بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
3- البذل من المتحاكمين أو أحدهما أو أجنبي أو ...
المجموعة الثالثة: هي التي تتعلق بـ(الباذل):
1- فقد يكون البذل من (المتحاكمين) معاً:
وقد سبق انه أبعد عن صدق الرشوة؛ إذ الرشوة أقرب للصدق فيما يستدعي الميل لأحد المترافعين كي يحكم له مطلقاً أو يحكم له بالباطل أو حتى بالحق، لا فيما لو بذلا معاً.
نعم قد يقال: ان هناك قدراً متيقناً لصدق الرشوة وذلك في صورة انحصار الأمر (كالقضاء) فيه، وحاجتهما إليه، واستغنائه، فان ما يبذل له منهما مقابل الحكم، رشوة دون ما يبذل بإزاء أصل التصدي وبذله الجهد والوقت فتأمل.
وقد يقال بظهور بذل المتحاكمين في كونه مقابل التصدي أو مقابل الحكم بالواقع أي بالحق، فيتْبَعُ ذلك تحقيقَ جواز ذينك وعدمه نظراً لصدق الرشوة وعدمه أو لكونه أكلاً للمال بالباطل وعدمه، ولا مدخلية لكون الباذل أحدهما[1] أو كلاهما، ولعله الأوجه، ولعل كلام الوالد الآنف سابقاً محمول عليه أي كان نظره إلى ذلك فليتأمل.
2- وقد يكون البذل من (أحدهما)، وهي الصورة المعهودة في المباحث وقد اسهبنا البحث عنها سابقاً فليلاحظ.
3- وقد يكون البذل من (أجنبي)، وهنا قد يفرّق بين ذي المصلحة – لقرابة أو غيرها - فهي رشوة من قبله، وغير ذي المصلحة فلا.
والظاهر ان ذلك ليس بفارق في الصدق العرفي، على انه لا يخلو فعل من مصلحة – وغاية – نوعية أو شخصية ظاهرة أو خفية متوهمة أو حقيقية.
4- وقد يكون البذل من (أهل البلد)، فقد يقال بعدم صدق الرشوة عرفاً عليه، نعم قد يصدق عليه انه أكل مال بالباطل في بعض الصور، لكن الظاهر التفصيل السابق: من كونه على المنصب والتصدي أو على الحق لأحدهما مطلقاً أو على الحكم بالباطل أو على الحكم بالحق، وأجنبية خصوصية الباذل[2] كماً وكيفاً عن صدق عنوان الرشوة وعدمه.
5- وقد يكون (البذل) من (بيت المال) فكسابقه.
4- البذل على التصدي أو غيره
الصور الرابعة: ما يتعلق بـ(البذل):
1- فقد يكون البذل على:
التصدي للقضاء أو العمل (كالولاية أو نظائرها)، والظاهر ان أحد وجوه الإشكال في هذه الصورة وبعض الصور اللاحقة بل والماضية ينشأ من دعوى حرمة أخذ الأجرة على الواجبات والاستناد إلى صحيحة المحمدين الثلاثة، فقد استند في الجواهر لتحريم أخذ العوض على القضاء مطلقاً – عينياً كان أو كفائياً، مع الحاجة وعدمها، من المتحاكمين أو أحدهما أو أجنبي أو أهل البلد أو بيت المال إلى أنه من مناصب السلطان، وقد مضى الجواب عنه، وإلى صحيحة المحمدين الثلاثة، سئل أبو عبد الله عليه السلام عن قاضٍ بين فريقين يأخذ من السلطان على القضاء الرزق قال ذلك السحت)[3].
ولكن قد يقال: ان الظاهر ان المراد من السلطان هو السلطان الجائر وان (أل) هي للعهد الخارجي؛ نظراً لأنه كان هو المبتلى به، ولكثرة استعمال لفظة السلطان في الجائر[4] وندرة استعماله في العادل، ولأنهم كانوا يستعملون (الإمام) أو (الفقيه) للعادل، لا السلطان، ولاستبعاد كون سؤاله – أو شموله – للقاضي الذي يأخذ من إمام الحق إذ إقرار الإمام وإعطاؤه دليل الحل عرفاً ظاهراً فكيف يسأله عنه؟ وهذه الوجوه وإن امكنت الخدشة في بعضها إلا ان مجموعها يورث ظاهراً الاطمئنان بان السؤال عن السلطان الجائر، ولهذا قال الشيخ في المكاسب (وفيه: أن ظاهر الرواية كون القاضي منصوباً من قبل السلطان، الظاهر – بل الصريح – في سلطان الجور...)
وعلى أقل التقادير فانه لا يعلم الإطلاق لعدم إحراز كونه (عليه السلام) في مقام البيان من هذه الجهة أو نظراً لوجود القرينة المقامية الحافة أو محتملها. فتأمل
وإذا اتضح عدم الإشكال في أخذ المال على نفس التصدي لمنصب القضاء من جهة عدم الإشكال في أخذ الأجرة على الواجبات ولا في أخذ الأجرة على خصوص القضاء، يتضح عدم الإشكال من جهة دعوى كونه رشوة، إذ الظاهر ان العرف لا يرى ذلك رشوة، بل يرى القضاء والولاية والتعليم وغيرها من العناوين الثمانية الماضية، أعمالاً يستحق القائم بها العوض، سواءاً كان بعنوان الأجرة أم بعنوان الهدية أم غيرهما، وسواء كان بمبلغ محدد معين شهري أم لا، وسواءً أكان القاضي وغيره محتاجاً أم لا وسواءً تعين عليه القضاء أم لا.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
[1] - إلا من حيث ظهور بذل أحدهما في كونه يريد الحكم له مطلقاً أو بالباطل، أما لو كان البذل ليتصدى أو ليحكم بالحق فلا فرق بين كون الباذل أحدهما أو كلاهما.
[2] - في الأقسام الثلاثة الآنفة وهذا القسم والقسم اللاحق.
[3] - الجواهر ج 22، ص122.
[4] - لاحظ مثلاً ما رواه في الكافي ج1 ص46، عن ابن عبد الله (عليه السلام) قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل: يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فأحذروهم على دينكم.
وما رواه ص67 عن عمر بن حنظلة: قال سألت أبا عبد الله عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً، وإن كان حقاً ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر الله أن يكفر به قال الله تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ).
وما رواه ج2، ص275: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: خمس إن ادركتموهن فتعوذوا بالله منهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوها إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان، ولم يمنعوا الزكاة إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوهم وأخذوا بعض ما في أيديهم ولم يحكموا بغير ما أنزل الله عز وجل إلا جعل الله عز وجل بأسهم بينهم).
وما رواه ج2، ص519 (وكنّ له حرزا في يومه من السلطان والشيطان)
وما رواه ج2، ص531: (قال أبو الحسن عليه السلام إذا صليت المغرب فلا تبسط رجلك ولا تكلم أحداً حتى تقول مائة مرة: "بسم الله الرحمن الرحيم لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" ومائة مرة في الغداة فمن قالها دفع الله عنه مائة نوع من أنواع البلاء أدنى نوع منها البرص والجذام والشيطان والسلطان).
ولاحظ روايات باب (فيما يأخذ السلطان من الخراج) وباب (عمل السلطان وجوائزهم) وباب (شرط من اذن له في أعمالهم) وباب (قبالة أرض أهل الذمة وجزية رؤوسهم ومن يتقبل الأرض من السلطان فيقبلها من غيره).
والظاهر أن استعمال السلطان في الإمام العادل نادر أو مصطحب عادة مع قرينة بل قد تفيد الرواية التالية إعراض الإمام عن استعمال لفظ السلطان في الإمام واستعماله (الإمام) فقط ففي الكافي الشريف: ج7، ص252: (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن العلاء، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: رجل جنى علي أعفو عنه أو أرفعه إلى السلطان؟ قال: هو حقك إن عفوت عنه فحسن وإن رفعته إلى الإمام فإنما طلبت حقك وكيف لك بالإمام)، نعم يطلق السلطان فيما يرتبط بالله تعالى أيضاً كـ(اللهم ربنا لك الحمد أنت المتوحد بالقدرة والسلطان المتين)، الكافي: ج2، ص573.