بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(123)
وتطبيق التفصيل بين استصحاب موضوع الخاص واستصحاب حكمه، على المقام:
استصحاب حكم الخاص في القصاص وحق المارة
أ- أما استصحاب حكم الخاص مع وجود العام فكقوله تعالى:
(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ) مع
(وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ)([1]) فانه لو أسقط حقه في القصاص فشك في سقوطه به أو بقائه فانه يستصحب جواز القصاص وهو حكم الخاص وأما موضوعه فلا شك فيه إذ الموضوع هو
(مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً) والمحمول (يجوز لوليه الاقتصاص من قاتله) والموضوع غير متغير ولا شك في عدم تغيره بإسقاط الحق بالقصاص ولا غيره، أبداً.
وكذا قوله: "لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْه"
([2]) مع مخصصه وهو أمثال "لَا بَأْسَ بِالرَّجُلِ يَمُرُّ عَلَى الثَّمَرَةِ وَ يَأْكُلُ مِنْهَا وَ لَا يُفْسِد
([3]) فانه بعد إسقاطه حقه في الأكل يشك في استمرار حكم الجواز أما الموضوع وهو (المارّ بالثمرة) فلا تغير فيه ولا شك وإنما يشك فيه لو جلس ساعة مثلاً فهل له أن يقتطف حينئذٍ للشك في أنه لا يزال يصدق عليه مثلاً (انه مار بالثمرة) حتى الآن، فهذا من الشك في الموضوع وهو خارج عن مورد البحث.
لا يقال: التمثيل بآية القتل والقصاص، في غير محله لأنه من المخصص بالمتصل الذي سبق أن إجمال الخاص يسري إليه ولا يكون العام مرجعاً إذ تمام الآية هكذا (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً).
إذ يقال: كلا، وذلك لوجود آيات أخرى عامة منفصلة تدل على حرمة قتل الغير مطلق ك
ـ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا)([4]) فقد انعقد عموم العام بها، ولا يضر اتصال المخصص ببعض العمومات بالتمسك بالعمومات الأخرى المنفصلة؛ إذ قد انعقد عمومها واستقر، نعم لو أريد التمسك بنفس العام المقترن بالمخصص المتصل لما صح.
استصحاب موضوع الخاص في (لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ)
ب- وأما استصحاب موضوعه فكما في قوله تعالى:
(لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ)([5]) مع أدلة الخيار كخيار المجلس وغيره وأدلة الشفعة وغيرها.
وتوضيحه: أن المستثنى من عموم (لا تأكلوا) هو التجارة المصرح بها في هذه الآية وأمور أخرى أيضاً مذكورة في آيات أو روايات أخرى كالإجارة والهبة والولاية فانها ليست تجارة ومع ذلك ليست أكلاً لمال الغير بالباطل، ومنها أيضاً الفسخ في الخيار فانه ليس مصداق التجارة
([6]) لكنه مستثنى بالنصوص الخاصة.
وعلى أية حال فانه لو باعه داره مثلاً ثم فسخ في المجلس صح بلا كلام، لكنه لو أسقط حقه في أخذه بخيار المجلس ثم ندم وهو في المجلس فهل يسقط أو له الأخذ به؟ فلو شككنا في ذلك جرى استصحاب موضوع الخاص، من دون أن تصل النوبة إلى استصحاب حكمه إلا على وجه آت؛ إذ انه ببيعه له انتقلت الدار للمشتري فصارت ماله ثم لو أسقط حقه ثم أخذ به يشك في انه لا يزال مال المشتري (فيكون الأخذ بالخيار المسقَط أكلاً للمال بالباطل) أو لا بل عاد للبائع فلا يكون مال المشتري كي يشمله عموم (لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) فاستصحاب الموضوع يقتضي بقاء الدار مالاً للمشتري فيتقدم على عموم (لا تأكلوا... ) بالورود كما سبق، أما لو كان الشك في بقاء جواز استرجاع المال لا في الموضوع لما أمكن الاستصحاب لما سبق من تقدم العام على استصحاب الخاص حينئذٍ بالورود.
التفصيل بين القول بالكشف والنقل في الفسخ
اللهم إلا أن يفصّل بين القول بالكشف والقول بالنقل، وهذا نظير الكشف والنقل في الإجازة في بيع الفضولي وليس به فلا تغفل إذ الكلام هنا في أن الفسخ بخيار المجلس مثلاً في بيع الأصيل أو وكيله مثلاً هل هو ناقل أو كاشف.
والمراد بالكشف: انه (أي الفسخ) يكشف عن أن المال لم ينتقل من البائع إلى المشتري أصلاً، إذ انتقاله كان مراعى بشرط متأخر هو عدم الفسخ فإذا فسخ كشف عن انه كان لا يزال باقياً في ملك البائع، وتظهر الثمرة في أن النماءات المتخللة تكون له – للبائع -.
والمراد بالنقل: أن الدار نقلت بعد الفسخ من جديد إلى ملك البائع بعد أن كانت في الفترة المتخللة (بين البيع والفسخ) ملك المشتري، والثمرة تظهر أيضاً في أن النماءات المتخللة تكون حينئذٍ ملك المشتري عكس الصورة السابقة.
وعلى هذا التفصيل الصناعي
([7]) يبتني تحقق موضوع (مال الغير) (أي المشتري) وعدمه، فإن قلنا بالنقل كانت الدار في الفترة المتخللة ماله فأمكن استصحاب الموضوع فيشمله عموم (لا تأكلوا... ) إذ الاستصحاب أثبت انه مال للغير فقد حقق الاستصحاب موضوع الآية الكريمة.
وإن قلنا بالكشف لم تكن الدار ماله أبداً فلا يمكن استصحاب كونه مالاً له – أي للمشتري – بل غاية الأمر استصحاب جواز تصرفه – أي المشتري – فيه ولا يجري هذا الاستصحاب مع استصحاب كونه مال البائع إذ أنه كان مال البائع ولا يعلم أنه انتقل للمشتري للشك في أن الفسخ بعد الإسقاط باطل فهو مال المشتري أو صحيح فهو مال البائع فالجاري هو استصحاب كونه مال البائع فلا يشمله (لا تأكلوا... ) إذ ليست - على هذا - مال الغير وأما مع قطع النظر عن هذا الاستصحاب الموضوعي فعموم (لا تأكلوا) متقدم على الاستصحاب الحكمي. فتأمل
وأما لو شك في النقل أو الكشف فلا يصح التمسك بعموم (لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ) لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.. وصح التمسك باستصحاب كون الدار مالاً للبائع. فتدبر جداً..
فهكذا ينبغي أن يفصل وأن تطرح المسألة بصورها المختلفة.
ومنه يظهر وجه النظر، بل الأنظار، في قوله: (وكذا الحال فيما إذا شككنا في سقوط الخيار بإسقاطه بعد فرض عدم الاطلاق في دليله وعدم جريان الاستصحاب فيرجع إلى عموم قوله:
(لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاض) فإنّه بعد ما أسقط حقّه لا يمكنه أخذ المبيع من المشتري لأنّه ماله، والفسخ بعد الاسقاط لم يدلّ دليل على صحّته وليس بتجارة عن تراض، فيكون أخذه من أكل المال بالباطل ونتيجته أنّه يسقط بالإسقاط)
([8]) فتدبر في قوله (لأنه ماله)
([9]) وفي وجوه إجراء الاستصحاب التي ذكرناها ولاحظ ما قد يورد عليه من الإشكال على ضوء ذلك وتدبر في البحث بأجمعه. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
====================
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "الْعَالِمُ بَيْنَ الْجُهَّالِ كَالْحَيِّ بَيْنَ الْأَمْوَاتِ وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى حِيتَانُ الْبَحْرِ وَهَوَامُّ الْأَرْضِ وَسِبَاعُ الْبَرِّ وَأَنْعَامُهُ فَاطْلُبُوا الْعِلْمَ فَإِنَّهُ السَّبَبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِم"
الأمالي (للمفيد): ص29، المجلس الرابع.
.............................................