بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
كان البحث حول الكذب في الاصلاح وانه هل هو جائز مطلقا او في الجملة؟ وقد بدانا بالآيات الشريفة حيث استدللنا بأية اولى ثم شُفِعت بآية ثانية , ثم اضفنا اية ثالثة وهي قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)([1]) , ومضى بعض الحديث عن ذلك .
مسالتان مهمتان :
وتوجد مسالتان مهمتان على ضوء الآية الشريفة :
المسألة الاولى : العلاقة بين المصلِح والمصلَح بينهم
اما المسالة الاولى فهي ان المحتملات في الاية، بلحاظ العلاقة بين المصلِح والمصلح بينهم هي اربعة ([2]) :
الاول : الجميع للجميع
ثانياً : المجموع للمجموع
ثالثاً : الجميع للمجموع
رابعاً : المجموع للجميع
توضيح ذلك :
ان توجيه الخطاب لكل فرد فرد , أي للجميع هو امر واضح وبيِّن ولكن الهيئة الاجتماعية لها وجود ايضا اما اعتباري او حقيقي , كما هو الحال في الغابة فان كل شجرة لها تشخُّص ووجود وحالة واثر ولكن اجتماع هذه الاشجار في منطقة معينة هو الذي يكوِّن ويوجد هيئة جديدة وعلةً صورية بالمعنى الاعم , وهذا الوجود له اثر خارجي ومنه تنقية هواء المنطقة وتماسك التربة وكونها سداً امام زحف الصحراء وايضاً: اضفاء الجو الجميل وايجاد الانشراح في النفس كما ستكون هذه الغابة مأوى للكثير من الحيوانات , واما نفس الاشجار فانها لو كانت بنحو افرادى متباعدة ومتفرقة عن بعضها البعض فإنها وان كانت بنفس تعداد اشجار الغابة لكنها لا تحدث الاثار المذكورة للهيئة المجموعية
والحاصل : ان من المسلمات ان الهيئة والصورة المجموعية لها حظ من الوجود ونصيب في الاثر([3]).
صغرى البحث :
وفي صغرى بحثنا وايتنا الشريفة ( وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ) هذه الاحتمالات الاربعة موجودة ايضا , وهي :
1) ان يراد بالخطاب الجميع للجميع , أي : ان كل واحد مع قطع النظر عن تعاضده وتآزره واجتماع الاخرين معه وكونهم في تيار او هيئة او جماعة او عشيرة، كل واحد مسؤول عن اصلاح آحاد المسلمين ([4]).
2) ان يراد المجموع للمجموع أي مجموع المؤمنين ( و يلحق بهم: الهيئة او العشيرة او غيرها ) هم من عليهم قد صب وجوب الاصلاح ووظيفتهم هي اصلاح ما فسد من المجموع ايضاً .
3) ان يراد الجميع للمجموع فكل واحد سيكون محلا لتوجه الامر والوجوب له وهو مسؤول عن مجموع المسلمين وعن مجاميعهم ولعل الى هذه الصورة يرمز قوله( صلى الله عليه وآله ) (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)([5])
4) ان يراد المجموع للجميع وذلك بان يقال بان المجموع والهيئة هي المسؤولة عن اصلاح الجميع على نحو كل فرد فرد ([6])
ولكن ما هو المراد في الآية المباركة من هذه الاحتمالات الاربعة ؟
الظاهر ان الآية تشمل كل هذه المعاني والاحتمالات الاربعة؛ لأنها مصاديق لـ ( اصلحوا ) , وبتعبير اخر : انه وبالحمل الشايع الصناعي يصدق الاصلاح على كل هذه المعاني والاحتمالات من دون تعمل او عناية.
والنتيجة هي : جواز الكذب في الاصلاح في كل الصور الاربعة مطلقاً كما هو المستظهر او في الاصلاح الواجب منها وسيأتي بحثه
المسألة الثانية : هل ( اصلحوا ) امر مولوي او ارشادي ؟
وهنا نذكر بإيجاز بحثا صغرويا و كبرويا ,
اما البحث الكبروي : فما هو الضابط في كون الاوامر مولوية او ارشادية ؟
وجوابه : قد حققنا ذلك في محله ([7]) حيث ذكرنا عشرة ملاكات محتملة او مقولة للتفريق بين المولوي والارشادي , وانتهينا الى الرأي المنصور وهو ( ان المولوي هو كل ما صدر من المولى بما هو مولى معمِلا مقام مولويته ) وإلا فإرشادي , ومعه فانه لا فرق على هذا يبين ان يكون الامر المولوي قد ورد في مورد المستقلات العقلية او لا , وهذا - أي الرأي المنصور - هو بخلاف ما ذهب اليه المشهور من التفريق بينهما – أي المولوية والارشادية - بان كل ما ورد في مورد المستقلات العقلية مثل : اعدلوا واحسنوا وردوا الوديعة او اصلحوا ذات البين فهو ارشادي ؛ اذ المولى يرشد الى حكم العقل ولا يُعمِل مقامه([8]) , واما لو لم يكن كذلك فهو مولوي .
وعلى أي تقدير فانه في مورد بحثنا – وهو البحث الصغروي - فانه لو قلنا ان الامر ( اصلحوا) مولوي فهو كما قد بحثناه وبيناه من ان علاقته مع دليل ( لا تكذب ) هي المعارضة او المزاحمة وقد مضى .
ولكن ان قلنا ان اصلحوا ولا تكذب هما امران ارشاديان فانه في مادة الاجتماع سوف يتزاحمان فيقدم الاهم منهما على الاخر بحسب الموارد والمصاديق ، ولا مجال لتوهم التعارض على هذا .
الاستدلال بالروايات على جواز الكذب في الاصلاح :
وتوجد في المقام عدة روايات دالة على جواز الكذب في الاصلاح , منها روايات صحاح , ومنها الحسان ,والموثقات , وسنقتصر على البعض منها ونبدأ بروايتين صحيحتين:
الصحيحة الاولى :رواية الصدوق في ثواب الاعمال
وهذه الرواية قد ذكرها الشيخ الصدوق في ثواب الاعمال , اما رجالها فـ( عن محمد بن موسى بن المتوكل ) , وهذا الراوي قد ادعى السيد ابن طاووس في فلاح السائل الاتفاق والاجتماع على وثاقته وكذلك الشيخ الصدوق قد اكثر الرواية عنه, ( عن عبد الله بن جعفر الحميري ), وهذا الراوي هو شيخ القميين ووجههم وقد وثقه النجاشي والطوسي، (عن محمد بن الحسن بن ابي الخطاب ) وهذا ايضا ثقة قال عنه النجاشي: عظيم القدر كثير الرواية ثقة عين حسن التصانيف مسكون الى روايته, ثم ( عن الحسن بن محبوب ) وهو من اصحاب الاجماع ثقة دون شك , ثم ( عن ابي حمزة الثمالي ) وهو ثابت بن دينار وهذا ثقة بلا كلام,
وعليه : فهذه الرواية من الصحاح ولا كلام في اعتبارها ,
عن ابي عبد الله( عليه السلام ) قال:( كان امير المؤمنين( عليه السلام ) يقول لأن اصلح بين اثنين احب الي من ان اتصدق بدينارين)([9]) ويوجد في هذه الرواية شاهد على ثبوت الملاك في الاصلاح وهو كلمة (احب) فلا ينسجم مع باب التعارض ,بل مع باب التزاحم حينئذٍ لان ذلك يدل - وبالبرهان الاني - على وجود مصلحة كامنة في المتعلق وفي قباله الكذب فانه مبغوض فله ملاك ،وليسا متكاذبين واحدهما ذو ملاك فقط، فيتزاحمان في مورد الاجتماع , كما سنفصله لاحقاً باذن الله تعالى
ثم يقول الامام الصادق( عليه السلام ) : (قال رسول الله( صلى الله عليه وآله ) اصلاح ذات البين افضل من عامة الصلاة والصيام ) وهذا دليل اخر على المحبوبية الذاتية وعلى وجود الملاك في الاصلاح ([10]),
وللكلام تتمة ..
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
([1]) - سورة الانفال : اية 1
([2]) - وهذا البحث هو بحث اساسي هام لكنه غير مطروح عادة
([3]) - وهذه هي احدى مراتب العلة الصورية ذلك انها اي العلة الصورية قد تكون قائمة بالواحد الشخصي وقد تكون قائمة بالمجموع . فتأمل
([4]) - بنحو الوجوب الكفائي
([5]) – بحار الانوار ج72 ص38
([6]) - ويوجد احتمال خامس وهو المستظهر وهو شمول الآية لكل هذه الاحتمالات والمصاديق فانتظر وقد فصلنا نظير هذا في اية (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) - سورة التوبة : اية 71 - في كتابنا الموسوم مؤسسات المجتمع المدني في منظومة الفكر الاسلامي
([7]) - في كتاب الأوامر المولوية والارشادية فراجع
([8]) - او لا يمكنه ان يُعمله ، بدعوى اللغوية او لزوم تحصيل الحاصل او غير ذلك
([9]) - والدينار في ذلك الزمان كان ذا قيمة كبيرة ويعدل ثمن شاة تقريبا
([10]) - وقد علق الشيخ الطوسي في الامالي فقال : ( ان المعنى في ذلك ان يكون المراد صوم التطوع والصلاة ) اي التطوعية اقول وهذا هو ما ناقشناه واجبنا عنه بان المستحب قد يكون ملاكه اقوى من الواجب فراجع ما سبق فيمكن ان يكون المراد افضل من عامة الصلاة الواجبة ، لو لا الاستبعاد. فتأمل