بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(660)
النسبة بين المكرَه واللاراضي، هي من وجه
و- كما قد يورد على الشيخ (قدس سره) بأن النسبة بين المكرَه وغير طيِّب النفس والنسبة بين ما استكره عليه وما لم تطب نفسه به، هي العموم والخصوص من وجه، فكيف يصح تفسير ((مَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)) في حديث الرفع بـ(ما لا طِيب نفس لهم به)؟ وكيف يحمل عليه؟ فإن الكلّ قد يحمل على الجزء أو العكس بعلاقة الكل والجزء أو العام على الخاص أو العكس بنحو ذلك، ولكن لا يصح حمل أحد العامين من وجه على الآخر فكيف بتفسيره به؟ ألا ترى أنه لا يصح أن يفسر الإنسان بالأبيض أو العكس، وإن صح أن يفسر الإنسان بالحيوان أو العكس؟ وأما بيان النسبة:
فمادة الاجتماع بينهما بيّنة وهي: المكره عمّن لم تطب نفسه به، وهو الغالب.
ومادة افتراق غير طيّب النفس (أي عدم تحققه) عن المكره: المضطر، وهو واضح، كما مثّلنا له بالمضغوط عليه غير المكره.
من مواد الافتراق
وأما مادة افتراق المكره عليه عن ما لا طيب نفس له به، والمكره عن غير طيّب النفس (أي من كان مكرهاً لكنه كان طيب النفس أيضاً) وهو بيت القصيد، فصوره كثيرة وقد سبق البحث عن بعضها فلنشر إليها إشارة:
الإكراه الذي ولّد رضا طولياً
فمنها: الإكراه الذي ولّد رضا طولياً فانبعث عن الأخير، وهذا هو الذي قرّب العلامة الحلي الحكم بالصحة فيه إذ لاحظ الجزء الأخير للعِلّة وانبعاثه عن الرضا، وتبعه جمع، بينما عَكَس آخرون فقرّبوا البطلان؛ باعتبار ان مآل الأمر إلى الإكراه وعلّة العلّة، قال المحقق النائيني: (الصورة الخامسة: ما إذا كان الباعثان طوليين كما إذا أُكره على الطلاق وصار الإكراه عِلّة لتحقق باعث آخر للمكره في ايجاد الطلاق فأراد الطلاق بذاك الداعي المنبعث عن الإكراه، وهذا هو مورد كلام العلامة (قدس سره) وهل الحكم فيها هو الصحة كما قرّبه العلامة (قدس سره) أو الفساد (وجهان) من أن إرادة المكرَه للطلاق حدثت عن باعث غير الإكراه ولو كان باعثه الإكراه فيكون الطلاق واقعاً عن الرضا، وبعبارة أخرى: تكون علة الأولى هو إرادة ايقاعه بالمعنى الاسم المصدري، ومن أن الإكراه دخيل في صدوره لأجل كونه علّة لتحقق الباعث عليه ولو لم يكن هو بنفسه باعثاً قريباً، وبعبارة أخرى: تكون العلّة منتهية إلى الإكراه)([1]).
وحينئذٍ: فإما أن يقال: أن الفريقين([2]) اجتمعا على تحقق الإكراه مع تحقق الرضا، طولياً، فهو المطلوب من تحقق إكراه مع طيب نفس، مورداً لا مفهوماً إذ لم نقل ان مفهوم الإكراه قد سلب عنه ركنه (كما ادعاه الشيخ ولا زلنا نناقشه) بل قلنا انهما اجتمعا في موردٍ، وهذا الأخير هو المقوّم للنسبة وكونها بنحو العموم من وجه، وليس الاتحاد المفهومي.
نعم، يمكن أن يقول فقيه بإفناء أحدهما للآخر وان الرضا الطولي مندكّ في الإكراه، فلا رضا، أو العكس: الإكراه كالعدم مع الرضا المتولد عنه فلا إكراه حينئذٍ، إلا انه يبقى كل منهما رأياً له مخالفون كثّر، فيجب إبقاء كلام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على ظاهره بل نصه من (رفع ما استكرهوا عليه) فيكون محتملاً لهذا القول أو ذاك أو غيرهما، فيستظهر كل فقيه منه ما يستظهره، عكس ما لو فسر كلامه بانه يعني (ما لا طيب أنفس لهم به) فانه يعني تحكيم أحد الآراء على كلام المعصوم (عليه السلام) وإغلاق باب الاجتهاد الذي فتحته عبارة ((مَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)) باختيار أحد المباني وتفسير كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) به حصراً، مع ان كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) واضح وعرفي وارتكازي، فلا يصح تفسيره بغيره بوجه.
الإكراه كجزء العلّة
ومنها: ما لو كان الإكراه جزء العلة للانبعاث وكان الرضا جزء العلّة الآخر، فقد يقال هو مكره وهو راضٍ، وعليه فقد اجتمعا، وقد يقال: لا هو مكره ولا هو راض وعليه: لا يصلح شاهداً، وعلى كلا الرأيين فان عبارته (صلى الله عليه وآله وسلم): ((وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعُ خِصَالٍ... وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)) كبرى يمكن أن يستند إليها الفريق الأول، ولعلها لهذا أوردت بل أريدت، عكس ما فسرها به الشيخ.
الإكراه إذا كان علة تامة على البدل مع الرضا
ومنها: ما لو كان الإكراه لو انفرد، علّة تامة، والرضا لو انفرد علّة تامة، لكنهما حيث اجتمعا وحيث لا يمكن توارد علتين تامتين على معلول واحد صار كل منهما جزء العلة، إلا أن فرقه عن السابق ان كلّا منهما علّة تامة لولا المزاحم، والظاهر صدق مكره وصدق طيّب النفس على هذا الشخص، معاً كما سبق بيانه مفصلاً، قال المحقق النائيني عن الصورتين: (الصورة الثالثة: ان يكره على الطلاق وكان للمكرَه باعث آخر لإرادته وراء الإكراه فأراد الطلاق بالباعثين معاً أعني إرادة المكره مع وعيدٍ، وذاك الأمر الأخر الذي كان باعثاً له، وهذان الباعثان يمكن تحققهما على نحوين (الأول) أن يكون كل واحد في حد نفسه منفرداً عن الأخير علّة تامة مستقلة كافية في تحقق إرادة المكره (الثاني) أن لا يكون شيئا منهما في حد نفسه كك بل بانضمام أحدهما إلى الأخر يحصل الباعث، فهل الحكم في هذين القسمين معاً هو بطلان الطلاق لكون إرادته ناشئة عن إرادة المكرِه ولو مع انضمام باعث آخر؟ أو صحته لكون إرادته ناشئة عن سبب آخر ولو مع انضمام إرادة المكرِه؟ أو يفصل بين القسمين فيقال في القسم الأول أعني ما كان كل واحد منهما منفرداً علّة تامة مستقلة بالبطلان إما لجواز توارد العلتين المستقلتين على معلول واحداً في نظائر المقام وإن كان لا يعقل في التكوينيات وإما لكفاية كون الإكراه علّة تامة شاناً ولو لم يكن مستقلاً في التأثير بالفعل لو قلنا بعدم جواز توارد العلتين المستقلتين حتى في امثال المقام ويقال في القسم الثاني بالصحة من جهة عدم استناد إرادة المكرَه مستقلاً الى إرادة المكره لا فعلاً ولا شأناً، وجوه واحتمالات)([3]) وقد سبق منّا تفصيل عن هذه الصور الثلاثة كما نقلنا كلام المحقق اليزدي (قدس سره) في حاشيته بما يزيد بفوائد على ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) فراجع.
وجوه تعبيره (صلى الله عليه وآله وسلم) بـ((مَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)) دون (ما لا طيب نفس لهم به)
ز- ثم ان الوجه في تعبيره (صلى الله عليه وآله وسلم) بـ((وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعُ خِصَالٍ... وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)) دون (ما لا طيب نفس لهم به) الذي فسّره الشيخ به؛ إذ رأى ان ما عدا هذا الركن (عدم طيب النفس) من أركان الاستكراه كالحجر في جنب الإنسان وانه لا بد لذلك من تفسيره به، يكشف لنا سبباً آخر عن عدم صحة تفسيره (قدس سره)([4]).
لأن النسبة من وجه
الوجه الأول: أن النسبة بينهما هي (العموم من وجه) وقد سبق (فلا يعد جواباً جديداً).
لتضمنه الدليل الإثباتي مع الواقع الثبوتي
الوجه الثاني: انه (صلى الله عليه وآله وسلم) عبّر بـ((وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعُ خِصَالٍ... وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)) لأن فيه فائدة كبرى لا توجد في التعبير بـ(رفع ما لا طيب نفس لهم به) وهي: ان ((مَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)) يتعاضد فيه الدليل الإثباتي مع الواقع الثبوتي أي انه مقياس ثبوتي مضمّن في الدليل الإثباتي عليه، عكس (ما لا طيب نفس لهم به) فانه مقياس ثبوتي غير إثباتي، بل انه قد يفيد إثباتاً عكس مقصود الشارع. توضيحه:
إنّه لو جُعِل المقياس (ما لا طيب نفس له به) فانه يكون حينئذٍ مما لا يعرف إلا من قبله، وما لا يعرف إلا من قبله، قوله فيه مصدّق (كدعواها العدة، أو الحيض.. إلخ) فتأمل([5]) وبذلك ينفتح الباب لاختلال نظام سوق المسلمين بل للهرج والمرج في المعاملات إذ أن كلّ متعامل يمكنه حينئذٍ بعد انتهاء المعاملة أن يدعي انه لم يكن طيب النفس بها، فيجب تصديقه من دون شهود لأنه مما لا يعرف إلا من قبله، وذلك عكس ما لو جعل المقياس ((مَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)) كما جعله (صلى الله عليه وآله وسلم) فان الاستكراه أمر ظاهر يمكن أن يستشهد عليه، فلو ادعى انه كان مكرهاً فان عليه أن يأتي بشهود وإلا حلف المنكر.
تنبيه: سماع الدعوى أعم من قبولها وتصديقها كما بيّن في كتاب القضاء، ويعني ان يفتح له الباب للمرافعة ثم الاستدلال، وأما عدم سماعها فيعني ان لا يفتح له الباب من دون بيّنة حتى للترافع إلى القضاء وجلب خصمه إلى القاضي.
والحاصل: انه لو جعل المقياس (الإكراه) فلا تقبل دعواه كونه مكرهاً إلا ببيّنة، وبذلك يستقر وضع السوق عكس ما لو جعل (طيب النفس) فانه حيث كان لا يعرف إلا من قبله وجب قبولها بدون شهود، بناء على تمامية الكبرى.
الإكراه يرفع كفارة الإفطار، دون مجرد اللاطيب
الوجه الثالث: ان قوله ((مَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)) أعم من اللارضا من جهة أخرى (وهذه مادة افتراق رابعة غير ما سبق) فان المكره على الإفطار مثلاً لا كفارة عليه، ببركة مثل ((وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعُ خِصَالٍ... وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)) أما لو قال (رفع ما لا طيب نفس له به) فيلزم منه انه لو أفطر وكان غير طيّب النفس به من دون إكراه كما لو أفطر حياءً، أن لا تكون عليه الكفارة مع بداهة أن عليه الكفارة، فتدبر.
في رفع الإكراه مِنّةٌ دون رفع مطلق ما لا طيب له به
الوجه الرابع: أن في رفع الإكراه منّة، دون رفع مطلق ما لا طيب نفس له به، وذلك كما لو باعه بيته مداراة أو حياءً، فانه وإن لم يكن طيب النفس به إلا أن المعاملة صحيحة إذ ليس مكرهاً، وأما لو كان الوارد (رفع ما لا طيب نفس له به) أو انه الذي أريد من حديث الرفع، للزم بطلانها.
لا يقال: الطلاق مداراةً، باطل؟.
إذ يقال: ذلك للنص الخاص.
* * *
- لخّص إشكالاتنا الست على الشيخ (قدس سره).
- ابحث عن مواد افتراق أخرى (أي من يكون مكرهاً لكنه طيب النفس).
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الصادق (عليه السلام): ((إِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَيُبْغِضُ، وَلَا يُعْطِي الْإِيمَانَ إِلَّا أَهْلَ صَفْوَتِهِ مِنْ خَلْقِهِ)) (تحف العقول: ص374)
-------------------------------------
([4]) (في غير السبب الأول الآتي فانه نفس الوجه السادس الماضي).
([5]) للنقاش في الكبرى، وإن صحت القاعدة في المثالين. فتأمل
قال الإمام الصادق (عليه السلام): ((إِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَيُبْغِضُ، وَلَا يُعْطِي الْإِيمَانَ إِلَّا أَهْلَ صَفْوَتِهِ مِنْ خَلْقِهِ)) (تحف العقول: ص374)