: ما جمع رجل قط عشرة آلاف درهم من حل وقد يجمعها لأقوام إذا أعطى القوة ورزق العمل فقد جمع الله له الدنيا والآخرة.
الإجماع على خلاف تلك الروايات
لكن في مقابل ذلك كله نجد فتوى المشهور بل لعله إجماعي قال الشيخ الطوسي في التبيان، (وقوله: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) معناه الذين يخبئون أموالهم من غير أن يخرجوا زكاتها، لأنهم لو اخرجوا زكاتها وكنزوا ما بقي لم يكونوا ملومين بلا خلاف) انتهى، أقول والمستند روايات أخرى أيضاً منها في الأمالي: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل مال تؤدي زكاته فليس بكنز، وإن كان تحت سبع أرضين، وكل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض.
والسؤال هو عن وجه التوفيق:
فقد يقال: بطرح تلك الأخبار، لكن طرحها مشكل مع استفاضتها([3]) وموافقتها لظاهر الكتاب.
من وجوه الجمع بين الأخبار المتعارضة
وحيئذٍ فقد يجمع باختصاصها بزمن الظهور المبارك واما قبله فموسع على الناس، وتدل عليه رواية الكافي والعياشي عن الإمام الصادق عليه السلام: موسع على شيعتنا ان ينفقوا مما في أيديهم بالمعروف، فإذا قام قائمنا حرم على كل ذي كنز كنزه حتى يأتيه به فيستعين به على عدوه، وهو قول الله: (الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) الآية.
والكلام حول هذا الوجه وغيره يستدعي مقاماً آخر، فلنقتصر على موطن الشاهد وهو وجه جمع آخر يستفاد فيه من إحدى مسائل علم الاقتصاد في تنقيح موضوع الكنز.
بيان ذلك:
جمع آخر على ضوء حقيقة اقتصادية: جمود وسرعة وبطؤ دوران النقد
ان الغلاء والتضخم (وضعف الاقتصاد وتعطل الحاجات) ينشأ من عوامل ثلاثة: أ- قلة العرض ب- كثرة الطلب ج- بطؤ دوران النقد أو تجميده عن الحركة والدوران([4]) وهذا الأخير غير معروف عادة فلنوضحه:
ان النقد هو الواسطة في تبادل البضائع وهو الوسيلة الميسرة لقضاء الحوائج لأن الالتزام بدفع بضاعة ما – كالحنطة أو الملابس أو الجواهر أو غيرها – كثمن لما يشتريه الإنسان أمر صعب جداً لصعوبة حفظه ونقله وتسليمه أو لِقِلّته، اما النقد فهو واسطة خفيفة الحمل سهلة الحفظ سريعة التداول ومتوفرة، لذلك اتجه العقلاء بعد العصر البدوي المعتمد على تبادل البضاعة بالبضاعة إلى مبادلتها بالعملة والنقد، وكانت العملة هي الذهب والفضة سابقاً ثم أضحت العملات الورقية وشبهها([5]).
ثم ان العملة لو احتكرت وكنزت سبّب ذلك تعطيل الحاجات بنفس النسبة، فلو فرض أن مجموع كمية النقود هي ألف دينار ومجموع كمية البضائع هي ألف كيلو مثلاً لكان كل دينار يقابل بكيلو واحد فلو توفرت هذه الألف بأيدي الناس لما بقيت حاجة معطلة، عكس ما لو كنز شخص تسعمائة دينار منها مثلاً إذ تبقى مائة دينار لقضاء ألف حاجة (وشراء ألف كيلو) فلو اشترى مائة شخص بالمائة دينار مائة كيلو أو حتى مائتي كيلو([6])، لما بقيت دنانير بأيدي الناس لشراء التسعمائة كيلو فيبقى المحتاجون إلى الشراء وقد عطلت حاجاتهم كما تبقى الـ900 كيلو عالة بأيدي ملّاكها وقد تعطب أو تفسد، نعم (الدين) يمكن أن يشكل بعض الحل، لكنه لا يفي بحل كل المعضلة، إضافة إلى ان ذلك يسبّب انخفاض قيمة البضائع عن واقعها كثيراً، مما يضر بالمنتجين وقد يوقفهم عن الإنتاج بالمرة إذ يرون الخسائر الناجمة إضافة إلى ان كنز تلك التسعمائة تعني ان كثيراً من أرباب العمل سوف لا يعطون الأجور للعمال (إلا 10%) ولا المديون يسدد دينه إلا بمقدار ما يتوفر وهو عشرة بالمائة فقط وهكذا وهلم جرا وعلى أية حال فان كنز المال كثيراً ما يضر بالاقتصاد الوطني ويضرّ بالناس.
وعلى ذلك فقد يقال: ان آية الكنز ناظرة لهذه الصورة وهي صورة إضرار كنز المال – وان دفع زكاته – بالناس، وبذلك يجمع بين الطائفتين من الروايات: فالنافية لوجود حق مالي وراء الزكاة وشبهها ناظرة للعنوان الأولي، والمثبتة لوجوب الإنفاق في الأكثر من الألفين والأربعة ناظرة للعنوان الثانوي وصورة إضرار ذلك بالناس.
هل هذا الجمع تبرعي؟
لا يقال: هذا الجمع تبرعي؟
إذ يقال: ربما تدل عليه كلمة (الكنز) فان ما كان كثيراً متوفراً بأيدي الناس لا يصدق عليه كنز وإن جمع منه الشخص ما جمع، عكس ما يحتاجونه مما لو حبس بعضه تضررواً فانه يصدق عليه الكنز([7])، ارأيت لو أن شخصاً جمع الكثير من التراب أو الأحجار في أرضه أو تحتها انه لا يصدق عليه انه كنزه عكس ما لو كانت الأحجار قليلة فجمع أكثرها وحبسه فانه يصدق عليه انه كنزها. فتأمل
وقد يستشهد لهذا الجمع باختلاف الروايات في تحديد مصداقه وإنه ألفان أو أربعة وذكر بعض الروايات العشرة آلاف وما أشبه، فان الظاهر انه تحديد لمصداق الكنز بلحاظ حاجة الناس وقدر حاجتهم إلى المال. فتأمل
ثم ان (سرعة دوران النقد وبطؤه([8])) عامل آخر في تعطيل الحاجات أو تمشيتها فان المائة دينار لو دارت يومياً عشر مرات في التداول – بيعاً وشراءاً وإجارة ... الخ – فانها تلبي ألف حاجة – في المثال السابق – وتكون قوتها الشرائية بمقدار ألف دينار، عكس ما لو دارت يومياً خمس مرات أو مرة أو دارت كل يومين مرة فان قوتها الشرائية في الصورة الأخيرة تكون بقدر خمسين ديناراً فتبقى، بنفس النسبة، مجموعةٌ من الحاجات معطلة.
وهنا يظهر مصداق جديد للكنز وهو حبس النقد عن دورانه الطبيعي المعهود فالكنز اما كنز لأصل المال أو كنز للمال عن التداول المعهود اللائق بشأنه.
ثم ان ما ذكر ترد عليه إشكالات لا تخفى على الفقيه، فالأولى الاستدلال على المدعى بـ(لا ضرر) وفي حدوده لا بآية الكنز فتدبر جيداً وتأمل
الحاجة لهذه العلوم ثبوتية أو إثباتية
وعلى أي تقدير فانه سواء أرفضنا الاستدلال بهذا الوجه الاقتصادي على تحديد معنى ومصداق آية الكنز أو توضيح المراد منها، كما عليه المشهور بل لم نعهد له مخالفاً، أو قبلنا به فانه لا بد للفقيه من معرفة الاقتصاد وأسسه ومسائله كي يتنقح لديه الموضوع جيداً ويحرز صحة الرفض أو القبول بالبرهان لا بالتعبد، خاصة مع ظهور أدعياء العلم بالدين من غير معرفة بأصوله وقواعده، فلو جهل الفقيه مسائل الاقتصاد لما أمكنه ردّ كلامهم – على تقدير رفضه لمثل الجمع المزبور – بالنحو المطلوب وبما يقنع الطرف الآخر أو يفحمه على الأقل لكي لا يبقى له مجال لاتهام الفقهاء بالجهل أو التخلف أو ما أشبه([9]). وللحديث صلة
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
([1]) وإن صلح مؤيداً.
([2]) إضافة إلى انه لو كان الحكم الشرعي عند أمير المؤمنين عكس قول أبي ذر لكان عثمان وجماعته يستشهدون به ضد أبي ذر لكسر شوكته وإفحامه وتبكيته.
([3]) إن لم تكن متواترة تواتراً مضمونياً مما يحتاج إلى تتبع.
([4]) وكلاهما يسمى كنزاً.
([5]) كالصكوك والسندات.
([6]) إذ تنخفض قيمة البضائع مع قلة وجود النقد المتوفر لشرائها، بنسبة ما، فلنفرضها النصف مثلاً.
([7]) بل قال في معجم مقاييس اللغة (الكنز أصل صحيح يدل على تجمع في شيء) وقال (ومن ذلك كنزت التمر في وعائه) وقال في مجمع البحرين (أصل الكنز المال المدفون لعاقبه ما ثم اتسع فيه) وقال (كنز المال جمعه وادخره) وقال في لسان العرب (الكنز اسم للمال إذا احرز في وعاء ولما يحرز فيه وقيل: الكنز المال المدفون).
([8]) وقد يسمى بـ(حجم الانفاق النقدي) وهو: كمية النقود المتداولة في متوسط عدد مرات التداول خلال زمن محدد.
([9]) وعلى هذا الاخير تكون الحاجة لهذه العلوم اثباتية فقط فتدبر
الأربعاء 24 ذي الحجة 1434هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |